09-2011
16

محاضرة مكتوبة، في الجزائر بعنوان: الخشية في حياة المصطفى والخلفاء الراشدين

بسم الله الرحمن الرحيم

الخشية في حياة المصطفى صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين


اللهم لك الحمدُ شكراً، ولك المنُّ فضلاً، وأنت العليُّ الكبير، والسميعُ البصير، والواسع القدير، الذي بيدك الأمرُ كلُّه، وإليكَ يرجعُ الأمرُ كلُّه، إذا شعشعَ نورُ معرفتِك في قلبٍ امتلأ خشيةً ورجاءً ومحبة، ولم يزل متمسكاً بأذيال تلك المعاني، مُترقِّيا رتبةً بعد رتبة، حتى تُدخِلَه في رحاب الأحبة.
     لك الحمد، أرسلتَ إلينا أعرفَ الخلقِ بك، وأعلمَهم بكَ وبأحكامِك وآياتِك وجلالِك وعظَمتِك، فوسِعَ قلبُه ما لم يسَعه غيرُه من العالمين، فجعلتهُ المرسَلَ رحمةً للعالمين بشيراً ونذيراً، وداعياً إليكَ بإذنك وسراجاً منيراً، أدِم صلواتِك على هذا السراج المنير، سيدنا محمدٍ وعلى القلوب التي شعشعَت فيها أنوارُ تعريفهِ بك ودلالتِه عليك، خصوصاً آلَه الأكرمين، وصحبَه الغُرّ الميامين، وأهل مُتابعتِهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد، ففي هذا القدوم إلى حيث تتوالى أنوارُ العنايةِ من الحي القيوم، بإقامة الدروس المحمدية لإحياءِ سيرةِ وسنةِ ومنهجِ السيدِ المعصوم، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، بنوايا رسخَت في الوجهةِ إلى الله تبارك وتعالى، مِن عند الشيخ عبد اللطيف إلى أبيه الشيخ محمد بلقايد، إلى شيخه الشيخ محمد الهبري، بسلاسلِ إسنادٍ مضيئةٍ إلى خيرِ العباد، خير البرية صلوات ربي وسلامه عليه.
 في هذا القدوم إلى هذه الرحاب، وهذا الدرس من الدروس المحمدية، في هذه الليلة نُدرك حقيقةً من الحقائق، نحتاج إليها ويحتاج إليها معنا جميعُ الخلق، في شرق الأرض وغربها، مسلماً وكافراً، إلا أن مسؤوليتَها علينا معشرَ أهلِ الإسلام، وشأنَها موكولٌ إلينا يا مَن أودع اللهُ في قلوبهم نورَ الإيمان، فإنها حقائقُ يقوم بها الميزان، وإذا قام الميزانُ بلا اختلال، ذهبت الفوضى والآفاتُ وسوءُ الجدال، وسوءُ الأحوال، وسوءُ الأقوالِ والأفعال، فما انتشر السوءُ في شيءٍ من هذه الشؤون إلا باختلال الميزان الذي له الناس ينظرون، وإليه يتحاكمون.. ولقد قال مولانا: ﴿ لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ ولم يقُل ليقوم المسلمون بالقسط، ولا الذين آمنوا به.. ولكنها أمانةٌ إذا فقهَها أهلُها أقاموا شوكةَ الميزان بالقسطِ لجميعِ مَن على ظهرِ الأرض.

الخشية أساسٌ لإقامة الميزان الرباني:

