11-2010
04

محاضرة مكتوبة بعنوان: نتائج الوقوف على باب الرحمن

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله الذي ساقتنا عنايتُه للوقوفِ على بابه، واللِّياذِ بأعتابه، وهي مننُه التي سبَقت بها السوابق لمَن شاء الإله الخالق جل جلاله، وانبسطَت آثارُها فينا بخيرِ الخلائق، اللسان الناطق بالحق، والمحبوب للحق، والمُرسَل بالحق، والهادي إلى الحق، صلوات ربي وسلامه عليه، نشهد أنه حق، وأن قولَه حق، وأن هديَه حق، وأن القرآنَ الذي أُنزِل عليه حق، وأن دينَه هو الحق، اللهم حقِّقنا بمحبتِه، وأدخِلنا في دائرته، واحشُرنا في زمرته.

 وبه علَّمنا ربُّنا الرحمنُ الوقوفَ على بابه سبحانه وتعالى، فتعلَّمنا بتعليمِ محمدٍ صلى الله عليه وسلم أن نقفَ على باب الوهاب، الذي يُعطِي بغيرِ حساب، رب الأرباب، ومسبِّب الأسباب؛ وقد سبقَت سوابقُه لمن يبسطُ لهم البساط، بواسطةِ من يمدُّ به السماط، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله، فيجمعُهم على هذا الباب، ويهبُهم سبحانه وتعالى مِن عطائه ما هو أهلُه بغيرِ حساب، حتى إذا قام الناسُ ليوم الحساب كانوا في زُمرة الأحباب، وكانوا في حضرةِ رحمةِ الرحيمِ الوهاب، جل جلاله وتعالى في علاه، وصار مآبُهم خيرَ مآب، ونعم ذلك المآل، ونحن وجميع المكلفين قادمون على ذاك المآل، ولكن تختلف بنا الأحوال في المآل كله، مِن عندِ الغرغرة فما بعدها، تبدأ أخبار ونتائج المحصول، من الوقوف على بابِ الإلهِ البَرِّ الوَصول، من عند الغرغرة، حقائقُ تبدو لنتائج الوقوف على باب الله تعالى، من هنا ثم من عند التجهيز لمن يُجهَّز، والقبر لمن يُقبَر والبقاء في البرزخ إلى يوم يُبعثون، ثم عند البعث والمحشر.. نتائج بعد نتائج إلى أن يتم الاستقرار، في الجنة أو في النار. اللهم اجعلنا من أهل جنتك.

 وهذه حقائق المآب، وحقائق المصير لجميع المكلفين، مَن آمن ومَن لم يؤمن، مَن صدَّق ومَن لم يصدِّق، من استعد ومن لم يستعد، مَن أقبل ومَن أدبر، المآب للكل، قال سبحانه وتعالى: ( أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لا تُرْجَعُونَ) وقال تعالى: ( كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ ) وقال تعالى: ( إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ).

وهناك يُدرك أن حقيقةَ الفوز هي تلبيةُ النِّداء لنبيِّ الهدى، اللهم اجعلنا ممَّن لبى نداءَه.. تلبيةُ هذا النداء بحسنِ الاستجابةِ لما دعاك إليه، ودلَّك عليه، حتى تُمسي وتُصبح ولك قلبٌ يتشوَّق إلى سُنَنِه، يتشوقُ إلى العمل بطريقتِه وهديِه وإرشادِه صلوات ربي وسلامه عليه، تحب الدعوات التي علَّمك إياها، تحب الأوصاف التي حبَّبك إليها، والتي دعاك إليها، ودلَّك عليها، وهي المحبوبةِ للرب جل جلاله وتعالى في علاه.

 والناس يبيتونَ على ظهر الأرض، الأحياء الموجودون المكلفون منهم، وأحوالهم على اختلاف أوصافِهم، فيما يحب الله سبحانه وتعالى، وبعض البيوت تتوفر فيها الصفاتُ المحبوبةُ للرب، فهي بيوتٌ منظورة، وهي بيوتٌ مرعيَّة، وبعض البيوت لا تجد فيها أثراً مِن آثارِ مُشابَهةِ مَن لا يحب الله، ولا شي من آثار الصفات التي لا يحبها الله، لا في أقوال أهلِ ذاك الدار، ولا في أفعالهم، ولا في لباسِهم، فنِعم البيوت هذه.. نسأل اللهَ أن يكثِّرها فينا.

