08-2016
25

محاضرة مكتوبة بعنوان: العصمة من الفتن في صدق الصلة بالحق ورسوله عند مختلف الأحداث

 نص كلمة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في حفل اختتام الدورة التعليمية الثانية والعشرين بدار المصطفى ليلة السبت 17 ذي القعدة 1437هـ بعنوان: العصمة من الفتن في صدق الصلة بالحق ورسوله عند مختلف الأحداث.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله بيدِه الملك وهو على كلِّ شيء قدير، خلق الموتَ والحياة ليبلوكُم أيكم أحسنُ عملاً وهو العزيزُ الغفور، أرسلَ إلينا البشيرَ النذير، والسراجَ المنير، ختمَ به النبيين، وجعله سيدَ المرسلين، أرسله رحمةً للعالمين، فسعدَت أمتُه بعطاءِ الله الواسع، ومنِّه الكثيرِ المتتابع، ببركةِ هذا النبي الشافع، الذي عَمَّ المواطنَ والمواضع، والمدن والقرى، ومرور الزمان عصراً إلى آخر الزمان، ((أمتي كالمطر، لا يُدرَى خيرٌ أولُه أم آخرُه))، أي الخيرُ في أولِه والخير في آخرِه.. فضلاً مِن الله ونعمة، لا إله إلا هو.

 نسأله أن يصليَ على هذا الهادي الداعي المرشدِ المعلم، الذي في صحيفتِه وبركتِه الصدِّيقُون، مِن عند الصدِّيق الأكبر أبو بكر وعمر وعثمان وعلي والسابقون الأولون من المهاجرين والأنصار، وفي صحفيته وبركته أهلُ البيت الطاهر، وفي صحفيته وبركته أهلُ العلم النافع، وفي صحيفته وبركته كلُّ داعٍ مخلصٍ صادقٍ أحسنَ المعاملةَ مع الرب جل جلاله وتعالى في علاه، وفي صحيفتِه وبركتِه كلُّ مسجدٍ مقبول، وكل معهدٍ صالحٍ مقبول، كل بناءٍ للعلم، كل رباطٍ، كل دارٍ للعلم مقبول في صحيفته صلى الله عليه وسلم، وفي بركته صلى الله عليه وسلم، وكلها ثمارٌ من ثماره صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

 ومجامعُ الخير ومجالسُ الخير، وحدُو القلوب الرباني الرحماني الذي يحدُوها لأن تجتمع أو تنتفع أو ترتفع أو تتَّسع أو تطَّلع أو تتَّبع حدوٌ من الحق تبارك وتعالى، تفضُّلاً منه، بركة مِن بركات حبيبِه عليه الصلاة والسلام، الذي جعله واسطةَ كلِّ خير، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وصحبه، كلُّ هذا مِن آثاره فينا.. فالحمد لله على هذه النعمة.

 وإذا جاء القيامة كان هو الحامل للواء الحمد، وكان مِن الآثار التي ننعمُ بها نحن والعالم ما جعل في مختلف الأقطار، أشار إلى البركة في اليمن والشام مثلاً، وأشار إلى قبائل مِن ومن هناك، وأشار إلى أوصافِ قومٍ يتَّصفون على مدى القرون، فكانت كذلك موزعةً بحكمة قادرٍ يقول للشيء كن فيكون، بيدِه أمرُ الظهور والبطون، سبحانه وتعالى، قيومٌ فوق المملكة، لا تأخذه سنةٌ ولا نوم، والكل تحت قهرِه وتحت أمرِه جل جلاله وتعالى في علاه.

 كان مما أعطانا هذه الوَفرة مِن أهل الخير والعلم والولاية في اليمن الميمون، وفي حضرموت المباركة مِن جملة أجزاء اليمن، وكان منهم مِن صحابة رسول الله مَن كان مأواهم هذه البلاد وهذا الوادي، وكان فيهم بعد ذلك مِن التابعين والعلماء العاملين والراسخين وأهل اليقين، ثم تتوَّج الوادي بمجيء المهاجر أحمد بن عيسى، وفي صُلبه ومِن صُلبه خرج مِن الذرية الطاهرةِ كواكبُ ونجومٌ مِن أربابِ العلوم والفهوم والصدق والإخلاص، الوصف كما وصف الإمام الحداد عليه رضوان الله بالصدق:

فأصبح فيه ثاوياً متوطِّناً *** بذريَّةٍ مزمُومةٍ بزمام

مِن البرِّ والتقوى وحُسن شمائلٍ *** كرام السجايا أعقبَت بكرامِ

ولم يزل منهم ومِن مختلفِ القبائل في الوادي الميمون يبرزُ الصالحون، ويبرزُ العلماءُ العاملون، ويبرز المخلصون، ويبرز الذين يقدِّمون تقرُّباً إلى الله وسعَهم، مالاً أو جاهاً أو فكراً أو عمل يد، فكم وكم ضمَّ الوادي مِن أرباب الصدق مع الله تبارك وتعالى ممن كانوا سببَ حقيقةِ الفخر، ولا نعدُّ فخراً صورة ولا مظهراً ولا شيء مِن هذه الرسوم، فطريقةُ القوم محوُ الرسوم، عدمُ الالتفات إلى المظاهر، عدمُ الالتفات إلى الصور، عدمُ الالفتات إلى ما لا طائلَ تحته، وما الذي لا طائل تحته؟ كل ما لا قدرَ له عند الله جل جلاله، كل ما لا يُراد به وجه الله، كل ما لا ينفع في الآخرة، فلا طائلَ تحته.

 وقد سمعنا مما مرَّ على القلوب في الدورة كلام نبيِّنا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((من حُسن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه))، في اتخاذِ خطة في مسلك الحياة يبعُد بها الإنسان عن ما لا يهمه في أمر دينِه وديناه، ويعلم ما يهمُّه مِن أمر دينه وديناه بمنظار الإيمان بنُور القرآن والسنة والغراء، وبذلك نتحررُ مِن سلطان الكفر وتسلُّطه البارز في عدة صور على ظهر هذه الأرض، رأسُه إبليس ومعه مِن شياطين الإنس والجن مَن يوحي بعضهم إلى بعض زخرفَ القول غروراً، وكلُّ كلامهم وكلُّ عملهم وجهدهم مُتَرَكِّز على معاداة منهجِ النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وما بُعث به ودلَّ الناسَ عليه،  {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً} وهذه سنةُ الله في الحياة {وَلَوْ شَاء رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ}.

 فلا بدَّ مِن وجود هذه الاتجاهات، وهذه المسارات وهذه المحاولات وهذه المكايدات وهذه الإفسادات وهذه المطاولات وهذه الاغترارات وهذه الدعايات، موجودة في العالم بصورٍ مختلفة تأتي، قال سبحانه: { وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً} لنرى مَن يتبعُ الخير ومَن يتبعُ الشر، مَن يرتضي الخير ومَن يرتضي الشر، الأمر الدائر اليوم مِن البلاء في زماننا مِن أنواع الفتن هو عين ما ذُكر في حديث نبينا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ((تُعرض الفتنُ على القلوب كالحصير عوداً عوداً))، عُرِضت الفتنُ على القلوب، ودخلت عليهم بدواخل واتجاهات كثيرة متنوعة متلونة، ووصلت الناس، شيء باسم حركات وشيء ثورات وشيء برامج وشيء تطورات وشيء مِن كذا ومِن كذا، لكن المؤمن إذا عقل خطابَ الملك الأجل جل جلاله، وعرف خطابَ المصطفى وما وجَّهه، وكيف تعامل مع الأحداث في أزمنتهم كلٌّ مِن السلف الصالحين مِن الصحابة من التابعين من تابعي التابعين، أحسِبتم أن أزمنتَهم خاليةٌ مِن إبليس وجنده؟!، أم حسبتم أن أزمنتَهم ما فيها كُتَل كفر وكُتَل ضلال تحاول وتكذب وتصوِّر الأشياء على ما هي عليه؟!.

