05-2012
01

محاضرة مكتوبة بعنوان: الاعتبار بالموت

بسم الله الرحمن الرحيم

الحَمْدُ لله، الواحد الكبير المتعال، الذي أنزلَ القرآن، وبَعَثَ به إلينا حبيبَه المصطفى سيدَ الأكوان، وكان فيما أنزل على هذا الأمين المأمون ﴿ إِنَّكَ مَيِّتٌ وَإِنَّهُم مَّيِّتُونَ. ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عِندَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ ﴾ وفيما تلا علينا ربُّنا سبحانه وتعالى على لسان هذا المجتبى المرسَل المظلَّل بالغمامة ﴿ كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ ﴾ - فمن زُحْزِحَ عن النار، حُمي عنها، حُفِظ منها، بُوْعِد عنها، صُرِف عنها, صُرِفَت عنه ﴿ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ ﴾ يقولون هذا فاز، ويقولون هذا فاز, ويقولون هذا فاز، مَنْ لم يُزَحزَح منهم عن النار ويدخل الجنة ما فاز.. ما فاز إلا من زُحْزِح عن النار وأدخل الجنة، هذا هو الفوز الحقيقي.

ويقولون لمن جلب شيئاً من المال أنه فاز! يقولون لمن بنى شيئا من الديار أنه فاز! حتى إنهم يقولون لمن لعب لعباً كالكرة وغيرها أنه فاز!! وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور. ليس في هذا فوز. ليس في هذا كرامة ولا شرف، لكنْ من سَلِمْ من نارِ الله الموقدة التي تطَّلع على الأفئدة وتخلَّد في دار الكرامة، في النعيم الأبدي السرمدي، فيما لا عينٌ رأت، ولا أذنٌ سمعت، ولا خطرَ على قلبِ بشر، يرى وجهَ النبي محمد، ويرى وجوهَ الأنبياء والمرسلين، ويتنعَّم بِعطايا الله سبحانه وتعالى في جنة قال عنها: ﴿ مَّثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ ۖ فِيهَا أَنْهَارٌ مِّن مَّاءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَأَنْهَارٌ مِّن لَّبَنٍ لَّمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ ﴾ لا فيه مرض ولا يُزيغ العقل ولا يُسكِّر الإنسان وكله لذة، فمن شرب الخمرَ في الدنيا لم يشربها في الآخرة، ولم يُعْطَ شيئاً مِن خمر الجنة والعياذ بالله تعالى إلا إن تداركه اللهُ بتوبة صادقة ومات على التوبة الصادقة، ﴿ وَأَنْهَارٌ مِّنْ خَمْرٍ لَّذَّةٍ لِّلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِّنْ عَسَلٍ مُّصَفًّى ۖ وَلَهُمْ فِيهَا مِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ وَمَغْفِرَةٌ مِّن رَّبِّهِمْ ۖ ﴾ الله يقول لنا. هل هذا ﴿ كَمَنْ هُوَ خَالِدٌ فِي النَّارِ وَسُقُوا مَاءً حَمِيمًا فَقَطَّعَ أَمْعَاءَهُمْ ﴾ ؟؟ والماءُ الحميم الذي يقطِّع الأمعاء قيحٌ وصديدٌ يخْرُجْ من فروج الزناة والزانيات والعياذ بالله تعالى، فإنهم يُعَلَّقُون في النار بعراقيبهم وتسيل فروجهم قيحاً ودماً يتجمع في مكان في النار يغلى فتغرِفْ منه الزبانية وتسقيه أهلَ النار والعياذ بالله تبارك وتعالى، إذا قرَّبُوه من وجه الواحد شوَى وجهه من شدةِ حرِّه، وإذا سقوه إياه قطَّع أمعاءه قطعة قطعة. قال الله ﴿ وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ ۚ بِئْسَ الشَّرَابُ ﴾ والسبب أنه في الدنيا شرب معصيةَ ربه، شرب مخالفةَ نبيه، شرب اتباع هواه على أمر الله وتَرَكَ الشريعة، وما عَمِل بمقتضى ما خاطبه الله ورسوله، فَسُقُوا ماء حميماً يشوي الوجوه، قال تعالى: ( وسُقوا ماءً حميماً فقطَّعَ أمعاءهم) اللهم أجِرنا من ذلك، واجعلنا من أهل الجنة.

