محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 29 ربيع الثاني 1438هـ ضمن سلسلة إرشادات السلوك بعنوان: أعلى ما يُنال أشرف ما نزل السماء إلى الأرض ( اليقين ).
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي يُوالي إلينا إرسالَ المذكِّرات والمنبِّهات والتوجيهات والتعليمات والدلالات والآيات، مُجدَّدَةً آياتُه التي أنزلها على قلبِ خير البريات، في قوالب التنبيهات والتذكيرات، بألسُنِ أهل الإنابة والاخبات وأهل الوراثات النبويات، ونجتمع لها في المجالس متوجِّهين إلى الرحمن جل جلاله، وهو جليس مَن ذكره، كما جاءنا في الحديث القدسي ( أنا جليس من ذكرني) وجاءنا في الحديث الصحيح عنه تبارك وتعالى ( أنا عند ظن عبدي بي وأنا معه حين يذكرني، وأنا معه ما ذكرني وتحرَّكت بي شفتاه، وإن ذكرني في نفسه ذكرته في نفسي، وإن ذكرني في ملإٍ ذكرته في ملإٍ أطيب منهم) الله الله
وكيف يسعدُ مَن خرج مِن هذه الدنيا ولم يُحسن مجالسةَ الله، ولم يذق معنى مجالسة الله تعالى في علاه، فاتهُ خيرُ الدنيا وإن بنى قصور فهو في قصور، فاتَه شرفُ الدنيا، فاته نورُ الدنيا، فاتَه ما في الدنيا يمكن أن يكتسبَ مِن المحمودات والطيبات، ولكن الذين عاشوا وهم في الدنيا على مجالسةٍ مع رب الأرض والسماء والدنيا والآخرة جل جلاله مِن باب حبيبِه الذي أرسله بهذه المعاني وبهذه الكلمات، هم الذين أدركوا خيرَ الحياة، هم الذين أدركوا سعادةَ الحياة، ولهم بعد الحياة سعادةُ الممات وخير الممات وخير الآخرة. ألا إنَّ خيرَ الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته، اللهم اجعلنا مِن أهل تقواك وأهلِ طاعتك. ألا وإنَّ شرَّ الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته.
هذا الأساس والأصل والميزان الفارق بين مَن آمن ومَن كفر، بين مَن صدَّق وحيَ الله الذي أوحاه الى أنبيائه وأبلغوه إلينا، وبين مَن انقطع عن هذا النور فلا نقبل شيئاً يخرج مِن هذه الحقيقة -إنَّ خير الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته، وإن شر الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته.
وكل ما سُمي بثقافةٍ خالف هذه القاعدة فهو التفاهة وهو الظلمة وهو الكذب، وكل ما سمي تحضُّرا أو مدَنيَّةًّ وهو يخالف هذا الأصل، يخالف هذا الأساس، فهو التأخر والسقوط والظلمة، وهو الندامة والحسرة في القيامة.
كل ما خالف هذا وسمِّي نظاماً أو دولةَ أو حزباً أو هيئه أو جماعة أو مؤسسة أو شركة أو ما يسمى من الأسماء فهو باطل، فهو باطل، وعُقبى أصحابه الندامةُ الكبرى، وبئست الندامةُ ندامةُ يوم القيامة.
خير الدنيا والآخرة في تقوى الله وطاعته، فهو رب الدنيا والآخرة، وخالق الدنيا والآخرة، وبيده أمرُ الدنيا والآخرة؛ وشرُّ الدنيا والآخرة في معصية الله ومخالفته. هذه ثقافتُنا، هذا نظامنا، هذا منهجنا، هذه حضارتنا، هذا علمُنا، هذا أساسُ سعيِنا، هذا حقيقة إيماننا.. لا نعتقد أن خيرَّ الدنيا ولا الآخرة إلا في تقوى الله وطاعته، وندرك ما قال صاحبُ الرسالة المأمون مِن قبل الخلاق يخاطب الخلق: أصدقُ كلمة قالها الشاعر كلمة لبيد ( ألا كل شيء ما خلا اللهَ باطل)
كل ما خرج عن مرضاة الله وعن منهج الله وعن ما أحب الله باطل باطل باطل باطل باطل، يسمى ما يسمى على ظهر هذه الأرض، والله يجعلنا مع الحق، ومع أهل الحق.
