الحمد لله ربِّ العالمين، وتباركَ الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وهو الذي جعل الليل والنهار خِلْفةً لمن أراد أن يذَّكَّر أو أراد شكوراً، وأشهد أن سيدنا ونبيَّنا وقرَّةَ أعينِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسوله، أرسله بالهدى ودين الحق ليُظهره على الدين كله بشيراً ونذيراً، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً، اللهم صل وسلم وبارك وكرّم على عبدك ومُصطفاك سيدنا محمد، الذي خاطبتَه في كتابك بقولك: {وَكَانَ فَضْلُ اللّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً }{إِنَّ فَضْلَهُ كَانَ عَلَيْكَ كَبِيراً} ، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار ومن سار في سبيلهم وسلِّم تسليماً كثيراً .
أما بعد، عبادَ الله فإني أوصيكم وإيّاي بتقوى الله، تقوى الله التي لا يقبل غيرها، ولا يرحم إلا أهلها، ولا يُثيب إلا عليها، وهي العُدَّة والزاد والذَّخيرة لدار المعاد .
أيها المؤمنون بالله وبرسوله الصادق الـمُنيب الأوَّاه : إن مُهمَّة مرور الأوقات عليكم وتوالي الأيام في ضِمن أعماركم المحدَّدة المعدودة، القصيرة المحدودة. إن مُهمَّة هذه الأعمار التَّدارُك والاغتنام والتَّزوُّد والاستعداد فيما أشار إليه الحق بقول: { وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً} يخلف الليل النهار ويخلف النهار الليل {لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُوراً }، والذين أهملوا التَّذَكُّر والشُّكور هم الذين أهدرُوا طاقاتِهم في الدهور، وضيعوا النعمةَ فيما أوتوا من فُسْحَةِ الأجل وإمكانيَّة العمل، فيما يمرُّ بهم من ساعات وأيام وليالي وأسابيع وشهور تتكون منها أعوام، ثم لا تطولُ بأحدهم حتى يقدَم على الذي خلقه وبرَاه، وأوجده وأنشاه { كَمَا بَدَأْنَا أَوَّلَ خَلْقٍ نُّعِيدُهُ } {إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى} {إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ } .
أيها المؤمن بالله جل جلاله: انظر كيف تختم شهرَ جمادى الآخرة، وكيف تستقبل شهر رجب.. رجب مضر، الفرد من بين الأربعة الحرم المُشرف الذي كان انتشر بين الناس تعظيمُه وتشريفُه حتى في الجاهلية، فجاء الإسلامُ بتعظيمِ هذا الشهرِ وبتمجيده وبتشريفه.
أيها المؤمن بالله: إن مِن مُهمَّتك في الحياة ومن أعلى تلك المهمة أن تجتمع في خلالها على الله بقلبِك ووِجهتك، وأن تكون جامعاً لعباد الله، لامَّاً لشملِهم، مؤلِّفاً ذات بينهم، مُقرِّباً بين قلوبهم، فهذه من أهمِّ المهمات، في اغتنام الأعمار والأوقات، وفي المكسب من خلال الدقائق والساعات.
أيها المؤمن بالله تبارك وتعالى: وإن أعلى مظاهر جمعيتك على الله تعالى في عُلاه استشعارُك ما فرَّطت في جنب الله، ولجُوؤك إليه مُستغفراً، تائباً، سائلاً التجاوز والصفح الجميل من الرب العظيم المحسن الجليل جل جلاله وتعالى في علاه .
أيها المؤمن: وكلُّ العمر غنيمةٌ للاستغفار، الذي هو ركيزةُ جمع القلب على الله، الذي يحمل معاني:
أولها : استشعار خطئك، استشعارك تقصيرك، استشعار تفريطك في جنب الله.
ثانيها: إيقانُك بأن لك إلهاً يؤاخذُ على الذنب ويغفره، ويُسامح عنه إن شاء ويعاقب عليه، فالأمر له.
وثالثها: حاجتُك إلى هذا الإله وافتقارك إليه بتضرُّعك وابتهالِك وسؤالِك الاستغفار.
إن الاستغفار يحمل هذه المعاني الكبار، إنه طلبُ المغفرة من الكبير، لعظمةِ ذلك الكبير، وخطر المصير، والرجوع إليه جل جلاله وتعالى مِن عليمٍ قدير، سميع بصير، لطيف خبير جل جلاله وتعالى في علاه.