هذا الذي سمعتموه أيضاً من كلامهم عندما جاءنا النقلُ عن الموثوق بهم مِن أئمة المسلمين في التاريخ والسنة نقلوا لنا أخبارَ الصحابة متطابقةً مع وصفِ الله لهم، ومع وصفِ رسوله لهم، تُنقل عنهم أخبار غير متطابقة مع ما وصفهم الله به، غير متطابقة مع ما وصفهم به رسوله، كيف تقبل؟!، من أي وجه!؟ وبأي معنى؟!، مِن أين تُؤخذ؟!، لعب في التاريخ يلعب به الناس، تاريخنا الحاضر اليوم يُلعب به، وتُقلَّب فيه الحقائق، في عصرك في زمانك، وما عاده في عصرك وفي زمانك، من عند بينك وبينه بيتين ثلاث بيوت كلام يقلب أمورك وأحوالك كلها على غير ما هي عليه عند أولاده وإلا عند أسرته، ويذكر شيء بغير الواقع، ويصدِّقه مَن يصدِّقه، والتاريخ في عصرنا كذلك، بل أكثره مبني على الكذب، وأكثره مبني على الدجل وعلى قلبِ الحقائق.

وحسبُنا ما ذكر رسولُ الله صلى الله عليه وسلم عند تمكن الناس من إعطائهم الوسائل التي يُختبرون بها ويُفتنون مِن نشرِ الأخبار هنا وهناك، فرأى صلى الله عليه وسلم مَن يكون عذابُه في المآل مِن هؤلاء المكلفين أن يوضعَ على فمِه كلوبٌ مِن النار يُشَرشَر به إلى أذنه، ثم يوضع على أنفه فيُشَرشَر به إلى أذنه، ثم يُوضع على عينه فيُشَرشَر إلى أذنه، ثم يُعاد إلى الجانب الثاني، ويُلئم الله الجانب الأول كما كان يعود كما يكان، فيُعمل بالثاني ثم يُرجع إلى الأول، ((من هؤلاء يا جبريل؟!، قال: الرجل مِن أمتِك يكذب الكذبة تُحمل عنه في الآفاق))، هل يقدر أحدٌ أن يصفَ الوسائل القائمة الآن أحسنَ مِن ذا الوصف الدقيق؟!، رسول صادق، رسول مِن خالق، رسول مأمون على حُسنِ الإرشاد والبلاغ، والذي نظر هذه الأجهزة التي جاءت والوسائل اليوم يجد الكلمة منطبقة عليها من طرفها إلى طرفها.

سمعنا القصة فيما كان عن السيدة عائشة وسيدنا علي بن أبي طالب كرَّم الله وجهه ورضي عنهم أجمعين، وصفهم الله في كتابه، من يقول أنهم ليسوا من السابقين الأولين؟!، أي عاقل؟ أي مسلم يقول ما هو من السابقين، الله وصفهم في القرآن، من يقول إنهم ما كانوا مع محمد؟!، والله يقول: { أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، هذا وصفُ الله لهم ووصفُ الرسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وأمرُه بمعرفةِ مكانتِهم، ثم في خصوص تفصيل الوقائع، يقول صلى الله عليه وسلم: ((يا علي لعلك تلي من أمرها شيء يوماً، فإذا كان ذلك فارفق بها)) .

 هذا محلُّ الأمانة في ذكرِ الوقائع مِن قبلِ أن تقع، وحملَها عنه أهلُ الأمانة في الوقائع حينما تقع، وجاؤوا إليها يقولون: أصلحِي بين الناس، فهم مشرفون على قتال، وأنتِ أم المؤمنين وكلمتُك مسموعة، إذا خرجتِ التمَّ الشمل وتراجع الناس وتصالحوا فيما ما بينهم، فلما رأت الأمر بهذه الصورة التي صُوِّرت لها رغبت في ذلك، وخرجت عليها رضوان الله.

 كانت مُقِرَّة بخلافة سيدنا علي، وكانت بيعتُها وعهدُها لعلي، وكانت هي الراوية لفضائل سيدنا علي عليه الرضوان وعليهم الرحمة أجمعين، ولكن خرجت لأجل هذا الصلح، ووصلت وكاد الصلح أن يتم، وباتوا متراجعين الأمر بينهم ومتفاهمين، ليصبحوا ليرتحلوا. فالتفَّ هؤلاء الجماعة، نحو الألفين والخمسمائة، ولا فيهم صحابي واحد، وفيهم الذين ساعدوا على قتلِ سيدنا عثمان، قالوا الآن يصطلحُ الناس ويأخذون رؤوسنا  نحن الذين قتلوا عثمان واحد بعد الثاني، يجب أن تفسدوا بينهم قبل ما يقع الأمر، فذهبوا في الليل يبعثون في ذا العسكر، ويبعثون في ذا العسكر، يقول: بعثَهم عليك الزبير وطلحة، كيف اتفقنا معهم واصطلحنا!، راحوا إلى هنا عند الزبير يبعثون عليهم المقاتلين، ما هذا؟!، قالوا: علي أرسلهم، اتفقنا معه وتعاهدنا معه!، فإذا بالثائرة تثور.