اجتمعنا في هذه المناسبة لهذا المنتقل إلى رحمة الله، غَفَرَ الله له وَرَحِمَه ورفع درجاته وتجاوز عن جميع سيئاته وبدَّلها إلى حسنات، وتحمَّل عنا وعنه التبعات وجمعنا به في أعلى الجنة، وأنزلَ السكينة على أهله وعلى ذويه فلهمُ التعزية ولنا التعزية معهم. اللهم اغْفِرْ له وارحمْه وعَظِّم أجرهم وأكرِم نُزله عندك واغْفِر لميتهم واخلفهُ بِخَلَفٍ خير في أهله وفي أقاربه وفي أهل بلده وفي المسلمين أهلِ لا إله إلا الله. اغفِرْ له يا خير الغافرين وارحَمْه يا أرحم الراحمين، واجعلها ليالي فوزٍ عنده يفوزُ فيها بمغفرتك يفوزُ فيها برضوانك يا حي يا قيوم يا ذا الجلال والإكرام.

هذا الفوزُ الأعظم يتعرَّض له الإنسان بإقامته لأمرِ الله في الدنيا فإنه في مثل هذه الساعات يعرف قدْر الصلاة، يعرف قيمةَ الصلاة، يعرف خطر تأخير فريضة عن وقتها، يعرف أن الله سبحانه وتعالى يسَّر الأمر له، فإذا كان مسافر أجاز له يجمع، إما يُقَدِّم العصر مع الظهر أو يؤخِّر الظهر مع العصر أو يُقَدِّم العشاء مع المغرب أو يؤخر المغرب إلى العشاء. أما أن يدخل وقت الصبح ويخرج بلا صلاة فلا، وأما أن يَخْرُج وقت الظهر والعصر بلا صلاة إلى المغرب فلا، وأما أن يخرج وقت المغرب والعشاء إلى الفجر بلا صلاة فلا، ولكن هذا الجمع رُخْصَة للمسافر وكذلك للمريض الذي يَشُقُّ عليه أداء كل الصلاة في وقتها، وما عدا ذلك ﴿ إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتاً ﴾ إذا أخَّرَ الفريضة عن وقتها تَعَرَّض لِكَتْب اسمه على باب النار " فلان بن فلانة لا بد له من دخول النار " إلا أن يتوب فيمُحى اسمه. هنا تعرف قدر الصلوات التي هي صلة بينك وبين ربك، من ساعة الموت التي أبهمها الله عليك. وما تدري تأتيك بمرض، أو تأتيك فَجأة، أو تأتيك بِسقطة، أو تأتيك بحادث سيارة، أو بحادث طائرة، أو تأتيك بسكتة قلبية، أو تأتيك بِصَدمة يصدمك واحد وأنت تمشي في طريقك، ما تدري كيف تكون، أبهمها الله لنكون على استعداد، في أي وقت. يارب ثبِّتْنا واختم لنا بالحسنى.

