الخطبة الأولى
الحَمدُ لله.. الحمْدُ للهِ مولانا السَّميع البصير، الملكِ الحقِّ المبين اللطيف الخبير، الواحد الأحد الحقِّ الفردِ العليم القدير.
وأشهدُ أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، شهادةً هي العُدَّةُ ليوم المرجعِ والمصير، وأشهدُ أن سيدنا ونبينا وقرَّة أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُهُ ورسوله، وصَفْوَتُه وحبيبه السراجُ المنير.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارْكْ وَكَرِّمْ على عبدِكَ المجتبى المصطفى سيدِنا محمد، وعلى آله الأكرمين، وأصحابِهِ الغُرِّ الميامين، وعلى أهلِ مَوَدَّته ومحبَّتِه ومُتَابعته في كل وقتٍ وحين، إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أمَّا بَعْدُ عِبادَ الله: فإني أُوْصِيْكُم وإيايَ بِتَقْوَى الله. وإن المُوْصِين بها والذاكرينَ لها كثير. وإن العاملين بها والقائمين بِحقِّها قليل. وإن الله لا يقبلُ غيرها، ولا يرحمُ إلا أهلها، ولا يُثيبُ إلا عليها؛ وإن مَنِ اتقى الله عاش قوياً وسارَ في بلاد الله آمنا.
ومن ضيَّع التقوى وأهملَ أمرها *** تَغَشَّتْهُ في العقبى فنونُ الندامةِ
أيها المؤمنون بالله ورسوله: وإن مِن أجلى وأعلى مظاهر التقوى، ضبطَ الإنسانِ لحاسةِ السمع وصرفَه إياها لاستماع ما يرضي ربه، وللإنصاتِ لخطابِ إلهه، وبلاغِ رسولِه المصطفى صلى الله عليه وآله وسلم. ثم تخيُّرِهِ ألا يَسْمَعَ ما كان لغواً، فضلاً عما كان باطلاً وإثماً، مِنْ كذبٍ أو غيبةٍ أو نميمة، أو استهزاءٍ بآيات الله. ﴿ وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلَا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّىٰ يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ۚ إِنَّكُمْ إِذًا مِّثْلُهُمْ ۗ ﴾ إنكم إذاً مثلُهُم، من أنصتُّم إلى أقاويلهم واستمعتُم كلامهم، وحضرتُم عندهم وهم يتفوَّهُون بما يتفوهون به من الحديث، فأنتم مثلهم. مادام أنَّه لم تَسُقْكُم ضرورة ولم تحكم عليكم بالجلوس إليهم والسماع لهم. وفي الآية منهاجٌ من اللهِ لنا. ألا نَفْتَحَ آذاننا لكل ما يُنشَر ولا لكلِّ ما يُقال، وألا نستمع لكل أحد، ولكن للحقِّ ولرسوله، ولما وافقَ منهج الله، وسُنَّة مصطفاه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
أيها المؤمنون بالله: يقول المولى تعالى في عُلاه ﴿ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا ﴾.