كان ينظر سيدنا علي وقت القتال وعينه تدمع، يلتفت إلى الحسن قال: يا حسن ليت أباك مات قبل هذا اليوم بعشرين سنة ، ويقول له: أي خير بعد قتل هذه الرؤوس، كان أمر يؤلمه عليه رضوان الله تبارك وتعالى، بفتنة هؤلاء الذين لهم خلفاء في كل زمن يفتنون بين الناس، وينسبونه لذا وينسبونه لذا، لا والله لا علي ولا الزبير ولا طلحة، لا أحد منهم في هذه الخساسة التي فيها هؤلاء القوم، وقد قال عليه الرضوان عندما جاء مَن يبشِّره بأنه قتل الزبير، قال: تبشِّرني بقتل ولي؟!، تبشرني بقتل ولي من أولياء الله، هذه عقيدتهم في بعضهم، تبشرني بقتل ولي؟! أبشرك بالنار، بل وروى فيها حديث قال: ((بشِّر قاتلَ الزبير بالنار))، وظن أنه مثله لفلوف سفسوف يفرح بقتل من تكلم عليه أو قابله في موقف من المواقف، وقد أدبر سيدنا الزبير لما تبين له الأمر.

 سيدنا طلحة يمر عليه واحد من أصحاب سيدنا علي يكاد أن تخرج روحُه، قال: ممن الرجل؟، قال: من أصحاب علي، قال: امدد يدك ، مد يده، قال: هذه بيعتي لعلي، ذهب يكلم سيدنا علي، لما وصل عند سيدنا علي وكلمه، قال سيدنا علي: أبى اللهُ أن يدخلَ طلحةُ بن عبيد الله الجنةَ إلا وبيعتي في عُنقه، قال أراد الله أن لا يدخل الجنة إلا وبيعتي في عنقه، لأنه عارف إنه من أهل الجنة، ومبشرين بالجنة عليهم رضوان الله، ثم قال: إني لأرجو أن أكون أنا والزبير وطلحة ممن قال الله فيهم: {وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَاناً عَلَى سُرُرٍ مُّتَقَابِلِينَ }، هذا الأمر المتطابق مع القرآن، هذا القصص المتطابق مع الحديث، هذا الأمرُ اللائق بتربية محمد، وبنظرة محمد، وبالجلوس مع النبي محمد، ما الذي يُقبل غير هذا، ما الذي يُثار من الفتن غير هذا، ولكن انصراف الناس عن إدراكِ واجبهم ومهمتهم، جعلهم يفتحون آذانهم لأهل الشر وأهل الكفر وأعداء ورسوله ليضربوا بعضهم ببعض والعياذ بالله تبارك وتعالى.

 فلنكُن على بصيرة ولنكُن على نور مِن الله، قد جاءنا لم ينطفئ هذا النور مهما كان من الفتن ومهما كان من المحن، وأكبر الفتن الموعود بها الأمة فتنة المسيح الدجال، ولكن أربابَ الصدق مع الله، وأهل المحبة لمحمد بن عبدالله ، وأرباب الإخلاص والتواضع لا شرَّ عليهم من الدجال، الفتنة الكبرى لا تناله ولا تصيبهم، بل عندها تُرفع درجاتُهم وتعلو مقاماتُهم، وفيهم مَن كان من صدقهم يفرُّون إلى الجبال، والفارُّون إلى الجبال من أجل الدين في ذاك الزمن، صنفان: عليٌّ وأعلى:

صنفٌ علي، يرسل الله لهم بعض الحيوانات مِن الظباء فيشربون مِن ألبانها، هذا قوتهم، لأن السلطة على المادة مع الخبيث ومَن معه، ولكن الرازق ما هو الدجال، هو إلا ممحون بتسخير أسباب إلى وقت معلوم معين فقط، والرزاق هو الله جل جلاله وتعالى في علاه.

