08-2014
14

محاضرة مكتوبة بعنوان: مجالس التنزُّل وكسوة رمضان وحقيقة التجارة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على ما أسمعكم وعلى ما جمعكم وعلى ما آتاكم وتفضّل به عليكم، وعلى هذه الدعوة وهذه الدعوات، في مجالس نحضر فيها معكم لنتربى لنتزكى لنوثّق الحبال، الكبير المتعال، نطالع صفحات الإنزال والتنزُّل الرباني في الأمة المحمدية، ليقرِّب من يشاء، ليهدي من يشاء، ليبسطَ بساطَ الاتصالِ بالجناب الكريم، وينتخبَ من يشاء ليثبِّته على الصراط المستقيم، ونتمنى خدمةً صالحة نخدم بها أهلَ مساعي المشكورة من قِبَل الله فهي الناجحة، وأهل تلكم التجارة الرابحة، التي دُلِلنا عليها بدلالة الحق في كتابه على لسان سيدِ أحبابه (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ).

نأسف لما أخذ القلوبَ والعقولَ من دلالات الساقطين والهابطين على ما سمَّوه تجارة أو على ما زخرفوا القول نحوه، فأخذوا القطيع بعد القطيع من شبابنا من نسائنا من رجالنا، لعبوا بأفكارنا، لعبوا بأخلاقنا، لعبوا بعلائقنا بيننا البين، لعبوا بقلوبِنا التي هي محلُّ نظرِ ربِّنا جل جلاله وتعالى في علاه. وصِرنا نشاهد ما نشاهد ونعاني ما نعاني، وهذه الدلالة من قِبَل رب العالمين كيف يُعرض عنها القلب؟ كيف يتولى عنها عقلُ الذي آمن بهذا الإله وأنَّ المصيرَ إليه.

ارتفعت خديجة بنت خويلد وجاءها السلام من حضرة الله وهي في هذه الدار، لأنها أدركت ما هي التجارة وأن التجارة ليست تجارتها التي كانت تشتغل فيها، ولكن موالاة محمد تجارة، خدمة محمد تجارة، دخول معه في الشِّعب ليس مفروضاً عليها وليست من أهله، ليست من بني هاشم المفروض عليهم الدخول وسط الشعب، اختارت تدخل وسط الشعب، اختارت أن تكون جنب الجائعين الذين يجوعون، وجنب الممنوع عليهم أن يُباع عليهم أو أن يُشترى منهم أو أن يمدَّهم أحدٌ بشيء، لم؟ محبة، إدراك للحقيقة، انكشف الغطاء عن زخرف الدنيا وتفاهتها، عشقت ربَّها من باب حبيبه، فتحبَّبت، أُحِبَّت وظهرت عليها آثار المحبة، عموم المؤمنين نقرأ في قول الله تعالى (تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ)، وتقدم سلام من السلام إلى خديجة وهي في دار الحطام، في أيام الدنيا، وكونها تدخل على المصطفى حاملة للطعام، تولّت تقريبَه بعد ما تولَّت طبخه.. لم؟ عندها الخدام عندها الحشم تقدر يخدمونها ولا تقوم هي بجلب شيء، هاتوا بيجيبونه لها، راحت هي تقرّب، راحت هي تخدم، راحت هي تطبخ، من أجل أن قلبَها أدرك سرَّ تجارة الأبد، فعاملت الحقَّ بمحبة محمد صلى الله عليه وسلم، ونُصرته والقيام معه، ودخلت حاملة الطعام تقربه إلى خير الأنام، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، وكان من قبل البعثة أيام يطلع في غار حراء تقول إذا احتجت بعد العشرة الأيام تتزود ألاقيك في الطريق، لا تقطع المسافة كلها إلى عندي ولا إلى البيت وسط مكة، وآتي لك بالطعام إلى هناك وتلقَّه مني وارجع إلى عبادتك، عليها رضوان الله تبارك وتعالى.

وكانت تلك الحقيقة، الذين اغتروا في تلك الحياة الدنيا بزخارف ذا وذاك، من عندهم وفي ما يدور بينهم، أو الوجاهات أو ذاك المال أو شيء من هذه الشؤون الذين اغتروا بها كلهم، انتهت صفحاتهم من مجد ومن شرف ومن كرامة، فلم يُذكروا بقية العمر في الدنيا قبل الآخرة إلا بالكفر، وإلا بالفجور وإلا بالظلمة وإلا بالسوء.. والمجمع مقبل للمحكمة، والمحكمة لا يُرفع فيها إلا من رفعه الله، ولم يرفعِ اللهُ من خلقه كما رفع عبده محمد، (وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ)، صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، ولواء الحمد بيده، والله يظلنا بظل ذاك اللواء، فاعرفوا قدرَ ما آتاكم الله وتفضّل به عليكم، وأيام سوف تنقضي لهذه الدورة، انقضى علينا الشهر الفضيل يارب اقبلنا فيه واجعلنا من المنظورين بعين العناية، والعائدين إلى أمثاله، وتوالت علينا الأيام القريبة من رمضان، وبدأنا نعود بكسوة رمضان ولباسه إن شاء الله لمزاولة الزمان بما يحب رب الزمان، والحضور في المكان بما شرع ربُّ الأمكنة، رب كل شيء، مليك كل شيء، (مَن بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ) جل جلاله وتعالى في علاه.

