11-2016
07

محاضرة مكتوبة بعنوان: حقيقة الحرية العليا ومشروع المصطفى عند كثرة الفتن

محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 28 ذي الحجة 1437هـ ضمن دروس إرشادات السلوك بعنوان: حقيقة الحرية العليا ومشروع المصطفى عند كثرة الفتن.

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله على بساط فضله الوسيع، وصلى الله وسلم على صاحب الجاه والقدر الرفيع، سيدنا محمد خير داعٍ إلى الله، أبرزه اللهُ لنا مِن رحمتِه ومنَّته الكبيرة، فجعل أمتَه خير أمة أخرجت للناس ووهبها مزاياه ومواهبه الكثيرة، اللهم لك الحمد على مَن بعثته إلينا بأكرمِ سيرة، وأنور بصيرة، فأحسنَ دعوتنا إليك ودلالتنا عليك، فصلِّ وسلم وبارك وكرِّم عليه أفضل الصلوات وأزكى التسليمات في جميع الآناء والأحوال والحالات والساعات والأوقات، وعلى آله وصحبه القادات، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين أهل المراتب الرفيعات، وعلى آلهم وصحبهم، وملائكتك المقربين وجميع عبادِك الصالحين، وعلينا ومعهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.

يا أهل الجمع الذين جمعكم الحقُّ سبحانه وتعالى جامع الناس ليوم لا ريبَ فيه على ما يوجب السعادة في ذلك اليوم، احمُدوا هذا الإله، وتوجهوا إليه تعالى في علاه، ثلة من أمة الحبيب يُرى فيهم وفي جمعهم معاني تأييدِ الله لحبيبه، معاني نصرةِ الله لحبيبه، معاني إنجازِ وعدِ الله لحبيبه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، لبَّت القلوبُ نداءَ ربها فحضرت إلى ساحة التوجه إليه، ساحة تلاوة كتابه، وساحة تلاوة أخبار نبيه محمد عليه الصلاة والسلام، وساحة الذكر لله، وساحة الذكر للمصطفى محمد بن عبد الله، وساحة ذكرِ الأنبياء والمرسلين والعباد الصالحين على ولائهم، وعلى عِداءِ مَن عادى الله تبارك وتعالى مِن خلقه، ودعوة الجميع إلى الله جل جلاله، وعلى تعلُّم العلم الشريف، وعلى أداء الفرائض المكتوبة، وعلى الدعاء إلى الله والتوجه إليه، وعلى الاجتماع مع الوافدين مِن الحج والعمرة وزيارة المصطفى عليه الصلاة والسلام، وعلى الاجتماع مع مَن يحضر من أهل البلد ومِن نواحيها، وعلى الاجتماع مع الوافدين ممن قد أخذ نصيباً من العلم وتشرف بخدمةٍ في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، في توديع عامٍ من أعوامنا، كل هذه المعاني تجمعت لنا تحت راية التبعيةِ المطلقة للحق ولرسوله صلى الله عليه وسلم، لا ينازعُنا في أصلِ الوِجهة ولا في أصل التأسيس الذي تأسست عليه هذه المجامع الكريمة، ولا ما تفرَّعت وانحدرت منه وبرزَت منه مما كان قبلنا من أولئك الأقوام الذين مضَوا على قصدِ السبيل إلى العلى قدم على قدم بجد أوزَعٍ، كل ذلكم ما داخلَه شائبةُ تبعيةٍ لأنفس، ولا تبعية لأهواء، ولا لإنس، ولا لجن، ولا لعرب، ولا لعجم، ولا لحكومات، ولا لشعوب، ولا لسياسات، ولا لهيئات، ولا لأحزاب، ولا لأغراض، ولا لمقاصدَ مِن مقاصد وأغراض الدنيا بأصنافها، في تبعية للحق، تبعية للحبيب محمد صلى الله عليه وسلم.