 هذه العظمةُ في هذه المواريث النبويَّة والأمانة الربانيَّة التي تسلسلت، عمادُها وأساسُها علمٌ يقود إلى حقائق الخشية.
الخشية ممن؟ الخشية ممن لم يكن شيءٌ إلا به، الخشية ممن لا يكون شيءٌ إلا به، الخشية ممن بيدِه الأمرُ كلُّه جل جلاله، إنها حصونٌ حصينة، وكنوزٌ ثمينة، مَن ظفرَ منها بنصيب، تهيَّأ للقاء الحبيب، والقربِ من القريب، في مجالِ تقريب، جلَّ عن ذكاءِ الفطِنِ اللبيب، قال تعالى: ﴿ وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ ﴾ عطاءٌ من الحميد المجيد، هو الحريُّ أن يسمى بالمزيد، قال تعالى: ﴿ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ فِيهَا وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ ﴾.
أيها الأحباب أيها الأطياب أيها السامعون للخطاب: عند ضياعِ القيامِ بحق هذا الميزان، وفَوت الذوق والوِجدان لشؤون هذا العرفان، يحصل الخللُ ويَعدم الاتزان، وتطلع على القلوب الأدران والران، ويفسدُ الجهازُ المُتهيِّئ لإدراكِ سرِّ الخشية، لأنه لا تقوم الخشيةُ إلا على معرفةٍ وعلمٍ، نقرأه صريحاً في قول ربنا: ﴿ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاء ﴾.
 ولا يقوم هذا العلمُ والمعرفةُ بالله التي هي خاصيةُ الإنسان العظمى، وشرفُه الأسمى، دنيا وآخرة إلا بجهازٍ هو القلب، هذا الجهاز إذا فسدَ ولم يقبل نورَ المعرفة فصاحبُه فاسد، وإذا دام به الحال حتى الموت ففسادُه أبديٌّ والعياذ بالله تبارك وتعالى، فجديرٌ بعقلاء المؤمنين خاصة أن يَلفتُوا النظر إلى الجهاز الضخم العظيم الذي هو آلةُ المعرفةِ باللهِ العليِّ العظيم، جل جلاله وتعالى في عُلاه، وبذا أدرَكنا الثقافةَ التي انتشرت في عهدِ الصحابة والتابعين عن مُسمَّى العلم، وما هو العلم؟ وما حقيقة العلم؟
 يسأل رجل الشعبي يقول: أفتِني أيها العالم في مسألة كذا، فيقول الشعبي: إنما العالم من خشيَ الله.
وبذلك يقول الإمام مالك رضي الله عنه: ليس العلم بكثرةِ الرواية، وإنما العلمٌ نورٌ يقذفه اللهُ في القلب.
وقال ابن مسعود رضي الله عنه: ليس العلم بكثرة الرواية، وإنما العلم الخشية.
وقال الربيع بن أنس رحمه الله: مَن لم يخشَ اللهَ فليس بعالِم.
ويقول مسروق عليه رضوان الله تعالى: كفى بالمرءِ علماً أن يخشى الله، وكفى بالمرءِ جهلا أن يعجبَ بِعلمِه.

العلم طريق للخشية:

 هذه الخشية إنما تُكتَسب بذلك العلم النافع، الذي يصون العبادَ عن تجاوزِ الحدود، وعن الخروج عن المنهج الذي ارتضاه عالمُ الغيب والشهود، جل جلاله وتعالى في علاه، أجلى معانيها وأظهرُ حقائقها تُستَجلى في حياة المصطفى، وحياة الخلفاء الراشدين الذين أُمِرنا بالاستمساك بِسنَّتِهم وهديِهم، عليهم رضوانُ الله، كتاباً وسنة.
 ففي الكتاب العزيز نقرأ قول مولانا: ﴿ وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم ﴾ أثبتَ لهم تبعيةً، جعلهم مرجعيةً، يُرجع إليهم في الإتباع ﴿ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ  فِيهَا ﴾ اللهم اجعلنا ممن اتبعهم بإحسان، برحمتك يا أرحم الراحمين.
 أيها الأحباب، عندما نفقه سرَّ العلمِ والخشيةِ، وندركُ المعنى الذي به تقوم ثقافةُ الوعي في الإسلام، ولقد صدق القائل وهو يقول:


العلم خشيه كلُّه      يُعرف بذاك أهلُه
     العلمُ بالأعمالِ       يزكو وبالأحـوالِ     
وليس بالأقوالِ       وكثـرةِ الجـدالِ