وأعلى منهم من يجعل الله تغذية أجسادهم في الذكر، يسبحونه فيذهب الجوع، يذكرونه، ويذهب العطش عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.

 حتى جاء في الحديث: ((إذا نزل عيسى بن مريم أخبرهم بدرجاتهم في الجنة))، يخبرهم بالدرجات في الجنة يبشرهم بما حصلوه أيام الدجال، أكبر فتنة ما نالت منهم بل ارتفع قدرُهم، وكذا كل مَن اتصل وكذا كل مَن واصل، كذا كل مَن أقبل بصدق وحق، لكن نحن نشكوا من الفتن لما عرَّضنا رؤوسَنا لها، وفتحنا صدورَنا لها ونالَتنا، لو صدقتَ مع الله ما عليك منها، لو انطبقت السماءُ على الأرض لجعل الله للمتقي منها مخرجاً، لو تحوَّلت الدنيا دماً عبيطاً لجعل اللهُ رزقَ المؤمن منها حلالاً.

فالشكوى مِن انصرافنا مِن تقاعُسِنا مِن تكاسُلِنا مِن اغترارنا بما يُطرح علينا، الشكوى مِن هذا، وأما الحصن قوي، ادخل فيه وأنت في حصن، حصن محمد، وماذا جاب لنا مِن حصن؟!، جاء بحصن لا إله إلا الله، إذا فهمت معناها أو وعيت أسرارَها، يقول الجبار الأعلى: (( لا إله إلا الله حصني، فمن دخل حصني أمِن من عذابي)).

 عرض عليه بعضُ الأعراب كان عنده لما ذكر قصة الدجال وما يجري في الأرض وأن الناس يُفتنون بجوع وقلَّة أكل في وقته، حتى يضطروا أن يجيئوا إلى عنده ويؤمن به الكثير والعياذ بالله ويكفرون بالرب. لما سمع الأعرابيُّ القصةَ وأخبارَها قال: يا رسول الله: أرأيتَ إن أظهرتُ الإيمانَ به بلساني وأكلتُ مِن خُبزِه حتى أشبع ثم أكفر به؟ هذه طريقة تُنازلُ بعضَ الأفكار وبعض التوجهات لمسألة المطعوم والمشروب أو متاع الدنيا على وجه العموم التي اختبرنا اللهُ فيها، لكن النبي قطع هذا الباب، قال التفكير باطل، قال: ((لا ، بل يكفيك الله بما يكفي به عبادَه المؤمنين))، الذي يكفي به المؤمنين سيصلك نصيبُك منه، اترك حق الدجال، وإن أعجبك وإن كان كثيرا، وإن كان لذيذَ الطعم في الظاهر، اتركه، والذي كفى اللهُ به المؤمنين سيكفيك به، مبيِّن صلى الله عليه وسلم بيان شافي.

 وفي مظهر أنه يُحرَز من أكبر الفتن فضلاً عما قبلها أو بعدها مَن اتصل برسول الله، على قدر الاتصال برسول الله، جاءنا حديث مسلم، يقول: إن الدجال عندما ينزل في الجُرف خارج المدينة خارج حدود الحرم ولا يقوى على الدخول، ترجفُ المدينة بأهلها ثلاثَ رجفات ويخرج كلُّ منافق، ويخرج بعضُ المؤمنين وفيهم مَن وصفه النبيُّ بأنه مِن سادة الشهداء مِن أفضل الشهداء بعد حمزة بن عبد المطلب، هذا الذي يقتله الدجال، يقول صلى الله عليه وسلم كما في صحيح مسلم: فيأتي إليه يقول تشهد أني ربك؟، فيقول له: أنت الأعور الكذاب الدجال الذي حدَّثنا عنكَ رسول الله، ماذا تفهم من قوله: حدثنا عنك رسول الله؟!، صلة الرجل بمحمد قوية، مشاعر الرجل مع محمد، لذا كان ما قدر عليه الدجال، بل نال مرتبة في الشهادة ما نالها كثيرٌ من الشهداء اللي قبله، بصلته بمحمد، وما قدَر على القلب الذي اتصل بمحمد، قال: أقتلك، قال: اقتل، وأمر بشقِّه نصفين، ويشق نصفين، قال: ثم يمشي بين نصيفه، ويقول تريدني أرده لكم حتى تعلموا أني ربكم؟!، فيقولون: نعم، فيجمع بعضه إلى بعض فيحيه الله جل جلاله اختباراً للقوم ويقوم، فيقول له الدجال: قد أمتُّك وأحييتُك تعرف أني ربك؟!، أنت الأعور الدجال الكذاب الذي حدثنا عنك رسول الله، والله ما ازددتُ فيك إلا بصيرة، وهذه قلوب ما تضرها الفتن، أنعِم بها، يا ربِّ نوِّر قلوبَنا واعصِمها، يقول لهم عند قتله: إنه لن يُسلَّط على أحدٍ بعدي، بعد ما يرد عليه بنفسه يظهر عجزه ويظهر ضعفه.