فإن كان في الوجود حرية على وجه الحقيقة فلسنا نرى غير ذلك، هو التحرر مِن رقِّ النفوس وآفات الشهوات والأهواء والاتجاهات بالأفكار البشرية التي تقود الناسَ يمنةً ويسرة وممن يتبعون أهواءهم (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) ومن هم الذين لا يعلمون؟ كلُّ مَن لم يعلم حقيقة خلقيَّته وعظمةَ خالقه وأنه أرسل محمداً فهو لا يعلم، كل مَن لم يعلم هذه الحقيقة هو لا يعلم، صاحب تكنولوجيا لا يعلم هذه الحقيقة. صاحب أسلحة، صحاب حضارة لا يعلم هذه الحقيقة فهو لا يعلم، فحرام علينا أن نتبع هواه في أي مسلك مِن مسالك الحياة، (وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ * إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئًا) (يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِّنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ) وكل علم لا ينقذ الإنسان من ورطة الخلود في النار فما هو؟ علم أو جهل؟ خير أو شر؟ هدى أو ضلال؟ ما هو؟ (فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ)

العلم هو ما أنقذ الناسَ مِن ورطةِ الخلود في النار، العلم ما أنقذ الناسَ مِن عذاب الكريم الجليل الجبار القهار، العلم ما أوصلك إلى سعادة الأبد. ومصدر هذا العلم ما أقام في باطنِك خشيةَ الواحد الأحد، خوفَ الله جل جلاله، ملئوا عقلَك وقلبَك بخوف الفقر وخوف الحرب وخوف المرض وخوف الأسلحة إلى غير ذلك، فأين خوف خالقهم كلهم!؟ أين خوف مالكهم هؤلاء كلهم!؟ أين خوف الذي بيده هؤلاء كلهم وأوصافهم!؟ عارٌ عليك، مؤمن وتخاف هذه الأشياء ولا تخافه هو، وعزة ربي لا يصل ذرةٌ من فقر ولا حاجة ولا جوع ولا ظمأ إلى إنسان أو حيوان إلا بإرادته، وعزة ربي ولا ذرة من مطعم ولا مشرب ولا ملبس ولا مسكن لإنسان ولا لحيوان إلا بإرادته هو وتدبيره هو جل جلاله.

 أيها المعظمون لأقلام أهل الوزارات والحكومات ومجالس الأمن - التي يسمونها-، هناك أقلام تكتب في اللوح المحفوظ، هي الأعلى، هي الأجل، هي التي لا يكون في الكون إلا ما كتبته هي، وما أرادته هي (ن وَالْقَلَمِ وَمَا يَسْطُرُونَ * مَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ * وَإِنَّ لَكَ لَأَجْرًا غَيْرَ مَمْنُونٍ * وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ * فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ) فستبصر ويبصرون، وتظهر الحقيقة للكل (فَسَتُبْصِرُ وَيُبْصِرُونَ * بِأَيِّيكُمُ الْمَفْتُونُ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) اللهم اهدنا فيمن هديتَ يا رب العالمين يا أكرم الأكرمين.