أيها المؤمن: ولقد كان يُعدُّ لنبيك الأطهَر المعصوم في المجلس الواحد مائة مرة مِن طلبِ الغُفران والرحمة من الحي القيوم، يُعدُّ له في المجلس الواحد مائة مرة مِن قول: رب اغفر لي وتُب عليّ إنك أنت التواب الرحيم، لتعلمَ كيف كانت حياةُ نبيِّك في هذا العالم، وبين الأمة وبين الصحب، وكيف كانت مجالسُهم وما صبغتُها وما مظهرُها وماذا يدور فيها، فبِهم فتشبَّه، وعلى منهاجهم إلى الله توجَّه، وأيقِظ القلبَ وتنبَّه، مِن مجالسَ لا يُذكر الله فيها ولا يُستغفر، ولا يُذكر إحسانُه سبحانه ولا يُشكر، ولا يُخطر فيه على البال المآب إليه والرجعى.
أيها المؤمن: زيِّن مجالسَك بزينةِ مجالس هاديك وداعيك إلى ربك ومُرشدِك ومُعلِّمك المجتبى محمد، وهو القائل: طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً .. ألا إن الاستغفارَ دواءُ الذنوب، ألا وإن الذنوب عِللُ البلايا والكُروب والدَّواهي والخطوب في الدنيا والآخرة، سببُ كل المصائب والشدائد والمشاكل والأضرار والبلايا والرَّزَايا، الذنوب التي لا يُطفَأ نارُها إلا باستغفار الحي القيوم السميع البصير جل جلاله. إن العمرَ كلَّه مادةٌ وفُرصةٌ وفُسحةٌ وغنيمةٌ للاستغفار، وكثرة الاستغفار في الليل وفي النهار، وخصوصاً في بعض الأوقات ؛ ففي اليوم والليلة في وقت الأسحار واقرأ قول ربك في القرآن مُثنياً على أهل هذا المسار { الصَّابِرِينَ وَالصَّادِقِينَ وَالْقَانِتِينَ وَالْمُنفِقِينَ وَالْمُسْتَغْفِرِينَ بِالأَسْحَارِ } وانظر إليه وهو يُثني على أهل الإحسان في صريح القرآن يقول : {إِنَّهُمْ كَانُوا قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ * كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالْأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ }، ثم عَقِب الصلوات، بل وعند خروجِك من قضاء الحاجة علَّمك نبيُّك أن تقول: غُفرانَك، يعني: أطلب منك غفرانك يا رب، غفرانك.. غفرانك.. غفرانك، وعَقِبَ الصلوات لتتذكَّر ما قصَّرْتَ في جَنْبِ الله وتسأل اللهَ القبول، وعند المنام، قال صلى الله عليه وسلم: من قال عند نومه إذا أخذ مضجعه: أستغفر الله العظيم الذي لا إله إلا هو الحي القيوم وأتوب إليه ثلاث مرات غُفِرَت ذنوبه وإن كانت مثل زَبَد البحر.
أيها المؤمن بالله جل جلاله: ومن بين الأشهر شهرُ رجب جاء فيه في رواية الديلمي عن علي ابن أبي طالب كرم الله وجهه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم: أكثِروا من الاستغفار في شهر رجب فإنَّ للهِ في كل ساعةٍ منه عُتَقَاء من النار .. وهو الشهر الذي إذا هلَّ هلالُه قال نبيُّنا في دُعائه كما رواه عنه أنس بن مالك: اللهم بارِك لنا في رجب وشعبان وبلِّغنا رمضان، إنه لشهرٌ مبارك، أحسنَ اللهُ قدومَه علينا وبارك لنا وللأمة فيه، لم يكن يُسمع فيه حسُّ القتال تعظيماً وأنزل في شأنه {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ قِتَالٍ فِيهِ قُلْ قِتَالٌ فِيهِ كَبِيرٌ}، وكان يَعْظُم ُعلى النفوس حتى عند المشركين أهل الجاهلية، فانظر إلى الأمة إلى أي حدٍ وصلت في تحدِّيها وانحطاطها ربما بدءوا الحروب لا على الكفار ولكن بعضهم البعض في شهر رجب، وربما في شهر رجب كانت لهم الجولات في إهراق الدماء وسفكِها والعياذ بالله تبارك وتعالى، انظر الانحطاط انظر هذا الهبوط الذي حَلَّ بالأمة التي ضاع زمامُها، ضاع زمامُها من منهج الحق ومسلك رسوله بأيدي الأمناء من أهل النور الدَّالين على ما دعا إليه اللهُ ورسوله صلى الله عليه وسلم، إلى أيدي الفَسَقَة والفَجَرَة والكَفَرَة وأهل الدَّعَاوَى الـمُغترِّين بعقلياتهم بأفكارهم بنفسياتهم، فَهَبَط َحال الأمة وضاعت قيمُها وحَلَّ بها ما حَل.. يا رب أنقذها وأيقظ قلوبهم وحوِّل أحوالهم إلى أحسن الأحوال.