        وإلا فأكثرُ بيوتنا حلَّ فيها ما قال صاحبُ الرحمة، والمنبِّه لنا والموجِّه لنا بأمرِ ربِّنا صلى الله وسلَّم وبارَك عليه وعلى آله: إني أرى الفتنَ تتخلَّلُ بيوتَكم كمواقعِ القَطر. قد تخلَّلت أكثرَ البيوت، ودخلت أكثرَ البيوت، فمَن قدر على أن ينزِّه بيتَه ويصفِّيه عن هذه الفِتن وآثارها فذاك أولى به، وأليقُ له، قال سبحانه وتعالى: ( أَوْلَى لَهُمْ طَاعَةٌ وَقَوْلٌ مَّعْرُوفٌ ) أولى لنا وأولى بنا إتباع واهتداء وتنزيه البيوت مِن مشابهةِ ما لا يحب الله، ومِن متابعة مَن لا يحب الله، لا ترضَ لنفسك ولا لزوجتك ولا لابنِك ولا لبنتك أن يكون في وصفِ أو في حالِ أو في هيئةِ تابعٍ لمَن لا يحب الله، وإن أردتَ المحبة فكلُّها هنا ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي ) أما ترى! كلام صريح واضح، جود من الفاتح، من أجل أن يسهُل لك العبور، وتقرُب لك الطريق، كلام صريح أعطاك إياه ربُّك، ما جاب لنا ألغازاً في القرآن لا ندري كيف هي، جاب لنا دلالة بيِّنة واضحة، ونور مبين ( قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ).

 ونحن نسأل ربَّ العرش أن يجعلنا وإياكم وسامعينا وأحبابنا ممن اتبع رضوانَه، فيهدينا سبلَ السلام، قال تعالى: ( يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنِ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) اللهم اهدِنا سبلَ السلام وأخرِجنا من الظلمات إلى النور، واهدنا إلى الصراط المستقيم، اللهم اهدِنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم اهدنا فيمن هديت.

 نعم الهادي.. إذا هداك دلَّك، ويهديك إلى أين؟ يقول سبحانه وتعالى: ( وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ ) وقال تعالى: ( يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء ) ويهديهم إليه، ينكشف لك مِن نور الألوهية والربوبية ما تتحقق به بحقائق العبودية، ولا أصفى حال مِن حال عبدٍ تحقَّق بعبوديَّته، وشهد ربوبيةَ المولى وكريمِ ألوهيَّته، جل جلاله.

كما قال سيدنا الإمام أبوبكر العدني:

 إذا صفتِ العبودية      وفنيَت كلُّ بشرية

 وصحَّ القصدُ والنية       فحينئذٍ فهنُّونِي

يا أهل العقول: تُنازِل مداركَ الناس أمنياتٌ كثيرة، وكثيرٌ منهم ينازل قلبَه وِجهةُ وهَم بأن يحصِّل شيء في هذا العالم، أو يصل إلى وظيفة معينة أو درجة أو يُذكر باسم أو لقب معين، ومختلف هذه الحظوظ بما فيها مِن أولِّها إلى آخرها، ومِن جملة أواخرِها ما تشرَئبُّ إليه النفوس من السلطة والإمارة وجمعِ الأموال.