معاني شريفة من معاني حرية هذا الإنسان أن يتحرر من أن يكون مأسوراً لأهل هذه الأفكار والأهواء في شيء من حركات حياته أو لهواه هو، (وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ) فاجعل يومَ الحساب على بالٍ منا يا ربَّ الأرباب، حتى لا نخيبَ يوم الحساب، حتى لا نشقى يوم الحساب، حتى لا نذلَّ يوم الحساب، حتى لا نُخزى يومَ الحساب، وإنما يُخزى في ذلك اليوم مَن نسي يوم الحساب ومَن تغافل عن يوم الحساب، وما يوم الحساب؟ (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) ورؤيتنا مِن رؤية الله، ربنا يراه قريباً ونحن نراه قريبًا؟ في يوم يقول الله تبارك وتعالى: (تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ * فَاصْبِرْ صَبْرًا جَمِيلًا * إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا) جميع المحجوبين جميع الغافلين (يَرَوْنَهُ بَعِيدًا) لكن: (وَنَرَاهُ قَرِيبًا) الله ورسوله وأهل دائرته يرونه قريبا، لأنه متيَقَّن، حقيقة، واقع، وكل آتٍ قريب، (وَأَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لَّا رَيْبَ فِيهَا وَأَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَن فِي الْقُبُورِ) جل جلاله، (إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيدًا * وَنَرَاهُ قَرِيبًا * يَوْمَ تَكُونُ السَّمَاء كَالْمُهْلِ * وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ * وَلا يَسْأَلُ حَمِيمٌ حَمِيمًا * يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْويهِ * وَمَن فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ)  فلا علاقة شركات ولا صداقات ولا مؤسسات ولا أحزاب. يود أن يفتديَ بالكل، وينجو من عذاب الجبار الأعلى جل جلاله، وما هو بمُنجيه وما هو بمفتده، ( لو أن لهم ما في الأرض جميعاً لافتدوا به ) وما تُقبل منهم الفدية ولا يستطيعون أن يفدوا بشيء، فسبحان الحاكم بيده الأمرُ كلُّه، اللهم هيئنا لحسن لقائك برحمتك يا أرحم الراحمين.

هذا المعنى من التحرر الذي نحمد الله تبارك وتعالى عليه، ناله من قبلنا من العلماء الذين مضوا في أيام تلك الشدة مثلاً التي وقعت في البلد، وفي غير ذا البلد وقعت شدائدُ هنا وهناك وفي أوقات مختلفة متعاقبة، لكن بقيت هذه القلوب الطاهرة المحررة على سبيل حريتها في صدقِها مع الله وتحرُّرِها عن أن يأسرَها شيءٌ غيره، ولو كلفها ذلك أن تجوع، أو أن تظمأ، أو أن تُحبس، أو أن تُقتل، أو أن تُسحَل، ولو كلَّفها كل ذلك، (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) ليس في إراداتنا شيءٌ يُباع، ما في شيء للبيع على أحد، لا على حكومات، ولا على شعوب، لا على أحزاب، ولا على هيئات، ولا على جهات، ما في إراداتنا شيءٌ يصلح للبيع، نفوسُنا قد بِعناها، أموالُنا قد بِعناها لواحدٍ أحد حكيم فرد قوي قادر يكافئ أحسن المكافأة، ويعطي أحسنَ المقابلة، لن نجدَ أسخى منه، ولن نجدَ أوفى منه، وليس لسواه حقٌّ أصلاً ينازعُنا فيه، هو الخالق لا خالقَ غيره، هو القادر لا قادرَ غيره، هو الآخِر إليه مرجعُنا أجمعون جل جلاله وتعالى في علاه.