وأخرج الخطيب في المتفق والمفترق عن وهب بن منبه قال: أقبلتُ مع عكرمة أقودُ ابنَ عباس رضي الله عنهما بعد ما ذهب بصره حتى دخل المسجدَ الحرام، فإذا قومٌ يمترونَ في حلقةٍ لهم عند باب بني شيبة، فقال: أمِل بي إلى حلقة المِراء، فانطلقت به حتى أتاهم، فسلم عليهم، فأرادوه على الجلوس، فأبى عليهم وقال: انتسبوا إليَّ أعرفكم، فانتسبوا إليه، فقال: أما علمتُم أن لله عباداً أسكتتُهم خشيتُه مِن غير عيٍّ ولا بكم، إنهم لهم الفُصحاء النُّطقاء النبلاء العلماء بأيام الله، غير أنهم إذا ذكَروا عظمةَ الله طاشت عقولُهم من ذلك، وانكسرت قلوبُهم، وانقطعت ألسنتهم حتى إذا استقاموا من ذلك سارعوا إلى الله بالأعمال الزاكية فأين أنتم منهم!؟ ثم تولى عنهم فلم يُرَ بعد ذلك رجلان.. نبَّههُم إلى ما هي حقائق العلم؟ وكيف يؤخذ العلم؟ وكيف يُستفاد مِن العلم؟
عند ذلك يجب أن نعرف أن العلم بهذه الصورة إذا اتسعنا في معناه فإنا ندعوا العقلاءَ في العالم إلى أن جميع المعلومات الصحيحة، ولو في الماديات والكونيات يجب أن تقود إلى الاستمساك بالعدلِ والبِر والمعروف، يجب أن تقودَ إلى إنصافِ المظلوم مِن الظالم، يجب أن تقود إلى إعطاءِ الناس حقوقهم. وإلا فالمعلومات مهما كثُرت، والقدرات والإمكانيات مهما توفَّرت، فإنها ستستخدم فيما يضر الناس، وفيما يُفسد الناس، وفيما يجلب البلاءَ على الناس، كما نرى آثارَ كثيرٍ من الأجهزة والتطوُّرات والإمكانيات، كيف استُعملت في عالمِنا؟ كيف استُعمِلَت في عصرِنا؟ كيف استُعملت وماذا أحدثَت في واقعِنا!؟
 فهذا العلم على وجه العموم..
 أما العلمُ بالله وبِشرعهِ وبأحكامه فشأنُه أنه الأعظمُ الذي يقودُنا إلى أن نستعملَ جميعَ الإمكانيات والمعلومات بنورِ خشيةِ الله تبارك وتعالى، وحينئذٍ ندرك ما قال سيدنا الصحابي خبيب، وهو بمكة المكرمة، وقد بكى بعضُ أطفال البيت الذين حبسوه ليخرج الشهر الحرام فيقتلونه خارجَ حدودِ الحرم، فهو مسجون عندهم ليُذبح ظلماً انتقاماً مِن أولئك، وشفاءً لغيظِ أنفسِهم؛ إذ قد قتل بحقِّ مَن قاتل وصدَّ عن سبيل الله مِن آبائهم. فلما اندرج الصبيُّ إليه، وكان قد طلب منهم لما اقترب ميعادُ قتلِه موساً يستحدُّ بها، فأعطوه إياها، وجاء الطفل فوضعه على رِجله مُلاطفاً له، حانياً عليه، فحانت التفاتةٌ مِن أم البيت، ففوجئت بأن طفلَها على رِجلَي هذا الذي سيقتلونَه، وأنه ربما أغرَته نفسُه أن يذبح الطفل، وأن يفعل ما شاء، فماذا سيكون، لن يزيد على قتله، وهو مقتول، فارتاعَت.. فلاحظَها سيدنا خبيب، فقال: يا هذه أخِفتِي على الطفلِ؟ لا تخافي، إنا أصحابُ محمد لا نغدر. نحن رُبِّينا، نحن نُقِّينا، نحن أخذنا نورَ الخشية من بارينا، لا يُخاف منا على أطفالٍ ولا على نساء ولا على حُرماتٍ تُنتَهك مِن جانبِنا، وإن كنتم ستقتلوني فلن أخونَ الأمانة في طفلِكم ولن أؤذيه. قال: لا تخافي إنا أصحاب محمد، تربينا على يدِ الحبيب محمد، وأخذنا مبدأً ومنهجاً لا تتحرك به طبيعتُنا لتقاوم الشريعة، بل نُسَكِّن الطبيعةَ بنور الشريعة، لا ننقاد لغيظٍ ولا لإرادة نفسٍ ولا لهوى أمام منهاجٍ جاء مِن عند العليِّ الأعلى يهذبُ نفوسنا فمهما كنتم ستقتلوني فلن أخونَ في ابنكم.. خُذِي الطفلَ مطمئنةً عليه. وتعلَّمت بهذا درساً عن الإسلام، درسا عن متابعةِ محمد، درساً عن الخشية من الله تبارك وتعالى، دعاهم إلى أن يدخلوا فيما بعد ذلك في دين الله جل جلاله وتعالى في علاه.