أيها المؤمنون بالله: ويُنْبِئنا ربنا تعالى أن البشرى مَزْفُوفة من حضرتِه على لسانِ نبيه، لمن يحسنُ الاستماعَ لقوله وقولِ رسوله، ثم يُبْرِمُ الاتباع لما استمع إليه. ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ. أَفَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذَابِ أَفَأَنتَ تُنقِذُ مَن فِي النَّارِ ﴾ إنما عليكَ إبلاغُ الكلامِ الطيب، وإسماعُهم ما إذا أنصتوا إليه فازوا وتخَلَّوا وتَصَفَّوْا عن أدرانهم وعن قاذوراتهم وعن رَانِ قلوبهم، فعليك ذاك البلاغ، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وقد بَلّغَ وأَحْسَنَ البلاغ ﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ﴾ يُكْملون الاستماع بالاتباع، بالاقتداء والانصياع، ولذلك نَجِدُ الرَّحْمَٰن أثنى على قومٍ من الصادقين معه، فوصفَ حالهم عند سماع كلامه تعالى، قال جلَّ جلالُه، ﴿ وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ ۖ يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ ﴾
ولك أيها المؤمن أن تتأملَ حالَ نفسِك وأسرتِك، والكثير ممن تعرف من أصدقائك وأهل بلدك، وممن تعرفُ من هنا وهناك، وانظر في تلك الأحوال، أين غابَ ﴿ تَرَىٰ أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ ﴾ ؟ كيف غاب ؟ كيف صرتَ لا تكادُ ترى عيناً تفيض من الدمع عند سماع كلام الله جلَّ جلالُه. فما الذي دها الأمة !؟ ما الذي حصل على الأمة !؟ ما الذي نازَلَ الأمة !؟ إن الأسماعَ انفتحت لكلامِ الغافلين، ولكلام الفاسقين، وامتلأت بأقاويلهم وأباطيلهم، ليلَ نهار، في وسطِ الديار، وفي السيارات، وفي الجوالات، وفي الآي باد، وفي الأشرطة، وفي الإذاعات، أقاويلُ الباطلين. وأقاويلُ الضالين، وأقاويلُ الغافلين، ملأتِ الأسماع، فَحَجَبَتها عن أن تعي عظمةَ كلام الله، وعن أن تتأثر بكلام الحق، وكلام الهدى، ولقد وصفَ اللهُ المؤمنين بالنسبةِ لسماعِ القرآن، فقال ﴿ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ ﴾ وقال ﴿ إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِمْ آيَاتُ الرَّحْمَٰنِ خَرُّوا سُجَّدًا وَبُكِيًّا ﴾ خرُّوا سُجَّداً وبكياً.
وقد كان هذا الوصف منتشراً في بيوت المسلمين أولَ ما يُسْلِم أهل البيت. أول ما يُسلِم الفرد، وأول ما تُسْلِم الأسرة. ولقد نظر سيدُنا أبوبكر الصديق إلى وَفْدٍ وَفَدَ من اليمن أيامَ خلافته، فتُلي عليهم القرآن، وإذا بالدموع تتحادر وتنهلُّ وتنهمر من عيونهم. فَنَظَرَ الصديقُ، قال هكذا كنا على عهد رسول الله، كنا هكذا مع القرآن. قال باعترافه : ثم قست القلوب. وإنما قَسَتْ قلوبُ الغافلين لا كُقُلوب أولئك الأكرمين، عليهم رضوان الله، ولكن شأنُ الصادقين هكذا، في اعترافاتهم وخضوعِهم للمولى جلَّ جلالُه. ما الذي أصاب الأسماع، فصارت الآيات التي تهزُّ الجبالَ وكادت أن تَنْخلع لها قلوب الصديقين والمقربين، لا تؤثر فينا شيئاً، لا تحرِّك فينا ساكناً، لا نهتزُّ لها، لا نطربُ لها، لا نتأثر بها. هل ذاك إلا لخَلَل ؟ هل ذاك إلا لِعِلَل ؟ هل ذاك إلا لِزَلَل ؟ هل ذاك إلا لانحرافٍ عن الطريقِ الأجمل والسبيلِ الأمثل. فمتى تعودُ إلينا صفاتُ الصالحين، وصفاتُ المتحققين بحقائقِ الإيمان؟ وتمتلئ بها ديارُنا ومساجدُنا، وتمتلئ بها شوارِعُنا وأسواقنا كما كانوا يقولون؟ سوقُ المسلمين كمُصلّى المصلين. في السوق الأمانة، في السوق العمل بالشريعة، في السوق رعاية حق الغبي، ورعاية حق من لا يتقن مهاراتِ البيع والشراء، في السوق النزاهةُ من الغش، في السوق الذِّكْر، في السوق الذكر، في السوق التلاوة. كان فيمن يبيعُ حُفَّاظ للقرآن، كان فيمن يشتري حفّاظٌ للقرآن، وكانوا مع حفظهم للقرآن، لا يهملونه ولا يتركونه.