 ونشرَ الصكَّ بينهم في هذا العقد والميثاق وسط الكتاب المنزل على حبيب الخلاق: (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ) هل رأيت مثل هذه الوثيقة !؟ قل لي: مَن المشتري؟ هل الذي اشترى هو الوزارة أو الحكومة.. (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ) هل تسمع يا أخي؟ ما هذه الوثيقة؟ المشتري هو إلهي، خالقي، رب العرش، الغني عني، ما هذا الشراء؟ قال هو فَضْله، سمي نفسي مشتري ويسميك بائع، وما لك شيء أصلاً أنت وما عندي حقي وملكي، لكن تفضل، المشتري الله، البائع المؤمن، الشاهد محمد، هل تعرف صكًّا مثل هذا؟ هل في صكوكهم مثل هذا؟ هذا الصكُّ الأشرف (إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم) والثمن سعادة الأبد، ومجاورة للواحد الأحد في مرافقة النبي محمد، في دار السعادة (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) ما رأينا مثل هذا الثمن، وكيف تزهد في هذا مقابل شيء من الأخريات؟ (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) لهم، كيف لهم؟ تصير لهم، لا بنَوها ولا زرعوها ولا قوموها، بناؤها لبِنة من فضة ولبِنة من ذهب، لهم أنهار من لبن وأنهار من خمر وأنهار من عسل مصفى وأنهار من ماء، لهم أشجار يسير الراكب فيها مائة عام.. (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا) نعم والله كبير بمنظار الكبير وكل ما سواه فصغير وحقير، وعزةِ هذا العزيز لو أن إنساناً أُعطي ملكَ الأرض من أيام آدم إلى أن تقوم الساعة في أن مقابل أن يترك متعمداً فرضاً واحداً من فرائض الله لكان خاسراً؛ هم يحصلون هذا، لكن غرور الناس، غفلة الناس، جهل الناس، (بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ) فكيف ينفِّذون بنودَ هذا الصك؟ قال: (يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا) وفين تنشره؟ الصحيفة الرسمية حقه من؟ حق أي دولة؟ (فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ) صحف الرحمن، الله أكبر، في التوراة (وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ) بعد ذلك كله خذوا الحقيقة: (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ).

أما نعشق هذا الإله؟ أما نحب هذا الإله؟ إلهكم أحبابي، إلهكم إخواني، ما الذي يلهينا عنه!؟ ما الذي يقطعنا عنه!؟ ما الذي يحول بيننا وبينه؟ اضمحلَّت الأكوان إذا ذُكر المكوِّن، إلهك يا هذا خيرٌ لك (وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ) النتيجة: (فاستَبشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِى بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ) وصفاتهم نقرأ: (التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ) تلاها لسانُ المصطفى على قلوب الصحابة وعقول الصحابة، فطربوا، وامتلأوا وأعلنوا: ربح البيع فلا نقيل ولا نستقيل، ووفوا عليهم رضوان ربي، والله يرينا وجوههم يوم القيامة، الله يرينا وجوههم في دار الكرامة، الله لا يفرِّق بيننا وبينهم في تلك الدار إنه أكرم الأكرمين وأرحم الراحمين.

 قدِّر خبرَ هذا الصك الأعظم يا مؤمن، يا مسلم، يا مصدق، يا واثق بالله، يا واثق بمحمد، يا واثق باليوم الآخر، قدِّر عظمةَ هذا الصك، واجعله على بالك، وقُم موفياً بعهد الله، فإذا صدقتَ ربح البيع، فاحذر أن تقيل أو تستقيل، حتى تأتي إلى خير مقيلٍ في الظل الظليل

 هو النور المبين به اهتدينا ** هو الداعي إلى أقوى سبيل

 أتانا داعياً بالحق يدعو ** إلى الإسلام بالقول الثقيل

 فبادر بالإجابة كل عبد** مطيع للإله وللرسول

 وأنكر كلُّ ذي كفر وبغي ** وأعرض كل ختار ضلول

 ففاز المقبلون بكل خير ** وعقباهم إلى الظل الظليل

 وخاب المعرضون وكان عقبى** معاصيهم إلى الخزيِ الوبيل

 بهذا النبي الذي أحببتَ وختمتَ به الأنبياء اجعل أهل جمعِنا هذا ومن يسمعنا في مَن أقبلوا واستقبلوا ووفوا بالعهد، فلم يقيلُوا ولم يستقيلوا، يا الله..

 وإن كان بيننا وبينهم مِن الزمن الذي خلقته ألف وأربعمائة عام فإنَّ عهدَك الذي عاهدتَ عليه ومددتَ به يده لصحابته نتصل به بالأيادي التي اتصلت بتلك الأيادي إلى تلك اليد، فارزقنا الوفاء، وارزقنا الصفاء، وارزقنا التمام يا ذا الجلال والإكرام، يا ذا الطول والإنعام يا الله..