هو الشهر الأصمُّ الذي لم يُسمع فيه حِسُّ القتال، إنه الشهر الكريم المعظَّم، أمِرنا فيه بالإكثار من الاستغفار خصوصاً، وفي الأشهر والأسابيع والأيام والساعات عموماً، طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيرا، قال سيدنا وإمامنا: توبوا إلى الله فإني أتوب إلى الله في اليوم والليلة سبعين مرة، وفي رواية مائة مرة صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
ولقد أورد صاحب كنز العمال رواية أبي الحسن علي بن محمد بن الشجاع الرَّبْعِي برجال كلُّهم ثُقات عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أن الصحابيَّ سأله التابعي: أكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم في رجب؟ قال نعم ويُشرِّفه.. يُشرِّفه يُمجِّده ويعظِّمه، لقد استقبلكم في هذا الأسبوع ذاكم الشهر فانظروا حالتَكم فيه، في جمعِ قلوبكم على الله، وفيما تجمعون قلوبَ العباد المؤمنين.
اللهم أيقظ قلوبَنا، واغفر ذنوبَنا، واكشف كروبَنا، وادفع الآفاتِ والآفات عنا، واجمع شملَ الأمة على ما تحبُّ يا رب العالمين.
والله يقول وقوله الحق المبين : {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}، وقال تبارك وتعالى : {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ}، أعوذ بالله من الشيطان الرجيم : {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِندَ اللّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتَابِ اللّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَات وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ وَقَاتِلُواْ الْمُشْرِكِينَ كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً وَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ * إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُحِلِّونَهُ عَاماً وَيُحَرِّمُونَهُ عَاماً لِّيُوَاطِؤُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللّهُ فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ اللّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ * يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ}.
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم، ونفعنا بما فيه من الآيات والذكر الحكيم، وثبَّتنا على صراطه المستقيم، وأجارَنا من خِزيِه وعذابه الأليم، أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدينا ولجميع المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم .
الخطبة الثانية
الحمد لله الغفور الرحيم، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يقول في حديثه القدسي: ابنَ آدم لو بلَغَت ذنوبُك عنان السماء ثم استغفرتني على ما كان منكَ غفرتُ لك ولا أبالي؛ وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرَّة أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه، سيدُ المستغفرين، وإمام التوابين، المأمون من قِبَلِ ربِّ العالمين على هِدايةِ العالمين، المرسل رحمةً للعالمين. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المجتبى المصطفى الأمين سيدنا محمد، وعلى آله وأهل بيته الطاهرين وصحابته الغُرِّ الميامين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسي بتقوى الله، تقوى الله التي تُؤمَّن بها الثُّغور، وتُدفع بها الشرور، وتَصلُح بها الأمور، وتُشرَح بها الصدور.
تـقـوى إلهِ الـعـالمين فـإنها عزٌّ وحرزٌ في الدُّنى والمرجع
فيها غِنى الدارين فاستمسك بها والْزَم تَنَلْ ما تشتهيه وتدَّعي
ألا وقد ضيَّع التقوى من تَمرُّ عليه الأيام لا يتأمل ما قال وما فعل، ولا يتداركُ ما صدر منه من خطأ وعيْبٍ وزلَل، لقد ضيَّع التقوى من لم يُجدِّد التوبة ويُكثر الاستغفار إلى بارئه وخالقه آناء الليل وأطراف النهار، ضيَّع التقوى مَن تَمرُّ عليه الأشهر ويدخل مثل رجب ويخرج ولا ينزعِج قلبُه لسيّئاته ولا لذنوبه ومخالفاته؛ وإن المؤمنَ يرى ذنبَه كالجبل فوق رأسه يخاف سقوطه عليه، وإن المنافق يرى ذنبَه كذبابٍ وقع على أنفه فقال بيده هكذا فأطارَه؛ فَوَارِق بين أهل الإيمان والنفاق.