أيها المؤمنون بالله: كان كثيرٌ من أسواق المسلمين في كثيرٍ مِنَ الأقطار لا يخلو دكانٌ عن مصحفٍ وعن كتاب في الصلاة على النبي صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، يتناوله البائعُ وقتَ فراغه ووقت هدوءِ الداخلين عليه. ارتباطاً بالكتاب، ارتباطاً بِذِكْرِ الملك الوهاب جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه، وقد سمعوا مولاهم يأمُرُهم بالإكثار من هذا العمل، ومن هذا الأمر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا. وَسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَأَصِيلًا ﴾.
وكان في عقولِ المؤمنين الصادقين الخوف على أولادهم أن يسمع أحدُهم الكلمة النابية والكلمة السيئة وكلمة السب وكلمة الكذب وكلمة الشتم، فيحفظون أولادهم في البيوت، لا يأمنون عليهم في الشوارع، وكان في خيار الأمة من يكون في مكة المكرمة، لا يسمح لأولاده الذهاب إلا إلى الحرم، ومعه. قال أخشى أن يصادِفُوا في الشارع من ينطق بكلمة سوء تقرع أسماعهم، تُحَرِّك سوءاً أو تغرس فساداً في قلوبهم أو في بواطنهم.
فانظروا إلى مَن يظن أن اتساع العقل أو المعرفة، باتساع السماع لما يليق ولما لا يليق، كيف زاغ عن سواء الطريق؟ إنَّ المحافظة على السمْعِ مما يُضْعف الإيمان أو يُظلم الجنان فرضٌ مؤكَّد على الإنسان في حق نفسه، وفي حق أولاده وأسرته. وأما أن يفتح أبواب الفُجَّار والكفار وسط الدار، تصيح على مسامع أهله وأبنائه وبناته في كل ليلة، ثم تسري بسببِ ذلك ظلماتٌ في البواطن، وقسوةٌ في القلوب، وربما اجتراء على بعض السيئات والمعاصي، وربما استخفافٌ بالدين، فإن هذا المضيع للأمانة الذي خانَ أهله وأسرَته سَيُحَاسَب عما فتح في بيته من تلك الكلمات البطالة، وتلك البرامج التي صاغ ما صاغ منها أيدي ضلال تحب أن يضلَّ الناس. تحب أن يفسد المؤمنون، تحب أن تذهب الفضيلة، تحب أن تنتشر الرذيلة، هناك أفكار في العالم تحب نشر الرذائل، صاغوا برامج صرنا نأخذها ونُسَلِّم في مقابل أخذها فلوساً من جيوبنا، وننشُرُ ضُرَّها وسمَّها في أسرنا وبيوتنا، ونستمع إليها في غير شعور، في غير إدراك، في غير مُبالاة، ولسنا بمعذورين عند الله جلَّ جلالُه.
إنَّ واهبَ السمع، ما وهبه لك لتُعرِّض نفسك به للضر، ولا للخطر، ولكن لتسمع ما ينفع ولتصونَ نفسك. وقديماً كانوا يقولون:
وسَمْعَكَ صُنْ عن كلام القبيح *** كَصَوْن اللسان عن النطق به
فإنك عند استماع القبيح *** شريكٌ لقائِلِه فانتبِه
وفي الآثار : المُسْتَمِعُ أحد المغتابين. واحد يغتاب وواحد يستمع، قال هذا مغتاب والثاني مغتاب مثله لأنه استمع. قال: أنا ما تلفظت، ولِمَ أَعَرْت سمعَك للمغتاب وربما حركت رأسك وأقررته على الغيبة؟ وأنت تدري أنك مسئول عن سمعك هذا، وأنه يجب عليك أن تُذَبَّ عن عِرْضِ أخيك المؤمن الغائب الذي تتناوله الألسن، حتى يَذُبَّ الله عن وجهك النار يوم القيامة. " مَن ذَبَّ عن عرض أخيه، ذبَّ اللهُ عن وجهه النار يوم القيامة. " وهكذا يكون جزاءُ الخيانة فيمن لم يُبَالِ بهَتْكِ أعراض إخوانه المسلمين.