اعرف الحقَّ لأهل الحقِّ واسلُك معاهم ** في طريق التقى مِن حيث سارو وراهم
فالسعادة منوطه كلها باقتفاهم
ربي ألحِقنا بالصالحين واجعلنا مع السعداء في الدنيا والآخرة يا رب الدنيا والآخرة يا رب العالمين.
وأنتم في نعمة استجلاء حقائق هذه المعاني التي خلَّفها فيكم مَن أنزلت عليه المثاني صلى الله عليه وسلم، تستقون مياهها العذبة، في وقت صُبَّ على القلوب التي قبِلت، أردى المياه وأشدَّ المياه كدرة وقذارة تُصَب على القلوب، تُكدَّر بها القلوب، تُحجب بها القلوب، تُظلم بها القلوب.
ومن رضي يستقي منها يستقي، ولكن أنتم في أصفى ما تُسقى به القلوب، تجلسون مجالس حيث تُدار هذه الكؤوس.. وهذا الصفاء بترتيب من؟ يا أحبابي بتقدير من؟ يا أحبابي أنا وأنتم ماذا نساوي أمام الملك في مملكته؟ قدَّر لنا هذا، رتب لنا هذا، أعطانا هذا، منحَنا هذا، فكيف نقابل المِنحة والمانح؟ كيف نقابل النعمة والمُنعم؟ كيف نتعامل مع المِنة والمنان؟ لو لم يَمُن عليك ما سمعت ذَا الكلام ولا سمعت ذَا التوجيه، ولا أنصت للحبيب أبي بكر وهو يتكلم، ولا سمعت كلام إخوانك وما يعانونه في شرق الأرض وغربها، مما نعيشه اليوم، لا من قبل ولا من بعد.. لأن الحقيقة هي واحدة، وصور الدجل هذه والأسباب المؤثرة المُبعدة عن الهدى وعن الحقيقة مهما تلوَّنت فمرجعُها إلى واحد، إبليس يقودها وأتباعه. ومرجع الحق والخير إلى واحد محمد سيد أهله، محمد قائد الخير صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
سمعتم الحبيب أبا بكر يسمو بأرواحكم، إلى أن نستشعر معنى صلتِنا بهذا الجناب حتى تفوقَ كلُّ اتصالاتنا بما حوالينا، لأن الكائنات كلها هذا سيدها، خالق الكائنات قدَّم هذا على الكائنات فكيف تفسح المجال للكائنات تتقدم عليه في قلبك!؟
تتقدم عليه في شعورك، تتقدم عليه في ذوقك. قبل اتصالك بثيابك وبجسدك نفسه وما حوليك اتصالك بنور محمد لأنه سيد هذه الكائنات، ولِمَ تتصل بنور محمد؟ إيماناً بمن خلق، إيماناً بمن فضَّل، إيماناً بمن قدَّم، إيماناً بمن أبدع وفطر، إيماناً بمن بيده الأمر كله، ويرجع إليه الأمر كله، واحد أحد فرد صمد، سعدتُم به اسمه ( الله )
هذا الله الذي جمعكم على هذه الخيرات، له الحمد له المنة، ويسقي الله قلوبنا من مياه المعرفة واليقين..
يا رب هب لنا منك حسن اليقين ** وعصمة الصدق وقلباً سليم
وهمةً تعلو وصبراً جميل ** ونور توفيق به نستقيم
وحسن تأييد وعوناً يدوم** فإنك الدائم وفضلك عميم
نرجوك تعطينا الذي نبتغي ** بمحض جودك لا بجهدنا الذميم
ما نزل من السماء إلى الأرض أشرف من اليقين، وكم مِن قلب هذه الليلة يُسقى اليقين، وربما حُجز كأس يقين من الليلة لقلبٍ ليشربَه بعد عام، أو ليشربه بعد أيام. وربما حاضر لم يُكتب له نصيب من هذا اليقين، فالله لا يحرم مَن معنا، ولا يحرم مَن يسمعنا، يا رب هذه القلوب.. قلوبنا وقلوب الحاضرين والسامعين وقلوب مَن في ديارنا اسقِهم في ليلتنا هذه مما أذِنَت به حضرةُ إفضالك أن يهبط إلى الأرض من اليقين بك وبرسولك وبكتابك ومما جاء عنك حتى نشهدَك بمرآةِ عبدِك محمد، يا الله يا الله يا الله، وفي ما أنزلته في الليالي السابقات والأيام الماضيات، إلهنا، ربَّ العرش، المعطي، مَن بيدِك الأمر، وفيما ستُنزله بعد ذلك، اقسم لقلوبنا بنصيب..