 مشروعكم في هذه الظروف والأحوال، وما يجري ويدور في العالم، مشروع الهادي الدالِّ على ذي الجلال، جامع الكمال، مفيض النوال بدرِ الجمال محمد، ما شرع؟ قال "دع عنك أمر العامة، وعليك بخاصةِ نفسِك" المعنى لا تدخُل مأسوراً في شيء تلعب وتعبث به أيادي الكفرة، إبليس وجنده، هذا معنى كلامه، واجعل انطلاقَك في الحياة على حسب توجيه وتعليم (وما أتيتُك به من عند الله) هذا خاصةُ نفسك، خاصة نفسك، ما لا تمتد إليه أيدي هؤلاء الكفرة في إرشاد نفسك، في أولادك، في أهلك، فيما أتيح لك من تعليم بأي وسيلة في أي بلدة في أي مكان، لا غبارَ على شيء من ذلك، في إصلاحك بين الناس، في إنقاذك لجيرانك وتعليمك إياهم، في انتباهك من أولادك، في تنقية بيتك عن الصور الخبيثة، ورَدِّ برامج الكفار على وجوههم، وأخذ ما أباحَه الحق وأباحَه رسولُه وما سنَّه، منظوراً أو مسموعاً بأي وسيلة وفي أي شريحة وبأي جهاز من الأجهزة، عليك بخويصة نفسك، ولأن تشتغل بتجارة على موجب الشرع تكسب منها حلالاً لك ولأهل بيتك، عليك بخاصة نفسك، أو تقيم به مشروعاً على هذه التبعية لا تدخل عليه سلطات البنك الفلاني ولا المصرف الفلاني ولا الهيئة الفلانية والحكومة، عليك بخويصة نفسك، هذا خويصة نفسك، وإذا امتدت إليه اليد من برا خرجت إلى العامة، قال: دع عنك أمرَ العامة، قال إذا أوذن بامتداد يدِ إبليس وجنده إلى حركات الحياة فسيكون لكم مجال لا تمتد أيديهم إليه، فكونوا معه، عليك بخاصة نفسك ودع عنك أمرَ العامة، هذا مشروعُه صلى الله عليه وسلم.

وهذا ما أمر به في اعتزالِ تلك الفرق كلها، وهذا مشروعُه فيما قال، خُذ ما تعرف ودع ما تُنكر، كل ما وسوستَ فيه والتبسَ عليك اتركه، ما تعرف يعني لن يعدمكم مهما تكالبت عليكم الأعداء واشتدت بكم الظروف، لن تعدموا أن تعرفوا أمراً تقومون به وتؤدونه في حياتكم، خذ ما تعرف ودع ما تنكر، ولا تقع عُرضةً لهم، يلعبون بعقلك ويلعبون بمسلكك، هذه الحرية، حرِّروا دياركم وحرِّروا أعمالكم عن سلطة إبليس وجند إبليس، وجند إبليس امتدوا حتى ظهروا لكم في صور متقلبة متغيرة في الشرق وفي الغرب، فيا ليت قلوبَ المسلمين تعي خطابَ الله ورسولِه وتتحرَّر من هذه التبعيات التي لُبِّس عليهم فيها لأعدائهم فضربوا بها بعضَهم ببعض، وآذوا بها بعضَهم ببعض، ونهبوا بها خيراتِهم ونهبوا بها أمنَهم، ونهبوا بها طمأنينتهم، ولكنَّ الطمأنينةَ لأهلِ ذكرِ الله: (أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ).

 ثم بعد ذلك، تأمل قوله صلى الله عليه وسلم: لا تزال طائفة من أمتي ظاهرين على الحق - فالحمد لله، اللهم ألحقنا بهم، واجعلنا فيهم ومنهم ومعهم ومن أنصارهم- لا يضرهم مَن ناوأهم ولا مَن خذلهم، لا مَن ناوى ولا مَن خذل، يعني لا مِن الخارج ولا مِن الداخل، اللي في الداخل واللي في الخارج متَّصلين بأنواع هذه الفتن ما يضرونهم، ما يقدرون عليهم، لماذا؟ لحراسة الرب، من حفظِ الرب، من محبته للمقرَّب، من محبته للحبيب الأطيب صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فيُقرّ عينَه بهم.