 ما هو الدجال وحده، الدجال والحضارات والدول والمبادئ والأحزاب كلها، في زيغِها وزيفِها تصلح مثلها هكذا، وتزمجر والعجز ظاهر عليها، ووقائع الأحداث تشهد بأن ما تحتها شيء، ولكن زمجرة كبيرة طويلة عريضة، عاجز مسكين ويدَّعي الربوبية، يريد أن يقتله مرة ثاني فلا يقدر، فلا يُسلَّط عليه ، يأمرهم بضربه في السيف فما يصيبه كأنه حديد لا يضره!، فإذا رأى ذلك أيقن أن أيامَه منتهية، انتهت فتنتُه أو قاربت، فيهرب نحو الشام، ويأتي نحو الشام وينزل سيدنا عيسى بن مريم، يصلي خلف الإمام المهدي، ثم يتوجه نحو الدجال وفي باب لُد قريب من القدس يأتي إليه، فإذا رآه تذاوبَ كما يذوب الملح في الماء، فلو تركه لمات من نفسه، فيأتي ويقلته وتنتهي هذه الفتنة كلُّها.

 هذه قصة الدجال الأكبر، والدجل الصغير كله الذي يظهر في مظاهر كثيرة في الحياة، كل مَن يزمجر عليك يقول إنه سيهديك وهو يقطعك عن سنة من سنن محمد عنده دجل، نوع من الدجل عنده، لا تصدقه،  {قُلْ صَدَقَ اللهُ فَاتَّبِعُواْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفاً }، ونحن والعالم هذا كلُّه ومَن قبلنا با نجي في محشر واحد في مجمع واحد، إذا قمنا من القبور أهل الإيمان في فرحهم وسرورهم، والكفار بأصنافهم واللي خالفوا الرسل بأنواعهم يقولون: {يَا وَيْلَنَا مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}، إيش بعثنا من مرقدنا؟، المرقد هذا ما بين النفختين يسمونه مرقد، لأنه إذا نفح النفخة الأولى صعق من في السموات ومن في الأرض، فالصعقة هذه ريحتهم لأنهم طول البرزخ وهم في رؤية النار وفي العذاب، لكن ما بين النفختين كانوا نائمين، بين النفختين لما كانوا في تلك الصعقة بالنفختين قالوا هذا مرقدنا ليش قمنا منه؟! { مَن بَعَثَنَا مِن مَّرْقَدِنَا}، وإذا الملائكة تناديهم: {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ }، لن يقولوا وصدقت الحكومات، لن يقولوا وصدقت الأحزاب، ما أحد يقول هكذا في القيامة..  لن يقولوا وصدقت الحضارات، لكن  {هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ }، صلوات الله وسلامه عليهم، فالكلام كلامهم، يقول سيدنا عبدالله بن رواحة:

أرانا الهدى بعد العمى *** فقلوبُنا به موقناتٌ أنَّ ما قال واقعُ

القول ما قال محمد، وفوق ذلك من غير ما أخبر، قوله المسموع عند ملك المملكة، حتى في يوم الشدة الكبرى، ويوم الغضب الأكبر، يُقال: قُل يسمع لقولك، فمن تعدلون بمحمد؟!، فكر مَن؟!، عقل مَن؟!، ما هذه الأفكار التي تأتينا؟!، بهذلت بنا وبنسائنا وبرجالنا، كَشَّفوا عوراتِنا، زَرزرُوا ثيابنا، ضحكوا علينا، جابوا لنا أغاني ماجنة فاسدة، نشروا لنا المخدرات والمسكرات، وظهرت الغرائب بيننا، وغيرها من أسباب البلايا النازلة ؟! غيبة زادت، نميمة زادت، حقد في القلوب زاد، فواحش، نظر حرام، قطيعة رحم.