 قال سيدنا عمر بن عبد العزيز: لما ذقتُ المُلكَ في الدنيا تاقَت نفسي إلى ما فوقها. كيف صارت مظاهر هذا التَّوق والشوق إلى ما فوق الدنيا وملكها، صارت أنه يستلين الثوبَ الخشن ويقول: للثوب بأربعة دراهم ما أحسنَه لولا ليونة فيه، إن شيء أخشن من هذا يكون أحبَّ إلي وأولى بي، قالوا له: وأنت الذي كنت يُعرض عليك الثوب بأربعمائة درهم وتقول ما أحسنه لولا خشونة فيه، قال: إن لي نفساً ذواقة تواقة، كلما ذاقت شيئاً تاقت إلى ما فوقه، فلم تزل تذوق وتتوق إلى أن ذاقت الخلافة فتاقت إلى ما فوقها، ولم يكن في الدنيا شيء فوقها فتاقت إلى ما عند الله تعالى في الدار الآخرة.. فصار مظهرُه هكذا، وصار مظهرُه قياماً وبكاءً في الليل، وصار مظهرُه زهداً في المتاع الفاني، وهذه ترجمة التَّوق إلى ما فوق، والشوق إلى ما فوق، عليه رضوان الله تبارك وتعالى.

يعيش الناس لهم مثل هذه الأماني والأمنيات، ولكن إذا وعيت فأولوا الألباب يقولون لك: فحينئذٍ فهنوني، ما المقصود بـ فهنُّوني؟ قال:

 إذا صفتِ العبودية    وفنيتِ كلُّ بشريَّة

 كل دواعي البشريات إلى ارتكاب المحرمات أو الشبهات أو الوقوع في القاطعات والحاجبات، إذا فنِيت عنِّي فصارت بشريَّتي نورانيةً خالصة، وهواي تبعاً لما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم، فصار بدني تبع الروح، فكأني كلي روح، هذا معنى فنِيَت البشرية، وهو في حالةِ البشرية محله لكن بهذه المثابة وهذه الصورة. قال:

 وصح القصد والنية   فحينئذٍ فهنُّوني

 الله يكرمنا بهذا الهناء، ويعلِّق قلوبَنا بهذا المُنى، حتى لا نسقط كما مَن سقط.

 يعيش بعض المسلمين مسلماً في بيوت مسلمين، وأمنيتُه تشبه أمنيةَ المكذِّب الكافر، وهمُّه وغايةُ مراداته تشبه مرادات الكافر الفاجر.. ما هو هكذا، لا يليق بك هكذا. آمنتَ بالله فأين شوقُك إلى مراتب قُربِه ورضاه سبحانه وتعالى، والفهم عنه فيما أوحاه إلى قلب النبي، من أجل قلبي وقلبك يأخذ نصيبَه، وما يأخذ القلب نصيبَه إلا على قدرِ صدقِه ووِجهتِه وطهارتِه ونقاه وإقباله، كل قلبٍ منا تصفى وأقبل وتوجه لابد أن يحصِّل نصيبَه من الوحي الذي أُوحي إلى قلب سيدنا محمد ( نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الأَمِينُ عَلَى قَلْبِكَ) وما هناك شيء في الوجود يقدر على تحمُّل أسرار هذا الكتاب المخصوص من بين جميع الكتب المنزلة من السماء، ما هناك شيء إلا قلبُ محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.. لا إنس ولا جن ولا جبال ولا بحار تقدر أن تحمل أسرار هذا الكتاب ومعاني هذا الخطاب، قال تعالى: ( لَو أَنزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ لَّرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُّتَصَدِّعًا ) فمن ذا الذي تأهَّل وأي شيء الذي حمَل؟ قلب سيدنا، قلب طبيبِ قلوبنا، قلب منوِّر قلوبِنا، قلب سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أسأل الله أن يفتح لك قناةً من ذاك النور القلبي، حتى إلى قبلك إن شاء الله، تتأثر بسرِّ القرآن، ونور القرآن، حتى تُحشر مع أهل القرآن يوم القيامة.

 ولو نظرتم أحوالَ الناس في المحشر.. هذا في الفريق الفلاني، وذا مع الفريق الفلاني، وذا مع الفريق الفلاني، ولا يزالون زُمَر زُمَر زُمَر، أما زُمَر أهل الجنة فمتداخلين بعضهم البعض، والراية يحملُها واحد، حامل لواء الحمد سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، أظلَّنا اللهُ بظلِّ لوائه. قال تعالى: ( وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَرًا ) وقال تعالى: ( وَسِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ زُمَرًا ) لا يوجد فيه واحد يأتي فيه لوحده.. لماذا ُزمر زُمر؟ لضرورة الروابط، ما الوصول إلى الجنة إلا بروابط، ولا للنار إلا بروابط، روابط ماذا هي؟ إنها روابط قلبية، شأن ذا القلب، نحن نريد لك قلباً يستقي من النور الرباني، من النور القرآني، مما نزل على قلب نبيِّنا صلى الله وسلم عليه وعلى آله ( نزلَ به الروحُ الأمينُ عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُّبِينٍ ).