أيها المؤمنون: انظروا كيف تجمعون قلوبَكم على الإله الخلاق فهو خير لكم، لقد توزَّعت هِمَمُها ووجهاتها على مظاهر .. على زخارف .. على مُتَّجَهَات .. متنوعات أكثرُها غرورٌ وزورٌ وباطل، فاجمَع قلبَك على الله، إشهد مرجعَك إليه، هل مَرَّ في العمر بك يومٌ لا عِبرةَ فيه!؟ لم تفقِد فيه مِن أهلِ بلدِك مَن يكون فقدُه لك تذكِرة، يرحل الأكبرُ منك والذي في سنِّك والأصغرُ منك في كل يوم وليلة من على ظهر الأرض.. فماذا تنتظر؟ ماذا تنتظر أنت؟ وإلى أين تتجه؟ وما تُقيم في عُمرِك وحياتك ؟ أكْثِر الاستغفار وكن عنصراً جامعاً لقلوب الخلق على الله، احذر المشي بالنميمة، احذر إثارة البغْضَاء والشَّحْناء بين قلوب أهل المِلَّة، فلا يشتغل بذلك إلا من سَقَط من عين ِالعلي الكبير، وتهيَّأ للعذاب الشديد في نار السعير. إن من شِرار عباد الله المشَّاءون بالنميمة المفرِّقون بين الأحبة المبتغون للبُرآء العيب. انطق بما يجمع انطق بما هو عند الله أرْفَع، {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ }، اصرف كلامك في مثل الاستغفار آناء الليل وأطراف النهار، لا تَنْفِر عن استغفار ربك ولا عن ذكره ولا عن الصلاة على نبيه المصطفى محمد، فذلك من خير ما استْعَمَلتَ فيه لسانك ونطقتَ به في حياتك، وسُجِّل في صحائفك بشواهد الكتاب والسُّنة الغَرَّاء، طوبى لمن وجد في صحيفته استغفاراً كثيراً، {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً * وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلاً } قال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: إن أولى الناسِ بي يومَ القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة. وقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: مَن صلى عليَّ صلاةً واحدةً صلى اللهُ عليه بها عشراً.
انطلِق أيها المؤمن في ختام هذا الشهر، واستقبال الشهر المقبل وما بقي من عمرك في جمعِ شملِك على الله، وجمعِ شملِ أصحابِك .. أصدقائك .. أهل بيتِك .. أقاربِك .. جيرانِك.. على المحبة الإيمانية .. على الأخوة في الله .. على التناصح .. على التَّناصُر على موجبات القرب من الله.. على التَّواصي بالحق والصبر، فإن الناس خاسرون إلا مَن آمن وعملَ الصالحاتِ وتواصى بالحق والصبر كما تقرأها في صريحةً في كلام ربك.
أيها المؤمنون بالله: ومن إضاعةِ جمعِ القلوب على الله، وإهمال مهمةِ جمعِ جمع قلوب المؤمنين على ما يرضي الله، عاش الناسُ تلك الأخبار التي تُقلق من استمعَها في ليل أو في نهار، على مدى الليالي والأيام، وتراكمت آثارُ ذلك الإهمال والإضاعة والغفلة، بل والركضُ وراء الذنوب والسعي في إفساد ذات البين وهي الحالقة، هكذا سمَّاها رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: إياكم وفساد ذات البين، فإن فساد ذات البين هي الحالقة، لا أقول تحلقُ الشعر، لكن تحلق الدين.. فكم من حُلِق دينُه ثم صار على صورة في صلاة أو جمعة وهو محلوق الدين بإفساد ذات البَين، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
اصدُقوا مع الله في جمعِ قلوبِكم، وإفشاء روح المحبة والأخوة بينكم، واجمعوا قلوبَكم على الله باستشعار خطرِ الذنوب، لقد تكلم بعض الناس في المسائل التي ليست مِن شأنهم ولا تبلُغها عقولهم، فقيل لبعض سادة التابعين: إن القوم الفلانيين يتكلمون في موضوع كذا، قال: لو أهمَّتهُم ذنوبهم ما خاضوا في ذلك الموضوع .. ولكن الغشَّ في القلوب حَجَب عنها إدراكَ خطر الذنوب. اللهم طَهِّر قلوبنا عن الغش والغل، واجعلنا ممن لعمرِه يغتنم ويستغل، ليصرفه فيما هو أرضى وأحب إليك فيقدَم عليك وأنت راضٍ عنه يا أكرم الأكرمين.
