بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله خيرِ مَن يهدي ومن يدُل، وصلى الله وسلَّم على حبيبه المصطفى أكرم داعٍ وخير هادٍ ختم اللهُ به الرسل، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المصطفى سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه من ساروا في خير وأقوم السبل. ولقد تركنا رسول الله على المحجَّةِ البيضاء ليلُها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، فنسأل الحقَّ أن يسلكَ بنا أشرفَ المسالك.
أما بعد فإلى إخواننا في الشحر المباركة، سعاد وسمعون المنورة، وإلى جميع أحبابنا في الله:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته
نسأل الله أن يجعلكم في من استمع فانتفع، وارتفع واتسع، واطَّلع على حقيقة الحق، وذلك هُدى الله يهدي به من يشاء (يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاء)
وإن ما هو قائمٌ بين الناس، مما يقتضي التنازع والتخاصم والتسابُب والتشاتم فتنٌ كقطع الليل المظلم، لم يهمل ذكرَها صاحبُ الرسالة ولم يخلِّ عن النصيحة فيها ولمن يدركها من أمته صاحبُ الدلالة، إنه الأمين المأمون، إنه المؤتمن من قِبل رب العالمين الذي أحاط بكل شيء علماً وأحصى كلَّ شيء عددا، أن يهديَ العباد على مدى الأيام والليالي والسنين والقرون إلى يوم التناد، وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، قال نبينا وسيدنا ( وبُعثتُ إلى الخلق كافَّة) صلوات الله وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه.
إن هذه الدعوات التي تدعو إلى التنازع، كلُّ من أجابها وقع في ذاك التنازع المَقيت، الذي ليس له من عاقبةٍ إلا الفشل وذهاب النصر، كما سمعتم في صريح قول الله تعالى ( وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ*وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ خَرَجُواْ مِن دِيَارِهِم بَطَرًا وَرِئَاء النَّاسِ وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ وَاللَّهُ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ).
الهدي النبوي في التعامل مع الفتن
أيها الأحباب في الله تبارك وتعالى: إن المرحلة التي نمر بها، ويمر العالم بمَن فيه بها، من جملة المراحل التي تحمل أنواعاً من الفِتن الصماء العمياء الدهماء، ومع ذلك ففيها كما كان في ما قبلها ويكون في ما بعدها نورٌ مضيءٌ لمن أراد أن يستضيء، من استضاء به علم كيف يعامل ربَّه في الشؤون، وكيف يتعامل مع تلك الحوادث في الظهور والبطون؛ وفي هذا النور المضيء أسرارُ نصرِ الله للنبي محمدٍ الصادق خير الخلائق صلى الله عليه وسلم، وفيه حصادٌ لكثير من رؤوس الشر والفتنة، وفيها مع ذلك حِكَمٌ لله تبارك وتعالى، و أن المستضيء بهذا النور، يعبر عمرُه على حال حَسَنٍ صالح، وعمل مبرور، وسعي عند الله تعالى مشكور، فهو رابح، وهو فائز وظافر.
أيها الأحباب في الله جل جلاله وتعالى في علاه: معنا نبأ ممن أُنزلت عليه سورة النبأ، ذلكم المصطفى الحبيب، والمبلغ عن الإله السميع المجيب، عمّا يحدث على ظهر الأرض من أنواع الفتن، ومنها ما جاء في رواية الإمام أحمد وأبي داود والحاكم وابن ماجه والبيهقي عنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم: ( إن بين يدي الساعة فتنًا كقطعِ الليل المظلم، يصبح الرجل فيها مؤمنًا ويمسي كافرًا، ويمسي مؤمنًا ويصبح كافرًا، القاعد فيها خيرٌ من القائم، والقائم فيها خيرٌ من الماشي، والماشي فيها خيرٌ من الساعي: فكسِّروا قسيِّكم وقطِّعوا أوتاركم واضربوا سيوفكم بالحجارة، فإن دُخل على أحد منكم بيته فليكن كخير ابني آدم ) وزاد أحمد وأبو داود : قالوا: فما تأمرنا؟ قال : كونوا أحلاسَ بُيوتِكم ».