أيها المؤمن بالله ورسوله: اصرف السمع فيما يوجب لك الرفع وفيما يحقق لك النفع، واجعلها علامة من علامات تقواك لعالم سرك ونجواك. طَهِّرِ البيتَ عن أشرطة لا يحسن استماعها. لو عُرِضَت عليك في القبر لَخِبْتَ، ولو عُرِضت عليك في القيامِ لخزِيْتَ. طَهِّرْ بيتك عما لا يليق السماع، وتَحَكَّم في الأجهزة التي تجلبُ النافع والضار. وتجلبُ الخير والشر، وتجلبُ الفساد والصلاح. تحكَّم فيها. كُنْ رجلاً، كن مسئولاً، قائماً بحقِّ المسئولية عما يُدارُ من البرامج على مسامِعِ زوجتِك وابنتك، وعلى مسامِع ولدك، ومَن أنت مسئولٌ عنه. وهيئ لهم المناخَ ليسمعوا ما ينوِّرُهُم وما يطهِّرهم وما يُقوِّم فكرَهم، وما يُقَوِّم أقدامهم على المنهج الذي يرضاه الله تعالى في عُلاه. كذلك فَكُنْ.
وأكثِرِ الاستماعَ لكلام ربِّك، مُنْصتاً بقلبك، فما أنفعَه لمداواةِ القلوب، وتنقيتها عن العلل والعيوب. كلامُ ربِّ العالمين، ثم كلام حبيبِهِ الأمين، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. ففي تَرْدَاد كلامه وأخبارِهِ وسيرتِه مداواةٌ وطهرٌ للجَنان، ونقاءٌ عن الأدران، وزيادةٌ للإيمان. ألا فاختَرْ لنفسك، واختر لِسَمْعِك وسَمْعِ أسرتك، ما لا تَسْوَدُّ به الوجوه يوم القيامة، وما لا يُفضَحُ أصحابه يومَ ظهور الفضائح وبرُوْزِ القبائح، ولا عاصمَ إلا رحمة الله وستْرُه لمن سَتَره. استرنا اللَّهُمَّ بسترك الجميل. ثبّتْ أقدامنا على أَقْوَمِ سبيل، وارزقنا المتابعةَ لنبيِّك في الفعل والقيل، برحمتك يا أرحم الراحمين.
والله يَقُوْلُ وَقَوْلُهُ الحَقُّ المُبِيْن ﴿ وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ ﴾ وَقَالَ تَبَارَكَ وتعالى ﴿ فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ ﴾ - أَعُوْذُ بِاللهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيْم.
﴿ فَبَشِّرْ عِبَادِ. الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَاهُمُ اللَّهُ ۖ وَأُولَٰئِكَ هُمْ أُولُو الْأَلْبَابِ ﴾
﴿ أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَىٰ قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا. إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلَىٰ أَدْبَارِهِم مِّن بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى ۙ الشَّيْطَانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَأَمْلَىٰ لَهُمْ ﴾
﴿ وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا ۚ أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ. وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾
بارَكَ اللهُ لي ولَكُمْ في القرآن العظيم، ونَفَعَنَا بما فِيْهِ مِنَ الآياتَ والذِّكْرِ الحَكِيم. ثَبِّتنا على الصِّراطِ المُسْتَقِيم، أَجَارَنا مِن خِزْيِه وعَذَابِه الأليم. أَقُوْلُ قَوْلي هَذا وأسْتَغْفِرُ اللهَ العظيمَ لي ولكُم ولوالدينا ولجَمِيعِ المُسْلِمين، فاسْتَغْفِرُوْهُ فإنَّهُ هُوَ الغَفُوْرُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحَمْدُ للهِ الذي وَسِعَ سَمْعُهُ كُلَّ شَيْء؛ وأَشْهَدُ ألا إِلَهَ إلا اللهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ له الملكُ القديرُ القديمُ الدائمُ الحي. وأَشْهَدُ أنَّ سَيِّدَنا ونبيَّنا وقُرَّةَ أعيننا ونُوْرَ قلوبِنا محمداً عَبْدُهُ وَرَسُوْلُه، صَفْوَة اللهِ مِنْ بني لؤي، ائْتَمَنَهُ الله على الرسالة التي عمَّتِ المشارقَ والمغارب، وكُلَّ مُكلَّفٍ من إِنْسِيٍّ وجنيٍّ إلى يوم الدين، فبلَّغ الرسالة وأدى الأمانة ونصح الأمة وكشف الغمة، وجاهد في الله حقَّ جهاده حتى أتاه اليقين.
اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارْكْ وَكَرِّمْ على عبدِكَ المصطفى سيدنا محمد، وعلى آله وصحبه، ومَن سار في دربِه، ومَن مشى على طريقه إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
أما بعدُ عِبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله. فاتَّقُوا الله فيما تَسْمَعُوْنَ وما تُسْمِعُون، مما يَصْدُرُ منكم أو تحملونه عن غيركم بأيِّ وسيلةٍ من الوسائل، وكونوا مع الفضلِ وأرباب الفضائل، واحذروا مما ينشرُ الرذيلة، ويخرج بكم عن الطريقةِ الحميدةِ الجميلة، واسلُكُوا مع المصطفى سَبِيْلَه. صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. فهو الذي علَّمنا من آداب السمع ألا نستمع إلى من لا يحب أن نستمع لكلامه، فقال " من استمع حديث قومٍ وهُمْ له كارهون، صُبَّ في أذنيه الآنُك يوم القيامة " – الآنك : الرصاص المُذابُ بالنار. الرصاصُ المُذابُ المُحَمَّى بالنار يُصَبُّ في آذانٍ تجرّأتْ لِتَتَبُّع كلامِ من لا يحب أن يستمع كلامه. وفي الحديث : إذا كلمك الرجل وهو يتلفتُ فحديثُه عندك أمانة. لا يجوز لك أن تجهر به ولا أن تُخْبِرَ به، فإنه ما تلفَّت إلا وهو يريد ألا يسمعَ أحد. انْظُرُوا إلى شريعةٍ حَفِظَت الأمانةَ على الناس، وعلَّمتنا ماذا نحب أن نسمع، وماذا نُسْمِع، وما الذي يصدر منا من سماعٍ أو إسماعٍ من الكلمات التي تخرج من بين شفتي الواحد منا.
أيها المؤمنون بالله جلَّ جلالُه: ما أجملَ الشريعةَ وأكملَها وما أعجبَ حالِ أهلها إذا أهملوها، وما أغرب شئونهم إذا تركوها، وإذا لم يبالوا بها. فلتكونوا ممن يُحيي منهجَ النبي محمد، وشريعتَه وسُنَّته، فإنه قال لنا: من أحيى سنتي عند فساد أمتي، فله أجرُ شهيد. وفي الرواية الأخرى فله أجر مائة شهيد.
أيها المؤمنون بالله جلَّ جلالُه وتعالى في عُلاه: علَّمَنا رسولُ الله صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم، مما نسمع فنُسمع، يقول: إذا عطس أحدكم فليقل الحمد لله. أسمَعتنا العطسة فأسمعنا الحمدَ للرحمن، ومن أنسب مواضع الحمد : بعد العطسة، لمناسبات كثيرة، ومن جملة ما ظَهَر واكتُشف أنَّ قلبَ هذا الإنسان لحظةَ العطسة يتوقف تماماً تَوَقُّفَ قلبِ الميت. وإنما يعودُ إلى الحياة إثرَ العطسة مباشرة، فكأنها حياةٌ جديدة فكانت مِن أنسب مواضع الحمد. قال فليقل: الحمد لله، وليقل له صاحبه: يرحمك الله، وليقل: يهديكمُ الله ويصلح بالكم. أرأيتَ الألفاظ التي تخيَّرها رسولُ الله لِسَمَاعِها ولإسماعها؟
أيها المؤمنون بالله جلَّ جلالُه: إذا طاب الحديث انتفى الخَبَثُ عن القلب، فإنما المرءُ بأصغريه: قَلْبِه ولسانه. وإنه إذا فَسَدَ الكلامُ فالفساد يحلُّ في القلب ويكثر.