قال صلى الله عليه وآله وسلم: خمس ليالٍ لا تُرد فيهن الدعوة : أول ليلة من رجب، وليلة النصف من الشعبان، وليلة الجمعة، وليلة عيد الفطر، وليلة عيد الأضحى. وكان كبار أصحابه كسيدنا علي بن أبي طالب يُفرِّغون أنفسهَم للعبادة أول ليلة من رجب، وفي ليلة النصف من شعبان، وليلة التروية وليلة عرفة.
اللهم وفِّقنا لما تحب واجعلنا فيمن تحب، وإن الله أمركم بأمرٍ بدأ فيه بنفسه وثنَّى بملائكته وأيَّه بالمؤمنين من عباده تعميماً، فقال مخبراً وآمراً لهم تكريماً : {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً}، اللهم صل وسلم على عبدك الهادي إليك سيدنا محمد الدالِّ عليك مختارِك حبيبنا أحمد، نور الأنوار وسر الأسرار، وعلى الخليفة مِن بعده المختار وصاحبه وأنيسه في الغار، مُؤازرِ رسولِ الله في حاليِ السعة والضيق، الخليفة الشفيق خليفة رسول الله سيدنا أبو بكر الصديق، وعلى الناطق بالصواب، شهيد المحراب، أمير المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى الناصح لله في السر والإعلان، من استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان، وعلى أخي النبي المصطفى وابن عمِّه، ووليِّه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب. وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة وريحانتي نبيِّك بنص السنة، وعلى أمهما الحوراء فاطمة البتول الزهراء وعلى خديجة الكبرى، وعائشة الرضى، وأمهات المؤمنين، وعلى الحمزة والعباس، وسائر أهل بيت نبيك الذين طهرتهم من الدنس والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدرٍ وأهل أُحُدٍ وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائر أصحاب نبيِّك الكريم ومَن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذلَّ الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداء الدين، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم ألِّف ذات بين المؤمنين، اللهم احقِن دماءهم واحفظ أموالهم وأعراضَهم، وصُنْها عن الانتهاكات، آمِنَّا في ربوعنا وأوطاننا، وآمِنِ المسلمين حيث ما حلوا وأينما حلُّوا، وادفع البلايا والرزايا عنا عنهم يا حي يا قيوم، حوِّل حالهم إلى أحسن، وعافِنا وإياهم من أحوال أهل الضلال وفِعل الجـُهال، والجمعة اصرفها عنها والقلوب عليك مجموعة، والأعمال الصالحة إليك مرفوعة، والدعوات عندك مستجابة مسموعة، برحمتك يا أرحم الرحمين.
اللهم ألِّف ذاتَ بينِنا وانشرِ الأخوةَ والرأفةَ والرحمةَ فيما بيننا، اللهم ادفع البلاء عنا وعن أهل لا إله إلا الله، واغفر لوالدينا ومشائخنا ومعلمينا وذوي الحقوق علينا، والمتقدمين في بُلْداننا من أهل لا إله إلا الله، واغفر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، مغفرةً واسعة يا مجيب الدعوات برحمتك يا أرحم الراحمين.
ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان، ولا تجعل في قلوبنا غلاًِ للذين آمنوا ربنا إنك رءوف رحيم.
عبادَ الله: إن الله يأمر بثلاث وينهى عن ثلاث: إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربى، وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظُكم لعلَّكم تذَّكرون.. فاذكروا اللهَ العظيم يذكركم، واشكروه على نعمِه يزِدكم ولذكرُ الله أكبر.
(( لمشاهدة الخطبة ))
(( للإستماع إلى الخطبة ))