أنجد أنصح منه؟ أم نجد بياناً أفصح من بيانه؟ إنه أشجع الخلق، وأكرم الخلق، والذي علَّم الناسَ تقديمَ الأنفس والأموالَ لله خالصةً مخلصة نياتهم، طيبةً بها قلوبُهم ونفوسُهم، يبين هذا البيان ويقول أبعِدوا عن استعمال الأسلحة، فليس الوقتُ وقتَها، ولا المجال مجالها، وليست مؤديةً إلى خير، فكسروا قسيِّكم، وقطِّعوا أوتاركم، واضربوا بسيوفكم الحجارة، صلوات ربي وسلامه عليه، وهو سيد المجاهدين وهو خير المجاهدين.
هذه دعوته وهذا بلاغه، يبينه أحاديث متعددة جاءتنا عنه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، منها قوله عليه الصلاة والسلام عند ذكرِ الفرق والافتراق والتباعد بين الناس: (فالزم إمامَ المسلمين وجماعتَهم) فإن لم يكن جماعة ولا إمام؟ قال (فاعتزل تلك الفرق كلها، ولو أن تعضَّ بأصل شجرة حتى يدركك الموت) رواه البخاري، وجاءنا عنه صلى الله عليه وسلم: ( تكون دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، هم مِن جِلدتنا ويتكلمون بألسنتنا) فما تأمرنا يا رسول الله؟ قال: (الزم إمامَ المسلمين وجماعتَهم، فإن لم يكن إمام ولا جماعة؟ فاعتزل تلك الفرق كلَّها) رواه البخاري ومسلم وغيرهما، من رواة السنة عن سيد أهل الفطنة، الحصن من كل فتنة، ذاكم محمد صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه.
وتتابعت الأحاديث منه، في بيان الواجب في تلك الأحوال وعند ذلك الاشتباك الذي يحصل بين الأمة، وهو أجلى ما يكون في عصرنا الذي نعيش فيه، وانظر إلى الروايات التي وردت في شأن هذا الاشتباك بين الخلق، يقول صلى الله عليه وسلم للصحابي سهل بن سعد: (كيف بك إذا بقيتَ في حُثالة من الناس قد مرجَت عهودُهم وأماناتُهم واختلفوا فصاروا هكذا- وشبك بين أصابعه-؟ قال: الله ورسوله أعلم قال: اعمل بما تعرف ودَع ما تنكر وإياك والتلوُّن في دين الله، وعليك بخاصَّة نفسك ودَع عوامَّهم ). رواه الطبراني بإسنادين رجال أحدهما ثِقات عن خير البريات، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
مصيبةُ الأمة أن يطلبوا حقيقةَ الدين من عند غير النبي محمد، من أهوائهم، من عصبيَّاتهم، ممن اتخذوهم في دين الله تعالى مشايخَ على غير بصيرة، والعياذ بالله تبارك وتعالى. بل نصَّ صلى الله عليه وآله وسلم أنه في تلك الفتن، تُعمر المساجد وهي خاليةٌ من النور والهدى، ويكون علماء فيها قادة الفتنة وسببها، هكذا يخبر صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله، إن كان الدين النصيحة فهو أكرمُ ناصحٍ ينصح أمتَه، وعلينا أن ننتصح بنُصحِه صلوات ربي وسلامه عليه، وأن نخرج عن هذه الوَرَطات التي نجد فيها الاستنادَ واللياذَ بقوى الكفر من مختلف الطوائف، فأين معنى الاستناد إلى الله والاعتماد عليه؟
أيها المؤمنون: ليس الذي يدعو إلى حقيقة ما يحبه الله من ادعى أنه المخلِّص ولا من ادعى أنه المنقِذ ولا من ادعى أنه الفاهم ولا من ادعى أنه الواعي، ولكن مَن يمتلئ القلبُ برؤيته وسماعه خشيةً من الله، وإنابةً إلى الله واستشعاراً لقُرب الأجل والموت والحساب العظيم عند الله تبارك وتعالى، مَن تورَّع عن الدماء وعن الأعراض وعن الأموال، وخاف من الله تعالى مخافةً ظهرت آثارُها على تعاملِه، هم الذين يدلُّون، هم الذين يرشدون، هم الذين يصدقون مع الله، ويصدقون مع خلقِ الله، جعلنا الله في الصادقين، وألحَقنا بالصادقين، وجعلنا في الهداة المهتدين.