ياالله بها، يالله بها، يالله بِحُسْنِ الخاتمة

في بعض الآثار يقول إبليس عدو الله " قصم ظهري الذي يسأل الله حسن الخاتمة " – لماذا قَصَم ظهره؟ قال يقول الشيطان متى يعجب هذا بِعمله؟ مادام يخاف من سوء الخاتمة لا بد يطيع الله ويتقيه وينتبه لنفسه فلا يقاطع أرحامه، ولا يترك الزكاة، لأنه يخاف من سوء الخاتمة، ولا يُعجب بعمله. يقول متى يعجب هذا بعمله ؟ أخشى أن يكون قد فَطِن والشيطان إذا مات مسلم على حسن الخاتمة يجمع جماعة من الشياطين يقول لهم أقيموا مأتم وحُزن أربعين يوم لأنّ هذا مات على حسن الخاتمة. قال فإذا مات مسلم على سوء الخاتمة والعياذ بالله، عند الموت حضرته معصية، حَضَره سوء كان عمله ما تاب منه، أو قطيعة للأرحام أو تَرْك للصلاة فَزَاغ قلبه ومات على سوء الخاتمة، يجمع الشيطان جماعة من جُنْدِه يقول أقيموا فرح ومهرجان مدة أربعين يوم لأن الرجل دخل النار معنا، يفرح بدخولنا إلى النار ﴿ إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ ﴾ ﴿ إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا ﴾ ولهذا كان الصحابة والتابعون والأولياء يُلِحُّون على الله في حسن الخاتمة، ويسألون الله حسن الخاتمة، ويقولون خوف الخاتمة خرّج الدموع من عيونهم حتى من الخوف عيونهم غارت من كثرة ما يخافون من سوء الخاتمة. اللهم اختم لنا بحسن الخاتمة، واجعل آخر كلامنا من الدنيا " لا إله إلا الله "، ومن عاش معلقا بلا إله إلا الله، ويعمل بمقتضى لا إله إلا الله، ويعرف قَدْر لا إله إلا الله وقَدْر أهل لا إله إلا الله، لا يظلمهم ولا يخونهم ولا يتكبر عليهم، خُتِم له بلا إله إلا الله، وجاء له عند الموت ذِكْر لا إله إلا الله. فإذا كانت آخر كلامه دَخَلَ الجنة مع السابقين، من دون سابقة عذاب ولا عتاب. ومن لم يقلها عند الموت ولكنه مُعْتَقِدها بقلبه فهو مسلم، وموتُه على الإيمان، فإن شاء الله حاسبه على ذنوبه وعذبه، وإن شاء عفا عنه سبحانه وتعالى، ولكن ما أحد يقدر على النار ولا يوم من الأيام. ما تُطِيق الجمرة من جمر الدنيا تَحْمِلها، فكيف تطيق نار جهنم ؟ التي تطّلع على الأفئدة ؟ التي أُوقد عليها ألف سنة حتى احمرت، وألف سنة حتى ابيضت، وألف سنة حتى اسودت، فهي سوداء مظلمة لا يُطفأ لهيبها. اللهم أجرنا من النار. قال النبي محمد من قال بعد المغرب قبل ما يتكلم سبع مرات اللهم أجرني من النار فمات من ليلته أجاره الله من النار، وإن قالها بعد الفجر سبع مرات فمات من يومه، قبل أن يتكلم قالها بعد الفجر، فمات من يومه، أجاره الله من النار. فاجعلها من وردك. اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّار.  اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّار. اللَّهُمَّ أَجِرْنَا مِنَ النَّار. اجتمعتم على هذه.