 مظاهر الخشية:

 تُورِث الخشية بواسطة العلم - خصوصاً علم الشريعة الغراء- تُورِث تقوى الله تبارك وتعالى فيما ننطق به، وأن لا نقول ما لا نعلم.
 ونأخذ في هذا المصطفى بنفسه، صاحب الرسالة، خاتم الأنبياء، أعلم الخلق بالله، يقول له مَن حواليه: هات الآية من عندك، أكمِل مِن عندك، فأوحى الله إليه: ﴿ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِن تِلْقَاء نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ ﴾.
 وبذلك وجدنا سيدنا أبا بكر الصديق رضي الله تعالى عنه، يُسأل عن الأب في قوله تعالى: ﴿ وَفَاكِهَةً وَأَبًّا ﴾ فوقف وقال: أي سماءٍ تُظِلُّني، وأي أرضٍ تقلُّني إن قلتُ في كتاب اللهِ ما لا أعلم. وفي رواية: ما لم أسمع، وفي رواية: إن قلتُ في كتاب الله بِرأيِي.
 هذا المظهر الأول للخشية أن لا يتقوَّل، وأن لا يقول ما لا يعلم، فأين يكون هذا عند مَن ادَّعى العلم، ثم أخذ يتكلم بتحكيمِ عقلِه وهواه، أو بتقديم رأيِه على مَن سواه؟ وأين هذا ممن ينتمي إلى الإسلام ثم يجيء بحاسة العقل يريد أن يحكم بها دينَ الله تبارك وتعالى؟ ويريد أن يحكم بها شريعةَ الله؛ والدينُ قائمٌ على اتباع، على انقياد، على تركٍ للهوى..
 سُئل سيدنا الإمام مالك عن ستِّ وثلاثين مسألة في مجلس واحد، فأفتى في اثنتين، وقال في أربعٍ وثلاثين: الله أعلم، وهو إمام دار الهجرة الذي لا يوجد أعلم منه في وقته، عليه رضوان الله تبارك وتعالى. ويأتي هذا الذي تَعلَّم الكلمتين، وقرأ الكتابَين، ويريد أن يكون مُفتيَ الثَّقَلين! اتق الله، أين الخشيةُ عندك؟ هؤلاء الرسل، وهم رسلٌ أمامك يقفُون حتى يأتي وحيُ الله، وهؤلاء الصحابة المتلقُّون عن رسولِ الله صلى الله وسلَّم وبارك عليه وعلى آله يتورعون عن التسرُّع في الفتوى.
 وهكذا تجد مظهرَ الخشية في ضبطِ اللسان وأن لا نتقوَّل على الله ولا على رسوله، قال تعالى: ﴿ وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَذَا حَلالٌ وَهَذَا حَرَامٌ لِّتَفْتَرُواْ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ﴾.
 كان بعضُ كبار علماء الشرع المطهَّر إذا قُدِّم السؤال ما حكم الشريعة؟ ما حكم الإسلام؟ يقول: بدِّل السؤال، قل: ما قولُ العلماء؟ فإن الذي توصلتُ إليه من قول العلماء لا أُطلِقُ عليه على العموم أنه حكم الإسلام عامة، لكنه وجهٌ مِن الأوجه الصحيحة التي أخذناها عن الكتاب والسنة، لكني لا أصفُها بأنها حكمُ الإسلام بكلِّه، فالإسلام أكبرُ مِن اجتهادي واجتهادِ المؤهَّلين المهيَّئين للاجتهاد، فضلاً عمن سواهم، بهذا الحال مضى أكابرُنا وأوائلنا عليهم رضوان الله تبارك وتعالى، ورأينا في السنة الإرشاد إلى هذا الهدي ( فعليكُم بسنَّتي وسنة الخلفاء الراشدين المهديِّين من بعدي ) عليهم رضوان الله جل جلاله وتعالى في علاه.