الاستعانة بالكفار في الحرب
إنَّ صاحبَ الرسالة يخرج في قومٍ قليل من أصحابه، يواجه كثرةً من المشركين بعَدد كبير وعُددٍ قوية، فيلحقه كافر ويقول له أكون معك وأقاتل؟ قال (إنا لا نستعين بمشرك) هكذا يقول صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، يرويه لنا الإمام أحمد في مسنده والنسائي وابن ماجه وغيرهم. وفي صحيح مسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم قِبل بدر، فلما كان بحرَّة الوبرة أدركه رجل قد كان يُذكر منه جرأةٌ ونجدة، ففرح أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم حين رأوه، فلما أدركه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم: جئتُ لأتبعَك وأصيبَ معك، قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: « تؤمن بالله ورسوله ». قال لا قال « فارجع فلن أستعين بمشرك ».
إنا لا نستعين بمشرك في قتال المشركين، فهل نسمع اليوم هذا الاحتدام وهذا الاشتداد بين المسلمين يقابَل فيه كافر، يُقابَل فيه كافر حربي؟ لو قوبل فيه الذميون لقُلنا نَقْض عهد وخروج عن ذمة محمد، وأصحابه على خطر، ولكن الواقع أن المسلمين يقابلون بعضَهم البعض، ولا يبالون أن يستندوا بل أن يستغيثوا بالمشركين والكافرين، على بعضهم البعض، أليس هذا هو الواقع؟ أليس هذا هو الحاصل؟ من يجني ثمرة هذا التنازع؟ من يستفيد من واقع هذا التباعد والتشاتم والتقاتل والتسابب؟ يقول صلى الله عليه وآله سلم ( سباب المسلم فسوق، وقتاله كفر) متفق عليه.
وفينا من يرى الإسلامَ والدّين رأيَه، ومذهبَه، وحزبَه!! لا أدري أين موقعُ الله عنده!؟ وأين موقع النبي محمد بن عبد الله!؟ وأين الخضوع لحقائق التوجيهات الواردة عن الله ورسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وبنى فهمَه على أي أسس؟ ومن أي باب دخل إلى رحاب الكتاب والسنة والوحي المنزل؟ وكيف يتعامل مع النصوص الواضحة البيِّنة؟ كيف يسهُل عليه ليُّ النصوص أو تأويلها بما لا يتفق مع القواعد، أو إبعاد بعضها أو التغاضي عن البعض الآخر ليصل إلى مُراد نفسِه أو هواه.
ضرورة الابتعاد عن أطراف الفتنة:
إن الجهاد في سبيل الله على أوضح مجالاته وحالاته، لو قام فدخل في النية ذرّةٌ من قصدِ غير الله لضاع صاحبُه، قال صلى الله عليه وآله وصحبه: (من غزا وهو ينوي عقالاً فله ما نوى) رواه أحمد والنسائي والطبراني والحاكم، فكيف إذا كان الأمر ليس بواضح القيام فيه على حقيقةٍ من الدين ولا حقيقةٍ من النور ولا حقيقة من الجهاد في سبيل الله تبارك وتعالى إلا ما يدَّعيه أصحاب كلُّ طائفة أنهم مجاهدون ضد طائفة أخرى.
إنها الفتن العمياء الصماء، إنها الفتن المظلمة، لا تكن فيها طرفاً من الأطراف يقضي به الكافر والفاجر غرضَه، أو يتَّخذه جسراً لينال شيئا من مُراده، ولا بلَّغ الله أعداءه مُراداً فينا ولا في أحدٍ من أهل الملّة، ولا في أحد من أهل القِبلة.