والطريقة التي قام بها الصالحون في الأمة إذا مات الميت فيهم اجتمعوا على ذكر الله، اجتمعوا على الصلاة على النبي، اجتمعوا على تلاوة كتاب الله، فأول ما ينتفع هُم الأحياء قبل الميت إذا يجتمعون على الذكر يدخلون في المسجد. أهل حِلَق الذكر في المساجد هم أهل الكرم على الله يوم القيامة. في الحديث الصحيح يقول نبينا : إذا كان يوم القيامة نادى منادي سيعلم  الجمع اليوم من أهلُ الكرم. قالوا ومن أهل الكرم يا رسول الله ؟ قال أهل حِلَق الذكر في المساجد. أهل حلق الذكر في المساجد ﴿ في بيوت أذن الله أن تُرفع ويذكر فيها اسمه ﴾ كم مرات قُلتم لا إله إلا الله، نِعْمَة عليكم، كم مرات قلتم سبحان الله وبحمده سبحان الله وبحمده ؟ فهي نعمة عليكم من الله سبحانه وتعالى، بعد ذلك دعوتم للميت، وكان الميت سبب اجتماعكم، فله الثواب من دون ما تدعوا له، لأن موته سبب اجتماعكم، ومن تسبَّب في أمر فله مثل ذلك الثواب، فكان موته سبب اجتماعنا في هذه الليلة، وفي هذا المسجد، وجئنا من محلات متعددة، ودخلنا بيت ربنا وذكرناه، فهو السبب في ذلك، فله مثل ثوابنا، ثم بعد ذلك قلنا اللهم أوصل ثواب ذلك إلى روح فلان وإلى روح آبائه، فَدَعَوْنا الله زيادة، وقال ربكم ادعوني استجب لكم، جلَّ جلالُه وتعالى في علاه، فهذه رحمة يرحم الله سبحانه وتعالى بها عباده. كان بعض الناس توفي في بعض القرى ويُرى في عذاب، فرآه بعض أهل القرية وهو في حالة حسنة، قال أنت سمعت أنك معذَّب، قال كنت في عذاب، لكن أمس مر رجل صالح على المقبرة فقرأ قل هو الله أحد ووهبها لنا، قال فَقَبِلَها الله منه، ووصلني ثواب رأس الواو، قل هو الله أحد، رأس الواو وصلني فغفر الله لي. فانتقلت من العذاب إلى النعيم. خَلَص أنا الآن في نعيم ببركة قل هو الله أحد. وواحد كان يُرى في عذاب فرآه بعضُهم في حُلَّة من حلل الجنة قال يا فلان أنا أسمع أنك كنت معذَّب، قال نعم ولكن أمس ولدي دخل عند معلم يعلمه القرآن فقال له قل بسم الله الرحمن الرحيم قال فلما نَطَق ولدي بسم الله الرحمن الرحيم، قال الله ارفعوا العذاب عن أبيه فقد ذَكَرَني ابنه بالرحمن الرحيم. قال ببركة تعليم ولده القرآن الرحمن الرحيم رفع الله العذاب عن أبوه، هناك وسط القبر، فما أَبْرَك القرآن علينا، وما أبرك طاعة الله لنا. الله يرحمنا بها، والله يرحم بها من اجتمعنا بسببه وأصوله وفروعهم، يا رب لا تجعل أحد من أهالينا وموتانا في حفرته في عذاب، اجعلهم في رياض من رياض الجنة، واجعل لهم وقاية من النار وارحمنا إذا صرنا إلى ما صاروا إليه قبلنا، برحمتك يا أرحم الراحمين.