مظاهر الخشية في التعامل مع الأموال:

وبعد ذلك المظهر من الورع في الأقوال، تأتي حرمةُ الأموال والخشيةُ فيها بواسطة هذا العلم، ولقد جاءنا في الحديث الصحيح عن نبيِّنا صلى الله عليه وآله وسلمَ أنه يجد التمرةَ إما في الطريق وإما على فراشِه فيحملها، ويقول: لولا خشيةُ أن تكون من الصدقة لأكلتُها، لولا أني أخاف أن تكون مِن الصدقة لأكلتُها، فينظِّفها ويعطيها غيرَه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
 أمامه الحسن بن علي يأخذ من تمر الصدقة تمرةً فيضعُها في فِيه، فيأتي صلى الله عليه وسلم وينزعها مِن فمِ الصبي.. معلومٌ رحمته صلى الله عليه وسلم بالصبيان عامة وبهذا خاصة، هذا الذي كم رُئِي على منبره، كم رئي على ظهره، كم رئي على كتفِه، ومع ذلك كله أدخلَ إصبعَه الكريم فأخرج التمرة وهو يقول: كخ كخ، أما تعرف أنّا لا نأكل الصدقة ، إنما هي أوساخُ الناس، وإنها لا تحلُّ لمحمد ولا لآل محمد، ونزَّه بطنَ الحسن في طفولتِه وصِباه عن أثرِ تمرةٍ تصل إلى ذاك البطن الطاهر المُربَّى في بيت الطهارة.
 وواصل هذا المسعى حتى لمَّا لم يجد يوما من الأيام إداماً لطعامه جاء إلى خازن بيت المال، قال: أعندكم عسل؟ قال: نعم، قال: اعطني رطلاً دينًا ثم أردُّه إلى بيت المال، فأعطاه، فلما علم سيدنا علي سأل الخازن: لماذا تعطيه؟ ألأنه ابن أمير المؤمنين؟ ألم أتعلم أن هذا حق المسلمين عامة؟ قال: إنما أخذه ديناً، قال: إن استرضاك فاسترضِ من لهم الحق؟ تعال يا حسن، رُد بدل هذا الرطل رطلين وثلاثة، ضعها في بيت المال، ولا تعُد لمثل هذا، ولولا أني رأيتُ رسولَ الله يقبِّل وجهَك هذا وفمَك لضربتُك.
 وكم جاء في سيرة سيدنا علي وهو في العراق يحضر عنده بعض الذين أرسلهم في بعض المهمات فيرجع، يقول: تعال إليَّ وقت الظهيرة، يفتح صندوقا مختوماً عليه قفل فيُخرج منه كيساً مربوطا فيفُك الرباط فيُخرج دقيقاً من سويق ويصب عليه الماء ويأكل ويعطيه، فيقول له: أموال العراق تسعُ أكثر من هذا، وبيت المال ينطحن والجيش يأكلون وأنت تحبس نفسك على هذا!؟ قال: يا هذا إنا لا نرزأكم من أموالكم شيئا، وإني أعرف هذا الدقيق في أي أرضٍ زُرِع حبُّه، ومن الذي حصده، ومن الذي طحنه، فلا أُدخِل بطني إلا طيباً.