يلاحظ بعضهم في مسجده الشريف أو في الحرم المكي التكبيرة خلف تكبيرة الإمام سنة من سننه، مرفوعٌ شعارها إلى هذا الزمان وهذا الوقت، كم لهذه السنة؟ متى شرعها؟ كيف حُفظت؟ وكيف هي قائمة هكذا؟ هذه جندية مع الله ورسوله، هذه أعلام الدولة، شعائر الدين، سنن محمد هي أعلام الدولة، الدولة التي لا تُغلب، الدولة التي لا تُقهر، ويضحكون على عقولهم، كلما قوموا لهم دولة وعملوا لها تخطيطات وقالوا هذه لن تُغلب.. كذابين، كلها ستُغلب، (أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُّنتَصِرٌ * سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) وهذه المجريات في الدنيا، والتي آخرها نصر كامل لمحمد وانتشار لدينه يسيرٌ بالنسبة لما في الآخرة (بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَالسَّاعَةُ أَدْهَى وَأَمَرُّ) فما يكون الحال في الساعة؟ (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَسُعُرٍ * يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ) لماذا على وجوههم؟ لأنها توجهت لغير ربها، توجهت في غير قبلتِها، توجهت في غير محلِّها، توجهت لأهوائها وشهواتها والشياطين، (يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ * إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ * وَمَا أَمْرُنَا إِلاَّ وَاحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ * وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا أَشْيَاعَكُمْ) أمثالكم ونظراءكم قد مروا مثلكم فأهلكناهم، (فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ * وَكُلُّ شَيْءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ * وَكُلُّ صَغِيرٍ وَكَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ * إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَنَهَرٍ * فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِندَ مَلِيكٍ مُّقْتَدِرٍ).

هذا الذي تهوى إليه قلوب القائمين بأوامر الله وشعائر الله ودين الله على ظهر هذه الأرض، وفيها قال قائلهم وهو الإمام الحداد:

 يا راحلا إن جئت وادي المنحنى ** فانزل به واحطُط على كنز الغنى

 وارعى الذمام لجيرة حلوا به ** وانشد فؤاداً ضاع في ذاك الفِناء

واستعطفِ الأحباب كيما يعطفوا ** فهم هم أهل المكارم والثناء

 واسألهم بالله ألا يقطعوا ** حبلَ المحب المستهام وإن جنى

 قل يا كرام الحي هل من عودة ** أو زورة لمريض هجر قد حنا

 لم يبقِ هذا الهجرُ من فضلاته ** إلا إهاباً مثل عظم قد ونا

أثر عليه حتى جسده باقي عندي جلد فوق العظم، قلَّ لحمي من محبتهم، من شوقي إليهم، وهو في تذوُّق حلاوة الوصال في كل ليلة، ما ترك قيامَ الليل في صحته ولا مرضه، من أيام صغره إلى أن لقي ربَّه جل جلاله وتعالى في علاه، يقول لمن يكلمه إذا خرجنا للصلاة مَن عنده لنا سلام مِن أحد أو رسالة مِن أحد أو سؤال أو خبر عن شيء فلا يكلمنا ونحن خارجون إلى الصلاة، فإنا نخرج عليها بجمعيَّة كاملة، كبَّر يوماً من الأيام فانشق الجدار من أثر: الله أكبر، من قلب حاضر مع الأكبر جل جلاه وتعالى في علاه، وهكذا، ذكر ما تحرر به:

 يقول أنتم مرادي، الحق ورسوله، القرب من حضرة الألوهية، لا أبالي بعدما ترضوا علي، بمن أحب ومن شنى

 لا أبالي مغريات الحياة، أتعابها، مشاكلها، لا أبالي بمن أحب ومن شنى..