اعتبروا بهذا الموقف، وادَّكِروا وانتبهوا من تعظيم أمرِ الله في أنفسكم ودياركم وأهلكم، واحذروا معصية الله، فما سبب الخزي والبلاء في الدنيا والآخرة إلا معصية الله جلَّ جلالُه، والخروج عن أمر الله، وإضاعة فرائض الله سبحانه وتعالى. وتواصوا بالحق والصبر وتعاونوا على ذلك، فإن الناس يخسرون إلا مَن تمَسَّك بأربع خصال: إيمان، عمل صالح، تواصي بالحق، تواصي بالصبر. ﴿ وَالْعَصْرِ إِنَّ الْإِنسَانَ لَفِي خُسْرٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ ﴾. غير هؤلاء خاسرين، بِحَلف من الله. حَلَف بالعصر. وأي شيء العصر ؟ عصر النبي محمد، يعني زمن النبي محمد وقت النبي محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، والعصر، وكذلك هذا العصر الذي يأتي كل يوم أو صلاة العصر التي نصليها، حَلَف الله بها، والعصر، قال إن الإنسان، كل واحد من بني الإنسان في خُسر، إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ. ما قال مؤمن ويعمل السوء، آمنوا وعملوا الصالحات، وما يكفي " آمنوا وعملوا الصالحات "، أيضا يتعاون مع غيره فيتناصحون، فما يرى صاحبه يفعل المعصية ويترك الفريضة ولا يكلمه، يضحك هو وإياه ويشرب ويأكل، انصح أخاك، تواص أنت وإياه بالحق، قل يا أخي هذا ما يجوز، واجب علينا أنا أخوك وأنت أخي، واليوم دنيا وبعدها نلقى الله سبحانه وتعالى فلا بد أنصحك ما دُمنا في هذه الحياة وإلا لا خير في صُحْبَة من يقطع الفرائض أو يعمل المحرمات ويُشركك معه في الإثم وأنت تتفرج وتضحك. قال الله ﴿ الأخلاء يومئذ ﴾ يعني الأصدقاء ﴿ الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ ﴾ الذين يتعاونوا على تقوى الله وقال وتواصوا بالحق وتواصوا بالصبر. قال سيدنا الشافعي هذه السورة تكفي الناس. أين الناس من سورة العصر، لو تأملوها لكفتهم. تكفيهم عن كل موعظة. آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ. اللَّهُ يجعلنا منهم أجمعين.

أنتم الآن تُودّعون أيضاً شهر يذكركم بالنبي مُحَمَّد، شهر ربيع الأول، في مثله بَرَزَ النبي، في مثله وُلِد النبي، وأي شيء حصل في مولد النبي ؟ أشرَقَ النور، ومن هذا النور قام تعليمُنا القرآن، تعليمنا التوحيد، تعليمنا الصلاة، تعليمنا الصوم، كله من هذا النور. قال سيدنا العباس عَمّ النبي له :

وأنت لما ولدت أشرقت الأرض وضاءت بنورك الأفق

فنحن في ذلك الضياء وذلك النور سبل الرشاد نخترق

نِعْمَ النور الذي أضاء لنا، وقد أشار الله إليه في القرآن يقول ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ ﴾ الكتاب المبين القرآن، والنور : محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، ﴿ قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ ﴾ الله يجعلنا منهم.

فالآن تُوَدِّع شهر نبيك بتقوية علاقة بينك وبين هذا النبي. اُنصر نبيك صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، لا تجعل مخالفته في دارك ولا عند أولادك وأهلك " مُرُوا أولادكم بالصلاة وهم أبناء سبع، واضربوهم على تَركها وهم أبناء عشر، وفرِّقوا بينهم في المضاجع " يعني رَبُّوْهم على الحياء، في عشر سنين لا يعرفون الشهوة ولا الحرام، بَعِّد بينهم، ما يبيتون في فَرْش واحد، أولاد عشر سنين لا تتركهم يبيتون في فَرش واحد. فرقوا بينهم في المضاجع، اجعلْ فارِقا بينهم، ليتربَّوا على العفَّة والحشمة والحياء، هذا تعليم النبي وتربيته لنا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم، حتى لا تَحُول الفحشاء ولا تجول ببالهم أبداً، من صِغَرهم يتربُّون على الطُّهر، على العفاف على النقاء على التُّقى.. هكذا ربَّانا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم.

ولما قال لهم إياكم والدخول على النساء يعني الأجنبيات قال واحد: يا رسول الله أفرأيت الحمو؟ يعني أقارب الزوج، قال: الحمو الموت. يعني موت ولا يتداخلون، أَفْضَل يموتون ولا يتداخلون بينهم بينهم البين.