 وهو كيف ينزل البلاء!؟ إلا بهذا!، قال سيدنا العباس: لم ينزل بلاء إلا بذنب، ولم يُرفع إلا بتوبة، هكذا يقول سيدنا العباس فيما جاء في الصحيح لما قدَّمه سيدنا عمر مِن أجل الاستسقاء بالناس في عام اشتدَّ فيه القحط، حتى سموه عام الرمادة مِن شدة القحط والجدب الذي فيه، وأصله في صحيح البخاري يقول: خرج سيدنا عمر وقدَّم العباس، قال: أيها الناس إن هذا العباس عم رسول الله، كان يرى له ما يرى الولدُ لوالده، يعني يراه كأنه والد، يقول: وإنا نقدِّمه ليستسقي بنا، اللهم إنا كنا نتوسل إليك بنينا فتسقينا وإنا نتوسل إليك بعمِّ نبينا فاسقنا، رفع يده: اللهم إنه لم تنزل عقوبة إلا بالذنب ولم تُرفع إلا بتوبة، وهذه نواصينا بالذنوب وأيدينا بالتوبة، وخضع للرب ودعا.

 جاء في بعض الروايات قال: اللهم إنهم توسلُوا بي لقرابتِي من نبيك، فسقاهم الله تعالى، سقيا أقبلت السحب من هنا ومن هنا ما انصرفوا من محلِّ الاستسقاء إلا وقد السحب مقبلة من كل مكان وتمطر السماء، ومن طرف الحجاز إلى طرفها، الحرمين كلها ومن فيها، حتى كان الصحابة يدعونه بعدها: ساقي الحرمين، يقولون لسيدنا العباس ساقي الحرمين، وما حد منهم استشكل كلمة وقال فيها مبالغة ولا فيها بدعة ، فضلاً عن أن يقول فيها شرك، سموه ساقي الحرمين يعني تسبب في سُقيا الحرمين عليه رضوان الله تبارك وتعالى، وهكذا كان شأنهم في هذه الوجهة إلى الله والتعلق به سبحانه وتعالى.

 {إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ}، اليوم قلوب المؤمنين ذاهبة، ذا عند ذا وذا عند ذا، وذا عند حزب ذا وذا عند حزب ذا، والمأوى إلى الكفار والعياذ بالله تبارك وتعالى، أمِنهم مَنْقَذ، أم منهم مخرج!؟، من دون رجوع إلى القوي، من دون رجوع إلى القادر الفاطر جل جلاله، و{إِنَّ اللّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُواْ مَا بِأَنْفُسِهِمْ}.

 وهكذا كان في الأيام بعد وقعة الجمل يقول سيدنا علي: ارقُبوا أمَّ المؤمنين لا يمسَّها أحد، لا يقربها أحد، طمِّنوني عليها، قال: انظروا أين جملها، قالوا له: إنها سلمت، فرح بذلك، أمر بضرب الخيمة لها ويمر عليها: كيف أنتِ يا أماه، يقول لها يا أماه عليها الرضوان، وشكرته قالت: جزاك الله خير، ولما اختارت أن ترجع خرج بنفسه يودعها، وأخرج معها من النساء مَن يمشي معها ومِن أقاربه خرجوا يحفُّون بها، وودَّعها مسيرة كم؟! عشر خطوات ولا عشرين خطوة؟!، مشى ميلين يمشي يودع أم المؤمنين!!، علي بن أبي طالب، حد يقول في القوم هؤلاء شيء؟!، صدق الله: {رُحَمَاء بَيْنَهُمْ}، فاتركونا نتراحم، ما تركتم الصحابة ووصفَهم بالرحمة، وجئتم بيننا البين تريدوننا أن نبعد الرحمة ونتقاتل ونتضارب ونتنازع وتخلقون لنا فتن.