 روى الإمام البخاري أن عبداً كان لسيدنا أبي بكر بينه مهايأة وإياه يأتي بالخراج فيقسمه، يعطي أبا بكر بعضه ويأخذ البعض الآخر، فجاءه يوم وصادف جوعاً وشغلاً عند أبي بكر، فأخذ لقمةً ولم يسأله، وعادتُه أن يسأله من أين جئت بهذا؟ فإن اطمئنَّ وإلا لم يقربه، فقال: لماذا لم تسألني اليوم!؟ قال: كنت مشغولاً فنسيت، من أين جئت بهذا الطعام؟ قال: مررتُ على أناسٍ كنتُ قد تكهَّنت لهم في الجاهلية فعرفُوني فأعطوني هذا، جاء في بعض الروايات أنهم كان عندهم عرس، فالجماعة في وليمة يعطون كل من جاء، لا إشكال فيها، لكن هذا أدخل الشكَّ على قلب الصديق، يقول: إني تكهَّنتُ لهم في الجاهلية، فقال: إنما عرفوك من جهة الكهانة، فإن هذا متصلٌ بحُلوان الكاهن، فأدخلَ يدَه في فيه حتى استقاء جميعَ ما في بطنه، جاء في غير رواية البخاري: أنه وهو يتهوع جاء الجيران ما بال خليفة رسول الله وأصواته ترتفع وهو يخرج ما في بطنه؟ قال لهم: طعام دخل بطني من شبهة لا أكف حتى أخرجه، قالوا: فاشرب عليه الماء حتى يساعدك على إخراجه، فاستقاء جميع ما في بطنه، وقالوا: أتعبتَ نفسَك، قال: لو لم يخرج مني إلا بخروج روحي لأخرجتُه، بعد أن سمعتُ رسولَ الله يقول: كلُّ لحم نبت من سُحتٍ فالنار أولى به. وأنا أخشى أن ينبت فيَّ شيءٌ من هذه اللقمة، قال: ثم قعد يستغفر الله على ما بقي مِن الأثر مما لم يخرج مع القيء.. عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
 وهو الذي قال عنه سيدنا الفاروق بعد وفاته لما وصلوا إليه بمال، قالوا: هذا لبيت المال، ما هذا؟ قالوا: نفقةُ أبي بكر منذ تولَّى الخلافة، مدة سنتين ونصف، فحسبها وقال ردوها من مالي الخاص إلى بيت المال، فبكى سيدنا عمر وقال: لقد أتعبتَ مَن يأتي بعدك يا أبا بكر. إنه ورعُ الصدِّيقين، بهذه المعاني قامت حقائقُ الإسلام، وانتشرت الخيراتُ للأنام، وعمَّ النورُ فاندفع الظلام.
 ولم تزل هذه المعاني في سِيرِ أولئك القوم الأكرمين عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. تطلب الحلوى زوجة سيدنا عمر بن الخطاب منه، فيقول: هذه الأيام ما عندي شيء أشتري لكم به حلوى وليس لي في بيت المال إلا مقدار النفقة وليست الحلوى منها، فلما رأته لا يأتي بشيء اقتصدت مِن نفقتِها فوفرت قليلاً من الدراهم، قالت: خذ هذه فاشترِ لنا الحلوى، مِن أين جئتَ بها؟ قالت: من نفقة الشهر، قال: إذن كان عمر يأخذ زيادةً عن الحاجة في الأشهر الماضية، مادام قدرتي أن توفِّريه فهو زائد، هاتيه نردُّه إلى بيت المال، ونُنقِص مقداره من الأشهر القادمة، فأخذه منها وردَّه إلى بيت المال عليه رضوان الله تبارك وتعالى.
 بواسطة هذه الخشية يعرف الناسُ حرمةَ الأموال التي خطب عنها صلى الله عليه وآله وسلم في حجة الوداع فقال: ألا إن دماءكم وأموالَكم وأعراضَكم حرامٌ عليكم، كحُرمةِ يومِكم هذا، في شهرِكم هذا، في بلدِكم هذا.. ألا هل بلَّغت؟