يجب أن يتألم قلبُك أن أصبح الناس من أهل هذا الدين العظيم عُرضةً لأن يُسيَّروا ويُدبَّروا من قبل قُوى الكفر ليُضعِفوا بعضَهم البعض، ويؤذوا بعضَهم البعض، ويقتلوا بعضَهم البعض، ويتطاولوا على بعضهم البعض، ويسبُّوا بعضَهم البعض، من أباح لهم ذلك؟ من زيَّن لهم ذلك؟ وعلى أي أساس يقيمون ذلك؟
أهمية القيام بخاصَّة نفسك:
أيها المؤمنون بالله جل جلاله وتعالى في علاه: خاصَّتكم التي دعاكم إليها صاحبُ الرسالة أقيموها، وفيها جهادٌ واضح بيِّن لا غبارَ عليه، بهديِ تربية الأولاد، وتربية الأسرة، والمحافظة عليهم من هذه البرامج المفسدة للعقول، المفسدة للأخلاق، المفسدة للحال مع الله جل جلاله وتعالى في علاه، (فعليك بخاصَّة نفسك)، كما تقدم من روايات هذا الحديث الذي عبَّر صلى الله عليه وسلم بلسانه وشبَّك بين أصابعه ليبين ما يحصل بين الناس.
وفي رواية لابن ماجه والطبراني والحاكم يقول صلى الله عليه وسلم: (كيف بكم بزمانٍ، يوشك أن يأتي يغربل الناس فيه غربلة ويبقى حُثالة من الناس قد مرجت عهودهم وأمانتهم واختلفوا وكانوا هكذا) قالوا كيف بنا يا رسول الله إذا كان ذلك؟ قال: (تأخذون بما تعرفون، وتدعون ما تُنكرون، وتُقبلون على أمرِ خاصَّتكم وتذرون أمرَ عامتكم) تذرون أمرَ عامتِكم من تلك التحزُّبات، من تلك الأغراض التي تعرِّض الناسَ لسفكِ الدماء وانتهاك الأعراض والحرمات والعياذ بالله تبارك وتعالى.
كل من قال أنه بحركته يريد دفعَ الظلم، ويا ما أحسنَ دفع الظُّلم؛ إنا نجد ظلماً نارُه تشِب، انتهاكات لم تكن قبل أن يتحرك هذا، وفساد لم يكن قبل أن يتحرك هذا، ودماءٌ بلا عدد تُسفك لا كقبل أن يتحرك هذا، فما هو الدفع للظلم أيها المؤمن!؟
بل ربما صرح من يصرح، "ولو يُقتل منا الأعداد الكبيرة"، على حساب من؟ وفي مصلحة من؟ وعلى أي كتاب؟ وعلى أي سُنة؟ وعلى أي منهاج؟ وبرأي من؟ وهل الآراء حاكمةٌ على النصوص؟ حاكمة على المسالك التي سلكها الصحابة والتابعون وتابعوا التابعين وتابعوهم بإحسان رضي الله عنهم؟ لقد صلى جماعةٌ من خيار الصحابة وكبار الصحابة خلف الحجاج بن يوسف الثقفي الذي كان يسفك الدماء ظلماً، أفي دينهم خلل؟ أفي اعتقادهم باطل؟ أفي شجاعتهم نقص؟ هم أشجع الأمة وخيار الأمة وأفاضل الأمة، ولم يكونوا ليشتروا بدين الله ثمناً قليلا.