وهكذا لم يزل يذكر المعاني إلى أن وصل إلى الغاية التي أشرنا إليها قبل، يقول:

إني لأرثى من بُلي بِبعادكم ** مثلي وهو القريب وأغبط من إليكم قد دنا

 هذه ثقافتي، هذا شعوري، هذا إحساسي، هذا إيماني، هذا مسلكي في الحياة، هذا مذهبي

وأرى الحياة إذا خلت عن وصلكم ** أن الممات أسر منها والفناء

 من لي، هذا الشوق إلى الحق وإلى رسول الحق..

 من لي وهل لي أن أراكم سادتي ** فضلاً وإلا من أكون ومن أنا

 لا اغترار بنفس، لا اغترار بعلم، لا اغترار بعمل، لا اغترار بعبادة، لا اغترار بولاية، لا اغترار بقطبانية، لا اغترار بأرض لا اغترار بسماء، وإلا من أكون ومن أنا

بودداكم، ود الحق ورسوله (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمَٰنُ وُدًّا) أذقنا يا رب هذا الودَّ آمين، قبل أن ينتهي عامنا الهجري هذا، آمين آمين.

وبشراك إن ذقتَه، وفوزك إن ذقته..

بودادكم تحيى القلوب وحبكم ** نور السرائر خير شيء يُقتنى

 إذا الناس بيخزنون بيضمنون بيجمعون شيء فخير شيء أنا أقتنيه حبك، حبك.. صدق والله ولا أعز من حب الله ورسوله، وحبكم نور السرائر خير شيء يقتنى.

 وبقربكم ووصالكم تتنعم الأرواح ** في روض المسرّة والهناء

في مقعد الصدق الذي قد أشرقت ** أنواره بالعند يا لك من سنا

الغاية هناك، وهل نقعد معهم في مقعد صدق؟ وهل نراهم؟ وهل نجتمع بهم أو يُحال بيننا وبينهم؟ بعزَّتك يا رب لا تجعل شيئاً من الذنوب يحول بيننا وبينهم، ولا شيء من الغفلات، ولا شيء من الركون إلى غيرك، ولا المعايب التي عندنا، ولا المفاسد التي في قلوبنا، ولا شيء مِن عيوبنا يا الله، لا تحُل بيننا وبينهم حتى تجمعَنا بهم في مقعد صدق، في مقعد الصدق التي قد أشرقت ** أنواره بالعندِ يا لك من سنا

والمتقون رجالُه وحضوره ** يا رب ألحقنا بهم يا ربنا

وتلكم الغايات وهذه النهايات، جعل الله مآلنا إليها، وغايتنا إليها وعاقبتنا إليها يا أرحم الراحمين