       الحمد لله على هذه النعمة، وحشا اللهُ قلوبَنا من أنوار هذا الوحي المنزل، ونوَّر به عقولَنا حتى تخرج مِن هذا الحبس الذي فيه أكثرُ الناس، ومَن رضيَ بالحبس في الدنيا فإن حبسَ الآخرة نارٌ موقدة، تطَّلع على الأفئدة، لكنها ما هي إلا نتيجة الحبس في الدنيا، وكل راضٍ بأن تغيب السنن النبوية مِن داره وبيته، وأن تحلَّ بعضُ أخلاق أو سنن أو عادات الفجرة والكفرة، فهو راضٍ بالحبس، والراضي بالحبس يُخشى عليه مِن حبسِ الآخرة، وهو راضٍ محبوس في الدنيا والعياذ بالله تبارك وتعالى، محبوس عن امتلاء القلب بالمحبة، محبوس عن إدراك شريفِ الرتبة، لسيِّد الأحبة، محبوس عن إدراك حقِّ المؤمنين وفضلِهم ومكانِهم، والذين الفرد منهم أعظم حرمةً عند الله من البيت العتيق الحرام، كم رحمَ اللهُ بحرمةِ ذاك البيت عِباداً في الشرق والغرب، وهدى وغفر، ولكن حرمة المؤمن عند الله أعظم مِن حرمة الكعبة، فالله يرزقنا حقيقةَ الإيمان، ويحقِّقنا بحقائق الإيمان، ويعرِّفنا قدرَ المؤمنين ورعاية حقِّهم..

 وعلى قدر إيمانك تعرف قدرَ المؤمنين، وعلى قدر إيمانك ترعى حرمةَ المؤمنين، وعلى قدر إيمانك تذبُّ عن أعراض المؤمنين، وعلى قدر إيمانك تُحسن إلى المؤمنين، وعلى قدر إيمانك تخدم المؤمنين، وعلى قدر إيمانك تحافظ على أحوال المؤمنين، وعلى قدر إيمانك تهتم بحال المؤمنين، الله يرزقنا حقيقة الإيمان، ويقوِّينا في الإيمان، ويرفعنا في مراتب الإيمان.. وما يعطي الإيمان إلا ربك سبحانه وتعالى ( وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ ).

 إلَهنا ما آتيتَنا من الإيمان نمِّه لنا، وقوِّه لنا، وضاعِفه لنا، وزِدنا منه أبدا سرمداً، اللهم كما أنعمتَ علينا بالإسلام فزِدنا منه، وكما أنعمتَ علينا بالإيمان فزِدنا منه، وكما أنعمتَ علينا بالعافية فزِدنا منها، وكما أنعمتَ علينا بالعمر فبارِك لنا فيه.. يا أرحم الراحمين.

 انظر إليه.. وهو بغير استحقاقٍ منك أوقفكَ بين يديه، وعلَّمك أن تدعوه، تدعو مع الداعين، ومعك مِن الملائكة والأرواح الطاهرة من يؤمِّنون في مجلس جلسته له سبحانه وتعالى، فوقه آثار العناية من حضرته سبحانه وتعالى، بماذا أعطاك هذا؟ مثلي ومثلك يستحق على الله مثل هذا!؟ هذا كرمُ ربِّك جل جلاله، عسى يُتِم عليك النعمة، في الساعة هذه كم مِن قلب خذلَه، قطعه، أبعده، أدبَر به عنه، واقف على باب سوء أو على باب معصية أو مع غافلين أو مع جاهلين..