أيها المؤمنون بالله تبارك وتعالى: اعلموا عظمة الإله المدبِّر لشؤون الكون، والذي يقيم الفتن ليفتَتِنَ بها من يفتتن، بل ليحيا من حي عن بينة ويَهلك من هلك عن بينة؛ إن الذي اختاره فأرسله إلينا لم يقصّر في البيان، ولم يقصر في إيضاح الأمر على وجه التمام والكمال، فلنشتغل بخاصة أنفسنا كما أمرنا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
ويأتي لنا في رواية من رواياته، (كيف ترون إذا أُخِّرتم في زمنِ حثالة من الناس قد مرجت عهودهم ونذورهم فاشتبكوا فكانوا هكذا) – وشبك بين أصابعه – قالوا: الله ورسوله أعلم، قال(تأخذون ما تعرفون)، ما عرفتم من سر الأدب، من سر الصدق مع الله، من سر إيثار الله على ما سواه، من الذكر من الشكر من حسنِ العبادة، من القيام بواجباتكم، قال (وتدعون ما تنكرون) من السب، من الشتم، من انتهاك الحرمات، (ويُقبِل أحدُكم على خاصةِ نفسه ويذر أمر العامة)
ولا يزال الأمر كذلك في البيانات النبوية، تترى بياناً بعد بيان، وقد جاء هذا الذي روينا في رواية الطبراني بإسناد رجاله ثقات، وخذ رواية الإمام أحمد وأبي داود والحاكم وابن عساكر عن ابن عمر (يوشك أن يأتي زمان يغربل فيه الناس غربلة، وتبقى حثالة من الناس قد مرجت عهودُهم وأماناتُهم واختلفوا فكانوا هكذا) كيف بنا يا رسول الله؟ قال (تأخذون بما تعرفون وتدعون ما تُنكِرون وتقبلون على أمر خاصتِكم وتذرون أمرَ عامتكم) أتقبل نصحَ رسولك؟ من يغريك أن اشتغالَك بأمر العامة في هذه الفتن هو الشجاعة وهو الدين وهو اليقظة وهو التقدم وهو الإعداد وهو الاستعداد.. من قال لك ذلك؟ رسول الله قال غير ذلك! فتصدق من؟ وتمشي وراء من؟
أيها المؤمنون بالله جل جلاله: أمانة في الأعناق يجب أن تُؤدَّى، يُرثى حالُ الأمة التي اجتمع عليها عدوُّها كما تجتمع الأكلةُ على قصعتهم من الطعام، ويتناوشونهم ويتهاوشونهم ويفرِّقون بينهم، ونراهم هذا يقول عنهم كذا وكذا، كأن الأمرَ تحت دولتهم وفي محلِّ حكمهم، شؤون المسلمين كأنها تحت حكمهم وفي أمرهم، يتشاورون هم فيها، بل يصرّحون تصريحاً واضحاً بيِّناً، ويقول قادتهم "إنا سنتصرف في الحادثة الفلانية والبلدة الفلانية حسب ما تقتضيه المصلحة العليا لنا!" مصلحتنا العليا ومصلحة بلادنا العليا.. قادتهم يقولون هكذا، ويبرزونه للناس، حسب مصالحهم نكون نحن جسورا لإنفاذهم، لوصول مصالحهم التي فيها ما يناقض أمرَ الدين من أصله وأمر الملة كلها أو يهدف إلى إيذاء المسلمين وضعفهم، وهم يصرحون بهذا ونحن نقول لهم أغيثونا؟ وتفضلوا إلى بلداننا؟ والى إخواننا وقطّعوا الرباط واضربوا البنيان وهدّموا وسط ديارنا وبلداننا؟ ما أعظمها من فتن.. جلَّى اللهُ عنا هذه المحن ورفعَ الشر.
تعامل المؤمن في هذه المرحلة:
قد فهمنا من خلال ما طرحنا كيف يتعامل المؤمن مع المرحلة، وأمامنا الواضح البين من الذكر والشكر والتعاون على البر والتقوى، وأما إذا كان أمامه ما تنكره القلوب وما ليس بواضح ولا بيّن فيبتعد عنه ومهما كان من العلماء من يقول كذا ومن يقول كذا، فإنه على يد منسوبين إلى العلم تكثُر الفتن بإخبار جد الحسن صلى الله عليه وسلم بل يكونوا هم أساس فيها والعياذ بالله تبارك وتعالى.
وندعوك مع ذلك أن لا تسيء الظنَّ لا بذا ولا بذاك، وتطوي باطنَك على حسن ظنٍّ بعباد الله، ولكن لا تزج بنفسك في ما قال ذا ولا في ما قال ذا، واعتزل تلك الفرق كلَّها بأمرِ صاحب الرسالة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، اعتزل تلك الفرق المتنازعة المتشابكة المتناحرة المتقاتلة، فاعتزل تلك الفرق كلها، وورد في رواية (خير لأحدكم أن يصيبه ما يصيبه ولا أن يتبع أحدا من تلك الفرق)، هكذا في معنى ما صح عنه صلى الله عليه وسلم، فلنتقِ الله ولنهتدِ بهدي المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه
ونسأل الله الهداية لعلمائنا ولأمرائنا ولأغنيائنا ولفقرائنا ولحكوماتنا ولشعوبنا وللأمة في المشرق والمغرب إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين؛ اللهم ثبِّتنا على المتابعة للنبي الأمين، وسِر بنا في دربه، واسقِنا من شربه واجعلنا في حزبه وأدخِلنا في دائرة أهله وصحبه، ولا تفرق بيننا وبينه في الدنيا والبرزخ والآخرة برحمتك يا أرحم الراحمين.