يا مولانا يا مجيب يا حاضراً لا يغيب. توسلنا إليك بالحبيب.. وفِّر حظَّنا من هذا اليقين والنصيب، واجعل ذلك في لطف وعافيه، وتأييد وتسديد يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
ودعاكم لتحرير الديار والمنازل من أعداء الله، وبرامجهم وأفكارهم وصورهم وأطروحاتهم. حرِّروا ديارَكم. حرِّروا بيوتكم. حرِّروا منازلكم مِن أعداء الله وصورهم وأفكارهم وبرامجهم وأطروحاتهم. حرِّروها. ولا ترون إلا وأراضيكم أيضاً محررة منهم، إذا حررتم دياركم ووسط دياركم حُررت الأراضي لكم، ودحرهم الله وصدَّهم ودفعَ شرَّهم عنكم، وإلا فنتيجةُ ما نفتح لهم الديارَ والمنازلَ والقلوب يلعبون علينا في الأراضي والأماكن. ويلعبون علينا في كل ما عندنا، والله يدفع عنا شرَّ المؤذين وأعداء الدين ولا يبلِّغهم مراداً فينا ولا في أحدٍ من المسلمين.
واخرجُوا بنصيبكم الليلة من هذا اليقين، يا رب العالمين يا أكرم الأكرمين، عيون طهِّرها فتسلك مسلكَ اليقين في باقي أعمارهم حتى تتهيأ لرؤية سيد أهل اليقين في البرزخ ويوم الدين وفي الجنة، ثم تُكرمها بالنظر إلى وجهك الكريم، يا الله وأسماع أعطيتنا إياها لا خلقَها شرقي ولا غربي ولا عربي ولا عجمي ولا أنس ولا ملك، أنت خلقتها يا رب فشرِّفها بأنوار اليقين حتى لا تصغي إلا لما يقرِّبها إليك، يا أرحم الراحمين، وكل أعضائنا أعطيتنا إياها فصرِّفها في طاعتك.
والقلوب يا مقلِّبها لا تُسلِّط عليها عدوَّك، ولا أحداً مِن جُنده ولا النفوس الأمارة ولا الاهواء، يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبنا على دينك. واسلك بها مسلك قلوب أهل اليقين.
أهل اليقين لعينه ولحقِّه وصلوا ** وثَمّ جواهرُ الأصدافِ
هذا شراب القوم سادتنا وقد ** أخطأ الطريقةَ مَن يقل بخلافِ
يا ساقي اسقِ قلوبنا، واغفر ذنوبنا واكشف كروبَنا، ولا تصرف واحداً مِن مجمعِنا ولا ممن يسمعنا إلا مَسقياً مِن هذا الكأس، مرتبطاً بخير الناس، تقيم له في الصدق معك الأساس.. يا ربَّ الناس يا ملكَ الناس يا خالقَ الناس، يا إلهَ الناس اكفنا ( شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والنَّاس ). واشرح الصدورَ بأنوار وحيِك، وكلام نبيك وأقوال أهل حضرتك، والصالحين من عبادك. آمين يا الله. وافعل كذلك بقلوب مَن في ديارنا، من أهلينا وأولادنا وقراباتنا ومَن يسكن معنا وجيراننا، يا واهب المواهب، يا ذَا الغيوث السواكب، يا حي يا قادر بيده الأمرُ كله في الباطن والظاهر، لا إله إلا انت آمنا بك وبما جاء عنك على مرادك، وآمنا برسولك محمد وما جاء عن رسولك محمد على مراد رسولك سيدنا محمد، فاجعلنا من أهل اليقين، ورقِّنا في أعلى مراتب علم اليقين، وعين اليقين وحق اليقين، في تمكينٍ مكين ولطفٍ وعافية، يا أرحم الراحمين، وأصلح شؤونَ أهلِ لا إله الا الله، واجعلنا مِن أنفعِهم لهم وأبركِهم عليهم، وانفعنا بهم عامة، وبخاصَّتهم خاصة، والحمد لله رب العالمين.
للاستماع إلى هذه المحاضرة