 وأين أنت واقف؟ وبين يدين مَن تقف!؟ ما الذي جاء بك إلى هذا؟ ( وَلَوْلا فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَا مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا وَلَكِنَّ الله يُزَكِّي مَن يَشَاء ) اعرِف قدرَ المُنعم جل جلاله، وما آتاك مِن نعمِه، واسأله أن يتمَّها عليك. مجلس واحد من مثل هذا المجلس، هل تعرف ما هي تمام نعمته؟ تمام نعمته أن تذكرَه في الفردوس، هذا تمام نعمة المجلس الواحد، وإذا أعطاك مجلسين وثلاثة وأتمَّ عليك النعمة بكل واحد من هذه المجالس، فما أعظمها من عطايا نفائس من حضرة القدوس جل جلاله.

 ولو ردَّ اللهُ سبحانه ممن انكشف لهم الحجاب من الذين قد وصلوا إلى البرازخ وشاهدوا آثار الأعمال، لو ردَّهم إلى الدنيا لسابقونا على هذه المجالس، ولزاحمُونا عليها، ولكنها فرصة لمَن بقي معه عمرٌ في الدنيا؛ كم مِن متحسِّرٍ عليها بعد فَوتِها، ونحن نسأل ربَّنا أن يجعل خيرَها عاماًّ لجميع أهل الإسلام والإيمان، ولجميع أهل سوابق الخير من الموجودين والآتين، بل تعود منها العوائد على الأوَّلين والآخرين، لأنه الأول الآخر والظاهر الباطن، وهو الذي وفَّق لعقدِ المجلس، وهو الذي هيأ الأسباب لأن يكون على حال استعطافِه وحال استلطافِه، وحالِ طلبِ الإحسانِ منه واسترحامه جل جلاله.

 اللهم ارحمنا والمسلمين، اللهم الطُف بنا والمسلمين، اللهم انظر إلينا والمسلمين.

 أوقفَك على بابه ولا يخيِّبك إن شاء الله، عسى يثبِّتك في باقي عمرك ونقطف وإياك ثمر المجلس هذا، من عند الغرغرة وما بعد الغرغرة، في كل يوم وليلة من أيام البرزخ المقبل عليَّ وعليك، في بعض الذين قد راحوا ومضوا ونحن في المجلس هذا نذكر فضل الله علينا وهم في البرزخ يأكلون ثمر مجالس حضروها، وبعد سيقع لقاء في ظل العرش، وعسى لقاء تحت لواء الحمد، ولو لم يكن مِن نعيم الآخرة إلا أن تستظلَّ تحت لواء الحمد وتشاهد وجهَ حاملِه لكفاك نعيماً، والله ما أعظمَه من نعيم، لكن القلوب إذا ران ما ران عليها ما أدركت هذه اللذائذ، ما أدركت هذه الحلاوة، وغرَّها شيء مما لا يساوي شيء..

 ما تساوي لذائذ الدنيا، مطاعمها، مشاربها مناكحها، سلطاتها، أموالها.. ماذا تساوي؟ وعزة الذي خلقَها وأوجدَها بجميع ما فيها لا تساوي مِن أقصاها إلى أقصاها، ومن أولها على آخرها لحظةً مِن لذة الاستظلال بظلِّ لواء الحمد، والنظر إلى طلعةِ حاملِه، ستصدِّق أم لا، خُذها بأيمانٍ مُغلَّظَة.

 فُكَّ عنك الالتفاتَ إلى التَّحت، خُذ لك نصيبَك من التعلُّق بالفوزِ والبَخت، ويا بخت مَن صدَّق قلبُه بهذه الحقائق والمعاني، وعمل بِمقتضاها في ما له يعاني، في باقي الأيام حتى يأتي ذلك اليوم ( يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ ) أتذوق حلاوةَ معه؟ قال لك: ( معه ) انتهت النعمة، هذا تمام النعمة ( والذين آمنوا معه ) الله الله ما أطيب عيشهم، مع مَن يا رب؟ قال: مع محبوبي، مع أكرمِ خلقِي علَي، مع صفوتي مِن بريَّتي، هم معه، ما أطيب عيشُهم، ما أحلى حالُهم، ما أجمل وصالُهم الذي واصلتَهم به، معه وضعتَهم، وفي معيَّته جعلتهم، سبحانك.. وهل يمكن أن تُبلِّغنا ذلك؟ ما دعانا إلا وذلك ممكن، وهو يسيرٌ عليه إذا وجد منا إقبالا واستقبالا ًلهذا النوال، فيارب يارب لا تحرِمنا خيرَ ما عندك لشر ما عندنا