 مظاهر الخشية في الوفاء والبر والإحسان:

يرتفع المقامُ فوق ذلك بعد حفظِ حرمةِ الدماء والأموال والأعراض، فنأتي إلى وفاءٍ وبرٍّ وإحسانٍ بواسطة الخشية، خرج سيدنا الصديق أيام تولَّى الخلافة، وإذا به يسمع بنتاً في البيت تقول لأهلها: مَن يحلب لنا منائحنا الآن بعد ما شُغل أبو بكر بالخلافة؟ فلما سمعَها رفع صوتَه قال: أما إني أرجو أن لا يشغلني هذا الأمر الذي دخلتُ فيه عن خيرٍ كنتُ عليه، أنا أحلب لكم منائحكم، فكان أيام خلافته يذهب بنفسه يقول: من يريدني أن أحلب له؟ فيمر على أهل الحي ومن أراد الحلبَ حلب لهم بيده الكريمة عليه رضوان الله، إنه تربيةُ سيدنا محمد صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
 ولم تزل هكذا مكارم الأخلاق الواضحة في ذلك الأدب الذي يقول فيه كما روينا في صحيح الإمام البخاري: ارقبوا محمداً في آل بيته. وكان يقول: لقرابةُ رسولِ الله أحبُّ إليَّ أن أصل من قرابتي. وكان يقول: لإسلام أبي طالب أحبُّ إلي من إسلام أبي قحافة. وما ذاك؟ قال: لأنه أحبُّ إلى قلب رسول الله.
 وهو الذي جاء بأبيه أبي قحافة عام الفتح في آخر رمضان في السنة الثامنة، أمسك بيد أبيه وهو شايب حتى أدخله على النبي في المسجد، فلما رآه صلى الله عليه وسلم قال: لو تركتَ الشيخَ مكانه فآتيه أنا.. خلقٌ كريم، ومسلكٌ فخيمٌ عظيم، قال يا رسول الله: هو أحق أن يأتي إليك، فجلس ومسح النبي على صدره ودعاه إلى الإسلام فأسلم، فهنَّأ رسولُ الله أبا بكر بإسلام أبيه.. عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
 وهو الذي إذا ذكر نبيَّكم صلى الله عليه وسلم وهو على منبرِه تحدَّر دموعه حتى يقف في الخطبة عليه رضوان الله تبارك وتعالى. ويقف في الدرجة التي دون الدرجة التي يقف عليها رسول الله على المنبر أدباً معه. وقد فارقَ صلى الله عليه وسلم هذه الحياة الدنيا.
 ولم تزل أيها الأحباب هذه المظاهر الكريمة لمعاني هذا البرِّ والوفاء، فتروِي لنا سيرة سيدنا عمر بن الخطاب: أنه لما تزوج أمَّ كلثوم بنت علي بن أبي طالب، فكان يدعوها يا ابنة الأكرمين، كلما ناداها قال: يا ابنةَ الأكرمين. خرج في إحدى الليالي على عادته يترقبُ المدينة وما حواليها ويراعي حالَ الرعية، وإذا به يرى خيمةً نُصِبَت لم تكن في الليلة الماضية، فدَنا مِن الخيمة، فإذا به يسمع أنينَ توجُّع في الخيمة فزاد همُّه ونادى: مَن بالخيمة؟ فخرج إليه رجل، يقول: مَن أنت؟ ما جاء بك هنا؟ ما رأيتُ هذه الخيمة البارحة، قال: أنا ساكن في البادية وقد أضرَّت بي الأيام، فجئت أقترب من المدينة ليصلَنا رفدُ عمر، قال: مالي أسمع أنيناً في خيمتك؟ قال: مُر في طريقك يا هذا.. لم يكن يعرفه!! قال: مر في طريقك ما عليك من هذا، قال: كيف أمرُّ في طريقي، ما الأنين الذي في خيمتك؟ قال: هذه زوجتي أوشكت على الولادة، فهي تأنُّ من آلام الوضع، قال: هل عندك أحد يساعدها من النساء؟ فقال: لا، قال: مكانك حتى آتيك بطعام، وآتيك بمن يساعد ويولِّد زوجتك، فعاد إلى بيته. فقال لسيدتنا أم كلثوم: يا ابنةَ الأكرمين هل لكِ في خيرٍ ساقَه الله تعالى؟ قالت: وما ذاك؟ قال: امرأة فقيرة ضعيفة حوالَي المدينة تضع ولدَها ليس عندها مَن يؤنسها ولا من يساعدها، قالت: أتحب أن أتولَّى ذاك بنفسي؟ قال: فقومي، فقامت، قال: فأعدِّي ما تحتاجه المرأة، ودخل هو يعدُّ القِدرَ والدقيقَ والسمنَ ليطبخ لهم، ومشى معها، حمل على رأسه هذه الأدوات وما فيها، ومشت معه أم كلثوم، فجاءوا قال: أخرج إلي ودعِ المرأةَ تدخل عند المرأة حتى تتولَّى توليدَها، فخرج إليه قال: ناوِلني هذا الحجر وهذا الحجر، وأوقدَ النار ووضعَ الطستَ ووضع الماءَ ووضع الدقيق وأخذ يكمل الطبخة لهم، وحينما كاد أن ينضج خرجت أم كلثوم تقول: يا أمير المؤمنين، بشِّر الرجل أنه قد وُلِد له وَلد، وهو بعافية، وأمه بعافية، هذا سمع ( يا أمير المؤمنين ) فاهتزَّ وتأخر إلى ورائه، ضحك سيدنا عمر: قال له: اقرب اقرب، فقرب، إني عمر، وإن هذه أم كلثوم بنت علي بن أبي طالب، امتلأ الرجل، ودمعت عيناه، قال: بنت بيت النبوة تولِّد زوجتي وعمر يطبخ طعامي!!
 لولا الخشية ما فعل عمر هذا، لولا الخشية ما خرج عمر إلى هذا، لكنها المعرفة بالله تدعو الإنسان كيف يتطلع إلى الدرجات العُلى عند الرب، ويبذل غاية ما في وسعه، وعجبوا قال له: فمكانك وسأواسيك وما احتجت فأتِ إلى عندنا، وخرج مع زوجته أم كلثوم، فدخل قال: أتدري من ولَّدك يا زوجتي؟ جئنا من البادية وولَّدتك بنت فاطمة، بنت فاطمة بنت محمد بيت النبوة، قال هذه أم كلثوم، فازدادوا إيماناً إلى إيمانهم، وازدادوا محبةً لله ورسوله من هذه التصرفات والأخلاق التي أُخذَت من حضرة النبوة.
 ألا لله الحمد على ما أبقى فينا من تلك الذكريات، وكم نحن والأمة بحاجة أن ندرك معاني هذه الخشية، ونأخذها لنهتدي، لنقتدي، ليصلحَ ظاهرُنا وباطنُنا، لتستقيم الصلاتُ الحسنة بين الأفراد والجماعات، بين الشعوب والحكام، بين الصغار والكبار، على بعدٍ عما تُملِيه النفوسُ الأمَّارة والأهواء، وعلى معالجةٍ للقضايا بدواءِ الوحي الرباني وسنةِ المصطفى العدناني صلوات ربي وسلامه عليه.
 نسأل اللهَ أن يفتح للأمة باباً في الرجوع الحسَن، للإقتداء بهذه السُّنن واتباع جدِّ الحسين والحسن، يارب بارِك في هذه الدروس، وزكِّ بها النفوس، وزِد الشيخَ عبدَ اللطيف صحةً وعافيةً وطولَ عمرٍ في طاعتِك وبركة فيما يقوم به وينفع. اللهم وبارِك في القائمين معه من العلماء والمتعلمين والمحبين وأهل الخير، وبارك في هذه البلدة وأهليها، واشفِ رئيس هذه الجمهورية وخُذ بيدِه إلى كل ما فيه الصلاح وزيادة الإصلاح والنفع للقريب والبعيد ودفعِ الشر وأهل الشر، اللهم كُن لهم فيما بطَن وظهر، اللهم ادفع عنا وعنهم جميعَ الآفات والكدَر، اللهم اجعل هذه البلدان آمنةً مطمئنةً وبلادَ أهل الإسلام والإيمان، وبارِك في هذه الدروس بركةً تحيي فيها ما انطمس وما اندرس مِن آثارِ مَن زكَّيت نفوسَهم ورفعت عندك قدرَهم، اللهم لا نستبدل بهؤلاء الأكابر أخبارَ وأخلاقَ ساقطين ممن لم تنظر إليهم ولم تحبهم، اللهم أعِذنا من سوء هذا الاستبدال، وأصلِح لنا وللأمة كلَّ حال، وارزقنا التعاملَ بهذا المنهج السامي الرفيع، وشفِّع فينا نبيَّك الشفيع، وزِدنا من الخير ما أنت أهلُه يا قريب يا سميع، فرِّج كروبَ الأمة أجمعين.
اللهم واجعل لنا في أيام العشر الأواخرِ مِن رمضان ارتقاءً إلى التحقُّق بأعلى مراتبِ حقائقِ الإسلام والإيمان والإحسان، ونيلِ الحظِّ مِن العِرفان، إلهنا واكسُ كلاًّ منَّا حُلةً من خشيتِك ومحبتك ورجائك وخوفك، نحيا عليها، ونموت عليها، ونُحشَر مع خواصِّ أهل تلك الخِلع العليَّة الجليلة العظيمة السنيَّة، برحمتك يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين..
وصلى الله على المصطفى محمد وآله وصحبه وسلم.

يمكنكم مشاهدة المحاضرة عبر هذا الرابط .