أيها المؤمنون بالله جلَّ جلالُه: يقول بعض العارفين بالله : ما رأيت تقوى إنسان في لسانه، إلا رأيت أثرَ ذلك على جميع أعضائه. إلا رأيتُ أثرَ ذلك على جميع أعضائه.
ألا فَارْعَوْا حقَّ السميع العليم فيما تسمعون، وفيما تُسمعون غيرَكم. فإن وراء ذلك حساباً على الكلمات قلَّت أو كَثُرَتْ ﴿ إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ. مَّا يَلْفِظُ مِن قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ ﴾ اللهم ارزقنا مراقبتك في الغيب والشهادة. وأسعِدْنا يارب بأعظم السعادة، واجعلنا ممن يستمعون القولَ فيتبعون أحسنه. وممن يستمعون للقرآن ويُنصتون فترحمهم برحمتك الواسعة، يا أرحمَ الراحمين ويا أكرمَ الأكرمين, وصُنْ أسماعَ أهالينا وأبنائنا وبناتنا عن كُلِّ ما يرديهم، وعن كل ما يلهيهم وعن كل ما يبعدهم ويقصيهم، عنك وعن الدُّنُوِّ من رحمتك يا أرحم الراحمين.
وأكِثروا الصلاةَ والسلامَ على حبيب الله محمد، فهي من خيرِ ما سمعتُم ومن خير ما أسمعتُم، فإنه من صلى عليه مرةً واحدةً صلى الله عليه بها عشرا. وإنه القائل: إن أولى الناس بي يوم القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة.
وإنَّ اللهَ أَمَرَكُمْ بِأَمْرٍ بَدَأَ فِيْهِ بِنَفْسِه وثنَّى بملائكته المسَبِّحَة بِقُدْسِه، وأَيَّهَ بالمؤمنين من عباده تعميماً فقال مُخْبِرَاً وآمِراً لهم تَكريما :
﴿ إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا ﴾ اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وبارِكْ وكَرِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، نورِ الأنوار وسرِّ الأسرار، وعلى الخليفة مِنْ بعده المختار، وصاحبِهِ وأنيْسِه في الغار، أهلِ الخلافة ومستحقها بالتحقيق، إمام البركة خليفةِ رسولِ الله سيدنا أبي بكرٍ الصِّدِّيق؛ وعلى النَّاطقِ بالصَّواب، الشهيدِ حَلِيفِ المحراب، أميرِ المؤمنين سيِّدِنا عُمَرَ بن الخطاب؛ وعلى النَّاصحِ للهِ في السِّرِّ والإعلان، مَن استحيَتْ منهُ ملائكةُ الرحمن، أميرِ المؤمنين ذي النورين سيِّدِنا عثمانَ بن عفان؛ وعلى أخي النبيِّ المصطفى وابنِ عَمِّه، وَوَلِيِّه وبابِ مدينةِ علمه، إمامِ أهلِ المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدِنا عليِّ بن أبي طالب. وعلى الحسنِ والحسين سيِّدَيْ شبابِ أهلِ الجنة في الجنة، وريحانَتَيْ نبيِّك بِنَصِّ السُّنَّة، وعلى أمِّهِما الحوراء فاطمة البتول الزهراء، وعلى خديجة الكبرى وعائشةَ الرضى، وسائرِ أمهات المؤمنين، وأولادِ النبي الأمين وعلى آل بيته وعمه الحمزة والعباس وسائر أهلِ بيتِ نبيك الذين طهَّرْتَهُم من الدَّنَس والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدرٍ وأهل أحد وأهل بيعة الرضوان وسائر الصحابة الأكرمين، ومن تبعَهُم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعِزَّ الإسلام وانصُرِ المسلمين. اللهم أذلَّ الشركَ والمشركين. اللَّهُمَّ أَعْلِ كلمةَ المؤمنين. اللَّهُمَّ دَمِّرْ أعداءَ الدين. اللَّهُمَّ اجْمَعْ شملَ المسلمين. اللَّهُمَّ ألّف ذاتَ بين المؤمنين. اللَّهُمَّ اصرِفْنَا من جُمعتنا وقلوبنا عليك مجموعة، ودعواتنا عندك مسموعة، وارزقنا الصدقَ في تقواك في الغيب والشهادة. ارزقنا حِفظ الأسماع والأبصار، والأفئدة عما لا يرضيك في السر والإجهار، آناء الليل وأطراف النهار، حتى تنقضي على التقوى والاستقامة منا الأعمار، وتُختَم لنا بأكمل حسن الخاتمة يا كريم يا غفار.