الله يكشف الفتن، الله يدفع المحن عنا وعن اليمن والشام والشرق والغرب، ويبارك في هؤلاء الحاضرين، جاءوا في الظروف هذه، وما الذي دعاهم؟!، وما الذي جابهم، ونحن نعرف الذين يتكبدون أسفاراً إما يريد شهادة وإلا وظيفة في مكان، لكن هؤلاء جاءوا . ماذا يريدون؟!، ((مَن كانت هجرتُه إلى الله ورسوله))، ما الذي أتى بهم إلى تريم ؟!، عسى ما بيتفرجوا على البساتين وإلا بيلعبون شيء من الألعاب أو بيمرحون في شيء، إيش اللي جابهم؟!، وتعجب في ذلك، وجاءوا من تلك الأماكن البعيدة، وحضر مَن حضر، وجاء الحبائب الكرام والحاضرين العظام.

ولا ننسى في باب من أبواب الجهاد هؤلاء أرباب الخدمات المختلفة نغبطهم، بإخلاصهم لله تعالى با يسابقون كثير من المجاهدين في سبيل الله اللي في عصرهم وفي غير عصرهم، وقد كان يقول بن مسعود: من رأى أن الغدو في طلب العلم ليس بجهاد في سبيل الله، فقد نقص في رأيِه وعقلِه، قال ما له رأي وما له عقل، أرباب الخدمة ، والكثير منهم جائين متبرعين، لا يترقبون فلوسا ولا شيء من المظاهر الدنيوية، أيذهب هذا هباء؟!، أيضيع هذا؟!،  {إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً }، يقول الله جل جلاله وتعالى في علاه، والفوز في الصدق مع الله تبارك وتعالى، والتعاون على مرضاة الله جل جلاله.

 والله يجعله جمعاً مرحوما، وبعين العناية منظوراً، له آثار في العالم كله إن شاء الله، ويفتح الله أبواب الخيور لنا وللأمة، يبارك لنا في رباطنا، ويبارك لنا في كلية الشريعة، ويبارك لنا في أربطة حضرموت ومعاهدها، ويبارك لنا في أربطة اليمن ومعاهدها ومحلات العلم في خير فيها، وأربطة  الشام ويعيد إليها قوَّتها وأمنها واستقرارها ونشاطها، والأزهر الشريف وبلاد العلم وأهل العلم في الشرق والغرب، الله يحيي فيهم حقائقَ العلوم، ويوسِّع لهم الفهوم، ويدفع عنهم شرَّ الشيطان المرجوم، وشرَّ حزبه ومَن والى حزبَه من صغير ومن كبير، ويرفرف علينا رايات الحبيب ننصرها ونقوم بحقِّها، اللهم ارزقنا حسنَ النصرة، وتولنا في كل سرٍّ وجهرة، وأنظِمنا في سلك من أصلحت أمره، وكشفت ضرَّه، وتوليته في دنياه وآخرته يا حي يا قيوم.

 واجعلها ساعة إجابة والدعوات مستجابة، وزِدنا انتفاعاً، وزِدنا إرتفاعاً، وزِدنا أدباً، وزِدنا خضوعاً، وزِدنا خشوعاً، وزِدنا إنابةً إليك، وزِدنا من كل خير، واحفظنا مِن كل شر وضير، ولا تجعل  حاضراً معنا ولا سامعاً يسمعنا إلا نظرت إليه، إلا وجُدتَ بالفضل عليه برحمتك يا أرحم الراحمين، وأمتِعنا بأهل الصلاح والسر والنور فيها، وأصلِح ظواهرنا وخوافينا، وتُب علينا في المجمع المبارك توبة نصوحاً، تزكِّينا بها قلباً وجسماً وروحاً، لا تغادر ذنباً ولا صغيرةً ولا كبيرةً من السيئات إلا محَتها يا رب، وإلا بدَّلتها إلى حسنات تامَّات موصلات، يا مجيبَ الدعوات، يا قاضي الحاجات، يا سامعَ الأصوات، يا ربَّ الأرضين والسموات، يا معطي العطايا الجزيلات، يا مَن يعطي ولا يبالي يا مولى الموالي يا حيُّ يا قيوم يا الله، على بابِك وقفنا وبأعتابِك لُذنا، وأنت المقصود

 اللهم لو لا أنت ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا

 فأنزلن سكينة علينا ** وثبِّت الأقدام إن لاقينا

 واجمع شملَ  الأمة بعد الشتات، وادفع جميعَ الآفات، واختم لنا بالحسنى وأنت راضٍ عنا.. والحمد لله رب العالمين، والعفو.

للاستماع إلى المحاضرة