حشا الله قلوبكم بالإيمان به، وباليقين بما أوحى إلى حبيبه وأثبتَنا وإياكم في أنصاره ظاهراً وباطناً، ومدَّ بنا حبالَ الصدق، ولنا، وحبال الأخوة في الله تعالى، والذبَّ عن شريعة الله والقيام بنصرة الله ورسوله، كما يحبه ويرضاه، أرانا الدنيا كما أراها عباده الصالحين، أرانا الآخرة كما أراها عباده الصالحين، لأن نظارات الزور تُوزَّع بكثرة على الناس وتعددت اليوم برامجها وقنواتها هنا وهناك ودخلت هنا وهناك، ومنظار الحق ما جاء به محمد عن الحق..

 أرانا الهدى بعد العمى فقلوبنا*** به موقنات أن ما قالَ واقعُ

 صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم

 فيارب ثبتنا على الحق والهدى *** ويارب اقبضنا على خير ملةِ

 قبِلَ اللهُ ما سمعتم من الدعوات وما تسمعون، كساكم بكسوة الصدق معه، تخرجون بأسرار الصيام وأسرار القيام وأسرار القرآن، إلى ما يدور في مخيلاتكم، وخلَدكم وما يدور في بيوتكم، وما يدور في شوارعكم وأماكنكم، وما يدور في بلدانكم ملتجئين إلى الحق سبحانه وتعالى، فإن الالتجاء إلى معاني هذا الصدق لجوء إلى ظل العرش، لجوء إلى لواء الحمد، لجوء إلى الحوض، لجوء إلى الجنة، لجوء إلى الفردوس، إذا اعتكرت بالناس أهواؤهم وشهواتُهم ومنافساتُهم على الحقير، وأُذيق بعضهم بأس بعض فرفعتَ يدك عن كل هذا والتجأتَ إلى أين مرضاة إلهي الذي خلقي وكيف أقوم بمهمتي من أجله في حياتي القصيرة، أوى إلى الله فآواه الله إليه ، وهذا الذي نحب.

 نسأل الله أن ينظر إلى قلوب الأمة، فتأوي إلى ظل الاقبال عليه، وصدق الوجهة إليه ويحوّل الله أحوالهم إلى أحسن حال، اللهم اجمع شملهم بعد الشتات، وألِّف ذات بينهم، خذ بأيديهم ونواصيهم إليك أخذَ أهل الفضل إليك، يا مجيب الدعاء يا من لا يخيب من الرجاء، والحاضرين في المجمع ومن يسمع مُدّ لهم حبال الاتصال الذي ما له من انقطاع ولا زوال، أبداً سرمداً يا ذا الإفضال يا الله، يا الله، يا الله، إذا حُشر الناس أشتاتاً ففي جمعِ حبيبك اجعلنا، وهناك اجمعنا، وعلى حوضه أورِدنا، ولا توردنا موارد هلكة ولا تظهر لنا عورة، ولا تفضحنا يا مولانا في حاضر القيامة بموبقات الآثام، واعف عنا ما ارتكبنا من الحرام، وارحم بالقرآن العظيم في موقف العرض عليك ذلَّ مقامنا، وثبّت به عند اضطراب جسور جهنم يوم المجاز عليها زلّةَ أقدامنا ونجّنا به من كُرب يوم القيامة، وشدائد أهوال يوم الطامة وبيّض به وجوهنا، إذا اسودت وجوه العصاة في موقف الحسرة والندامة، آمين يا ذا الجلال والإكرام والطول والإنعام. والحمد لله رب العالمين..

وفي هذه الحبال التي تُمدّ لكم في ذي المجالس، استشهدوا بمعنى كان يذكره صلى الله عليه وسلم لظهور بعض الآثار التي تشتد في الدنيا ويتمثل بقولهم: اشتدي أزمة تنفرجي، ومظاهر الفرج في خصوصه وفي عمومه تبدو، لكن قربها وقوتها على قدر قُربِ هذا القلب من ربه، وقوة صدقه مع مولاه جل جلاله وتعالى في علاه، وتأمل قول ابن عباس، لو انطبقت السماء على الأرض لجعل الله للمتقي منها مخرجا. ومن يقدر يطبق السماء على الأرض؟ هذا الذي لا يكون سبحان الله، وقال لو أشد من كل ما تتخيل كان وأنت متقي اطمئن، بعد قوله (ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوا)، (وَمَن يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَل لَّهُ مَخْرَجًا)، ارزقنا التمسك بحبل التقوى في السر والنجوى وأصلح شأننا كله يارب العالمين.. والحمدلله رب العالمين.

للاستماع إلى المحاضرة

لمشاهدة المحاضرة