أثر الدعوة المحمدية في جمع الشمل:
إن دعواتِ التنازع دعواتُ الفشل ودعواتُ الهزيمة، ولكن دعوة محمد دعوة النجاح ودعوة النصر، وإنه بالقلوب التي تُصغي لهدي محمد ولندائه في هذه الأمة، تستمر نزولُ الرحمات واللطف من الله في الشدائد والملمَّات، وتأخذ الفتن من تأخذ، ويأتي بعدها فرجٌ لا ريب فيه ولا شك من الله العلي العظيم القوي، لقومٍ لا يستندون إلى شرق ولا إلى غرب، ولا إلى حكومات ولا إلى غيرها، بل إلى الله يستندون، وعليه يعتمدون، وفي سبيله يقاتلون، لا تحملهم لذلك عصبية ولا رأي ولا حزبية ولا إرادة سلطة ولا إرادة مال ولا غير ذلك.
سُنة الله سبحانه وتعالى قد مضت في عباده، وينصر الله من يشاء، ويؤيد من يشاء وإن العاقبةَ للمتقين وحدهم، لا نصيبَ لسواهم فيها مهما خططوا ومهما دبروا، لكن انتزع من كثير من القلوب الإيمان بالله ورسوله، وما قال الله ورسوله، إلى الإيمان بالخطط والإيمان بالمخططين وكأنهم الفعَّالون، وإن الفعَّال لما يريد واحد، هو يبدئ ويعيد (وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ * فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيدُ)
فلنجتمع على الرأفة والرحمة بمَن وقع في الشدائد ووقع في النكبات، ونأخذ ما نعرف من إنقاذٍ نستطيعه، من إمدادٍ نستطيعه، من دعاءٍ نستطيعه، من دعوةٍ نستطيعها، من مساعدةٍ بيِّنة واضحة، ليست طرفاً في النزاع ولا سبباً لتوسيع نطاقه بين العباد والأتباع، مستعينين بالله تعالى مسترحمين له في إخواننا الذين وقعوا في فخِّ تسليطِ الأعداء وتسييرهم لهم في أمورهم، واتخاذهم جسوراً يعبرون عليها.
ونقول يا رب أنقذ أمةَ محمد، ويا رب أغِثهم، وإن فيهم من ينطوي عليه الأمر وتنطوي عليه الحيلة، وإنهم لا شك على نياتهم سوف يُحشرون ويكون مآلُهم إليك على حسب النيات، إلا أنه لا معنى للتمادي بعد ظهور الآيات ووضوح الدلائل من خاتم الرسائل صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومع ذلك كله فمن انطوى عليه الأمر فالحال كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في من يُخسَف بأولهم وآخرهم (ويُحشرون على نياتهم) إلا أن طالب الحق لا يجد شحاً في موارد البيان عن الرحمن ورسوله المصطفى من عدنان صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وقد قال صلى الله عليه وسلم :( يحمل هذا العلمَ مِن كلِّ خلفٍ عدوله، ينفون عنه تحريف الغالِين وانتحال المبطلين وتأويل الجاهلين) رواه البيهقي وابن عساكر، يصير صافياً نقيّاً كما بلَّغ النبي الأمين.
وسائل لتحقيق النصر:
استنصروا اللهَ بأدبكم مع الله، وصدقِكم مع الله، وقيامكم بالفرائض، وأدائكم للمندوبات بما استطعم، وتعاوُنكم على ما يرضي الله في محيط الفرد والأسرة والمجتمعات، وانتظروا فرجَ الله سبحانه وتعالى للأمة، ولا تكونوا أطرافا في هذه النزاعات، ولا سبباً تجري به خططُ أعداء الله تبارك وتعالى، والله لا يبلِّغهم مراد، ونارهم تصبح رماد، بكهيعص في الحال ولوا خائبين. ربنا اغفر لنا ذنوبنا وإسرافنا في أمرنا وثبِّت أقدامَنا وانصرنا على القوم الكافرين.