 فلهذا لابد نُعَظِّم أمر الشريعة ونقيمها، ونُحْسن توديع شهر ربيع الأول، نسأل الله أن يختمه لنا بخير، ويبارك لنا ولكم في الجمع ان شاء الله، ونُقيم أوامر الله، ونحافظ على الصلوات ونؤدي الزكوات، ونرعى حق الصيام، ونرعى حق الأقارب وحق الجيران، قال صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم: والله لا يؤمن من بات شبعان وجارُه إلى جنبه جائع وهو يَعْلَم به. قال لا يؤمن،  وهكذا كان بعض المنسوبين إلى الخير في مكة المكرمة، رؤي في بعد موته وإذا به في عذاب. مالك ؟ قال: معي عمّة في الشام، ما انتبهت منها، وَصَلَها العِري، ووصلها الجوع وأنا ما انتبهت منها ولا سألت عليها. فلهذا أنا أُعذَّب الآن، فيقول للراعي من فضلك اذهب إلى عمتي، قل لها تسامحنا، حتى يُنْقِذنا الله من هذا العذاب، وكان الراعي هذا قد أودعه وديعة في حياته، قال له وديعتك دفنتها عند الباب الفلاني في بيتي قُل لأولادي يحفرون فيحصلونها ويردونها لك، فانتبه، قال يا أولاد أنا رأيت أباكم البارح، سألتكم عن الوديعة قلتم لا توجد عندكم، لكن البارح رأيته في النوم وقال لي إنها في المحل الفلاني، فإن وجدتوها صدق، أَعْلَم صدق الرؤيا. فحفروا فوجدوها، قال ما دام وجدتوها، عاد باقي في الرؤيا خبر، هل لأبيكم عمة موجودة في الشام، قالوا نعم، قال شوفوا قَطَعها وما انتبه منها، والآن أنا رأيته البارح في عذاب يقول اذهبوا اتسامحوا له من عمته حتى ينقله الله من هذا العذاب، وفعلاً رجعوا إلى عمته وكاتبوها وقالت ما درى بي ولا درى بحالي ومرَّت علي سنين وأنا في تعب. قالوا الآن هذا المواساة وسامحيه. فسامحت وعَفَت. فبنفسه بعد، قال له جزاك الله خيرا. عمتي سامحت ونقلني الله من العذاب إلى النعيم.

قال الله ﴿ فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِن تَوَلَّيْتُمْ أَن تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَتُقَطِّعُوا أَرْحَامَكُمْ أُولَـٰئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ ﴾ انتبه من حقوق الأرحام، من حقوق الجيران، واحْمَد الله على نعمة الإسلام، واسأله يثبّتك.

 وربِّ أولادك على الطاعة على الخير حتى يكونون ذُخراً لك في الدنيا والآخرة.

جَمْع مبارك إن شاء الله، ويكتب الله لنا القبول، ويرحم الذي اجتمعنا بسببه رحمةً واسعة ويرفَعه في الدرجات الرافعة، أدْخِل عليه في قبره روحاً منك وسلاماً منا، يا أكرم الأكرمين يا أرحم الراحمين، اجعلْ قبرَه روضة من رياض الجنة، اجعل له من عذابك وقاية وجُنّة، تقبَّل جميع حسناته وضاعفها إلى ما لا نهاية، تجاوز عن جميع سيئاته وبدِّلها إلى حسنات، تحمَّل عنه وعنا جميع التبعات، أرِنا وجهه في ظل العرش، أرِنا وجهَه على الحوض المورود، أرِنا وجهَه عند المرور على الصراط، وأرِنا وجهَه في الجنة يا ربنا، أرِنا وجهَه في الجنة يا ربنا، وإذا وقف نبيُّك محمد على الحوض ينتظر الواردين فاجعلنا وإياه والحاضرين من الواردين، والوافدين على ذاك الحوض الشاربين منه شراباً لا يظمأون بعده أبداً، يا أكرم الأكرمين، وارحمنا في جَمْعِنا وارحمنا في تضرعنا ودعائنا. رب دعوناك كما أمرتنا فاستجب لنا كما وعدتنا إنك لا تخلف الميعاد. ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم وتُبْ علينا إنك أنت التواب الرحيم. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. والحمد لله رب العالمين.

 

الحبيب عمر في جامع الخون