ونسألك أن تجعل آخر كلام كل واحدٍ منا في هذه الدار : لا إله إلا الله، مُتَحَقِّقاً بحقائقها ياذا الجلال والإكرام، ياذا الطول والإنعام، ثبِّتنا عليها واجعلنا من خواص أهلها، يا من يثبِّت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا وفي الآخرة، ثبتنا على لا إله إلا الله، واحشرنا في زمرة كُمَّلِ أهلِ لا إله إلا الله، واغفِر لآبائنا وأمهاتنا وأجدادنا وجداتنا، وذوي الحقوق علينا، وللقائمين على المسجد والساعين إليه، وللساعينَ في خيراتِ ومصالح المسلمين مخلصين لوجهك الكريم. واغْفِر للمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، موتاهم وأحياهم، من مضى منهم ومن هو حاضر ومن يأتي إلى يوم الميقات، بأوسع المغفرات يا غفار. كَفِّرْ عَنّا وعنهم الذنوب والسيئات والأوزار، وأَجِرْنا من الخزي وعذاب النار، واحشرنا في زمرة نبيك المختار يا كريم يا غفار، يا أكرمَ الأكرمين ويا أرحمَ الراحمين.
أصلِح يمننا وشامنا وشرقنا وغربنا والمسلمين حيثما كانوا. اللَّهُمَّ فَرِّجْ كروبَهم وادفعِ البلايا عنهم، واحْقِنْ دماءهم وصُنْ أعراضهم وأموالهم واحفظ عليهم دينهم. اللَّهُمَّ أصلِح لنا دينَنا الذي هو عِصْمَة أمرنا، وأصلح لنا دنيانا التي فيها معاشنا، وأصلح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعلِ الحياة زيادةً لنا في كل خير، واجعل الموتَ راحةً لنا من كل شَرّ.
اللَّهُمَّ وأسمِعنا في القيامة البشائر، واجعلنا ممن تَنْظُر إليهم وتكلمهم في تلك المحاشر، واجعلنا من الداخلين مع حبيبك المصطفى صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم إلى دار الكرامة مع عبادك المقربين من كل بَرٍّ مُنِيْبٍ شاكر. ياذا الجلال والإكرام ياذا الطَّول والإنعام، أصلِحنا والمسلمين، واحفظنا والمسلمين، واحرسنا والمسلمين، ووفقنا لما تحبه وترضاه يا رب العالمين، وكُنْ لَنا بما أنت أهله يا أكرمَ الأكرمين. ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة وقنا عذاب النار. ربنا وآتنا ما وعدتنا على رُسُلِكَ ولا تُخْزِنا يوم القيامة، إنَّك لا تُخْلِفُ الميعاد. ربنا تقبَّل منا إنك أنت السميع العليم، وتب علينا إنك أنت التواب الرحيم، نسألك لنا وأهلينا وأولادنا وأحبابنا والأمة من خير ما سألك منه عبدك ونبيك سيدنا محمد، ونعوذ بك مما استعاذك منه عبدُك ونبيك سيدنا محمد، وأنت المستعان وعليك البلاغ ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم.
عِبادَ الله. إنَّ اللهَ أَمَرَ بِثَلاثٍ وَنَهَى عن ثلاث : ﴿ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ ۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ ﴾ فاذكروا اللهَ العظيم يذكركم، اُشْكُرُوْهُ على نِعَمِهِ يَزِدْكُمْ. ولَذِكْرُ اللهِ أَكْبَر.
للاستماع للخطبة