ألا خذوا لذةَ حلاوة بركة قبول رمضان، بصدقِكم مع الرحمن، واستقبلوا هذه الأشهر الحرم وأشهر الحج وموسمه بضراعة واستغاثة بالله جل جلاله ولجوء إلى الله ، ولا ترتجوا الفرجَ من غير الله، فليست على ظهر الأرض شعوب ولا دول صغُرت أو كبرت، قلَّت أو كثُرت منقذةً لكم دونَ الله جل جلاله وتعالى في علاه، فانظروا على من تعتمدون وإلى من تستندون، واعملوا بما يحب منكم، خذوا ما تعرفون معرفة واضحة، ودعوا ما تنكره القلوب، من كل تحامُل ومن كل غيظ ومن كل أذى ومن كل انتهاك للحرمات ومن كل سباب وشتم، اصدقوا مع الله، وارجوا الله أن يجمع الأمة بعد شتاتها، وأن يؤلف ذات بينها، وأن يدفع عنا الشر والزيغ والضلال.
اللهم اهدنا لأحسن الأعمال والأخلاق لا يهدي لأحسنها إلا أنت، واصرف عنا سيئها لا يصرف عنا سيئها إلا أنت، ومُنَّ علينا بما مننتَ به على رعيلنا الأول حيث خاطبتَهم بقولك (وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُوْلَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ* فَضْلا مِّنَ اللَّهِ وَنِعْمَةً وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ)
وقبل منكم جمعكم واجتماعكم في ساحة هذا الرباط ورزقكم كمال الارتباط وأعلى درجات صاحب الذكرى حبيبنا عبدالله بن عبدالرحمن وجزاه الله خير الجزاء، إنه الذي صبر وصابر وكابد ورابط واجتهد في الله سبحانه وتعالى، ولو اتبع النفس في شيء من المراحل التي مرت في عمره، لما بقي هذا الرباط ولما بقي هذا الارتباط، وصبر في ما مر عليه، وقد علمتم أنه مرت سنوات أُخذ الرباط لغير المقصد، ولغير ما أسسه المؤسس، فهل دام شيء من ذلك؟ وكيف رجع الأمر إلى الأصل والأساس بصدقِ ذلك المؤسِّس وإخلاصه لوجه الله الكريم، إنه كان مقتدياً مهتدياً بأثر من مضى قبله مِن أهل ذلك المسلك القويم، والصراط المستقيم، الذين مشوا على ذاك الدرب وصبروا وصابروا واجتهدوا، وكذلك كان الصحابة والتابعون، وتابعوا التابعين، وقد جاءهم في واقع حياتهم من الاختبار ومن الإثارة ما لو ثاروا معه بأهوائهم لما بقوا ولا بقيت آثارهم ولا بقي مسارهم معموراً من بعدهم كحالِ كلِّ من تأثر تلك التأثرات، على غير بيِّنة من الله تبارك وتعالى.
اللهم اجمعنا بالصادقين معك في دار الكرامة وأنت راضٍ عنا، واجعلنا جميعا مصغين لندائك ونداء رسولك، صادقين معك، نترك ما أمرَنا نبيُّك بتركِه، من ذلك التطاول على أمرِ العامة، منتبهين لأنفسنا وخاصتنا في ما أوجبتَ وفرضتَ علينا وأحببتَ منا في عباداتنا ومعاملاتنا وعاداتنا وأسرنا وجيراننا وواجباتنا، في أقوالنا وأفعالنا.
اللهم وفقنا لما تحب واجعلنا في من تحب وأصلح الشان كلَّه وادفع عنا السوءَ وأهلَه ، واجعلنا هادين مهتدين ، وأصلح شئونَ المسلمين، واجمع قلوبَهم على ما تحب وترضى يا رب العالمين.
للاستماع إلى المحاضرة
لمشاهدة المحاضرة على الموقع
لمشاهدة المحاضرة على اليوتيوب