                فيارب واجمعنا وأحباباً لنا         في دارك الفردوس أطيب موضعِ

 ندخل مع طه وآله في الصفوف الأولات         معهم وفيهم دائما في الدار ذه والآخرات

 الله يجعل مآلنا الاستظلال بظل لواء الحمد، قال صلى الله عليه وسلم: ( ولواء الحمد بيدي يوم القيامة، آدم فمن دونه تحت لوائي ) يا ما أكرمَها من معيَّة، النبيين والصديقين والشهداء والصالحين من الأولين والآخرين وكل داخل إلى الجنة تحت اللواء، صلى اللهُ على صاحب اللواء، وعلى مَن يرافقه تحت ذاك اللواء..

 وإعراضٌ مِن بعضهم بقلبِه عن خيرٍ أتاه مِن ربِّه يُبعده عن اللواء كله، اللهم لا تجعل في بيوتنا محروما، ولا تجعل في جيراننا محروما، ولا تجعل في أهلينا ولا أولادنا محروما. لأنهم يُعرضون هنا، إعراضٌ لشيء حقير، لكن بعد ذلك لما يبعُد مِن ظل اللواء كله إلى أين؟ ما الندامة هناك؟ وبئست الندامة ندامة يوم القيامة، ما أشنعها! أي ندامة إذا بعدوا به بعيد، فكان بعدُه بسبب كلمةٍ تكلم بها، أو نظرةٍ خبيثة، أو سوءٍ رضيَه، وخُتِم له به والعياذ بالله تعالى.

 اللهم لا تجعل فينا شقيًّا ولا محروما، وتعود العوائد على صغارِنا وكبارِنا ورجالِنا ونسائنا.. يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين. يا الله يا غوثاه يا رباه يا من لا يخيِّب مَن رجاه، ولا يرد داعٍ دعاه، لا إله إلا أنت، آمنَّا بك وبرسولك وما جاء به عنك، فبِحقِّه عليك لا تفرِّق بيننا وبينه، فبحقِّه عليك لا تفرِّق بيننا وبينه، فبحقِّه عليك اجمعنا جميعا في ظلِّ لوائه، واجعل معنا جميع أهالينا وجميع أولادنا وجميع أقاربنا وجميع طلابنا وجميع أصحابنا.. يا الله يا الله.

دعوة عظيمة مالها إلا العظيم.. نادِه عسى يستجيب لك، قل له: يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا غوثاه.. يا رباه.. يا أرحم الراحمين.

 باركَ الله لنا ولكم في الوِجهةِ إليه، والإقبالِ عليه، وفي توديعِنا للموسم، وفي استقبالِنا للموسم الذي أقبل، موسم اجتماع الناس أمام بيت رب الناس، وأمام خير الناس صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله.. اللهم اقبلهم وأصلِح نيَّاتِهم ومقاصدَهم، ويسِّر ذهابَهم وعودتَهم، وافتح بهم أبوابَ الفرج لهذه الأمة، التي كثُفت عليها الغُمَّة، وإن اقتضت أعمالُنا وأعمالُ السفهاء منا نقمةً مِن نِقمِك وعذاباً مِن عذابك، فإنا نستدفعُ ذلك يا مولانا، عائذين برضاك مِن سخطك، وبمعافاتك مِن عقوبتك، وبك منك، لا نحصي ثناءً عليك أنت كما أثنيتَ على نفسك، فبارِك اللهم لنا وللأمة في هذه المواسم، واكتب لنا يا رب الحظَّ الأوفرَ مِن جميعِ الغنائم، ولا تحرِمنا خيرَ ما عندك لشرِّ ما عندنا يا أكرم الأكرمين، ويا أرحم الراحمين..

 والحمد لله رب العالمين.