 فيا ربي واجمعنا وأحباباً لنا ** في دارك الفردوس أطيب موضع

 فضلاً وإحساناً ومناً منك يا ** ذا الجود والفضل الأتمِّ الأوسع

 بوجاهة المختار خير مشفع، اللهم آمين، أكرِمنا والحضارين والسامعين بهذه الغاية، بهذا المآل، بهذه العاقبة، بهذه الرجعة يا الله يا الله، يا وليَّ مآلِنا، يا وليَّ عواقبِنا، يا وليَّ نهاياتنا، يا وليَّ رجعانا، لا تهوِ بنا في النار، لا تضرب علينا الحجاب، لا تُبعِدنا عن الأحباب، لا تحرمِ العيون نظرَ الحبيب المأمون، واجعلنا فيمن له يصافحون، ولطلعتِه ينظرون، وبمشاهدته متبسِّماً يتنعمون، ومِن حوضِه يشربون، وبلواءِ حمدِه يستظلون، ومعه في الجنة له يرافقون، يا الله يا الله، واعطِ هذا العطاءَ أهلينا، واعطِ هذا العطاء والدينا، واعطِ هذا العطاء أولادنا، واعطِ هذا العطاء طلابَنا، واعطِ هذا العطاء جيرانَنا، واعط هذا العطاء أصحابَنا، يا مَن يعطي ولا يبالي، يا مولى الموالي، يا كريم يا والي، يا حي يا قيوم يا متعالي، يا قابل السؤال، يا مبلغ الآمال، يا من عطاياه الجزال، يا من جوده هطّال، يا بر يا رحيم، يا فرد يا قريب، يا محسن يا مجمِّل، يا مُنعم يا متفضل، يا ربَّ العرش، يا ربَّ الأرض، يا ربَّ السماء، يا ربَّ محمد، يا رب محمد بمحمد ارزقنا مرافقة النبي محمد، ومجالسة النبي محمد، ومصاحبة النبي محمد في دار الخلد وأنت راضٍ عنا يا الله يا الله، ما أعظمَها مِن دعوة، يا فوز مَن استُجيبت فيه.

ونرثى يا ربي مَن يمرُّ عمرُه من المؤمنين ما يتوجه بصدقٍ في هذه الدعوة، ولا يحضر محاضرها مع أهلها، أيقِظ قلوبَهم، أخرِجهم مِن غفلاتِهم، اربطهم بركبِ التوفيق يا موفِّق يا حي يا كريم يا منان يا رحيم يا الله، ما أحلى الدعوة وأحلى منها المدعُو، الله، قل يا الله، وهذا الذي دعوناه، لو لم يوفِّقنا هل نقدر ندعوه؟ لو لم يُلهمنا هل نقدر ندعوه؟ لو لم ييسر لنا فما دعوناه إلا به، ما دعوناه إلا منه، ما دعوناه إلا فيه، ما دعوناه إلا له، اللهم لك الحمد، اللهم لك الحمد، يا ربي دعوناك كما أمرتَنا فاستجِب لنا كما وعدتَنا، ألستَ أنت القائل: (وَقَالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ) أنت الذي قلت ذلك، نشهد، بلَّغنا حبيبُك، قد صدقتَ يا رب، وبعد أن قلتَ ذلك ما كلٌّ دعاك، ولا كلُّ مَن دعاك دعاك بقلب، ولا كل من دعاك دعاك بجمعه، فيا من وفقتنا لهذا كله استجب لنا، استجب لنا، استجب لنا، يا رباه استجب لنا، يا غوثاه استجب لنا، فقراء، فقراء لهم أنت الغني، ضعفاء لهم أنت القوي، عاجزون لهم أنت القادر، يا قادر يا قوي يا غني، العاجزون ببابك، الفقراء ببابك، الضعفاء ببابك، إلهنا، سُؤَّالك ببابك، مساكينك ببابك، فقراءك ببابك، عبيدك ببابك، يا الله، سؤالك ببابك، مساكينك ببابك، فقراؤك ببابك، عبيدك ببابك، يا الله، يا الله سؤَّالك ببابك، مساكينك ببابك، فقراؤك ببابك، عبيدك ببابك.. يا فاتح الأبواب، يا خير من أجاب، يا رب الأرباب، وما أحاط به علمك من حاجاتنا وحاجاتهم في الدنيا والآخرة فاقضِها على خير الوجوه يا خيرَ مَن نرجوه، ويا مَن أكرمَنا بأن ندعوه، يا مَن له عنَتِ الوجوه، يا حي يا قيوم، يا الله ، قلها شكراً لمَن وفقك لها، شكراً لمَن أكرمَك بها، شكراً لمَن توَّجك بقولها، يا الله يا الله، اقبل منا وأقبِل بوجهِك علينا، وزِدنا مِن فضلك ما أنت أهلُه يا أرحم الراحمين.

للاستماع إلى المحاضرة

لمشاهدة المحاضرة