محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى ليلة الجمعة 4 جماد آخر 1438هـ ضمن سلسلة إرشادات السلوك بعنوان: من حقائق قيومية الإله الحق وعظمته في الوجود.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله المُتجلِّي بعجائبِ الإفضال، والمُنزِل لواسِع النوال، والمُعطي للعطايا الجزال، رب الأرباب مُسبِّب الأسباب، بيدِه الأمرُ كلُّه، وإليه يرجعُ الأمر كلُّه، ربُّ كل شيء ومليكُه، منه الابتداء وإليه المرجع والمنتهى، (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَغْنَى وَأَقْنَى * وَأَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرَى * وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى).
أيها الحاضرون في المحضر الكريم: هذا الرحمن الرحيم يقصُّ علينا أخبارَ آياتِه وصفاتِه وأفعالِه ووجودِه في هذا الوجود، المبدئ المنتهى، المُضحك المُبكي، المُسدِي المُنعم، المُحيي المميت، كان بيدِه تيسيرُ شؤون الأمم التي سبقت، والذين تطاولَت رؤوسُهم بدعوى القوة، وبدعوى القدرة على ظهر الأرض، دكدك رؤوسهم وأنهاهم (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى) يقول بعد هذا البيان كله: (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى) أين يذهب عقلك؟ أين يذهب قلبك؟ أين يذهب وهمُك؟ أين يذهب خيالُك؟ أين تذهب باتجاهك.. تصدِّق من؟ تغتر بمن؟ تنخدع بمن؟ تمشي وراء من؟ تقتدي بمن؟
يا أيها العاقل (فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى * هَذَا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولَى) ولقد جمع معاني النذارة كما جمع معاني البشارة، المُكرَم بأعلى الطهارة، حبيبُ الله الذي أسَّس لكم هذه المعاني وهذه المباني وهذه الاجتماعات وهذه الخيرات، بما أتاه اللهُ تبارك وتعالى مِن جهد، ومِن رحمة، ومِن رأفة، ومِن صبر، ومِن صدق (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ) فاجتمعَ العزمُ فيه، واجتمع الصبرُ فيه، واجتمع الشكرُ فيه، وهو القائل "أفلا أكون عبداً شكوراً"
وهو بحق الشكر ما أولاه ** إذ قام حتى وَرِمَت رجلاه
وواصل الصومَ وقد أولاه **مولاه أولى الفضل والإفضال
وأسوةٌ لمعسر مسكين** إذ صحَّ لم يشبع ولا يومين
وقد أبى جبالَها من عينِ زهداً ** ومن جوعٍ طوال الليالي
وأسوةُ المكروب في اصطبار** في كل ما لاقى مِن الكفار
حتى رُمي بالفرثِ والأحجار ** وما دعا إلا على رجال
وما مضى حتى أقام الدينا ** وصار سهلاً واضحاً مبيناً
جرى بينكم في المجلس استفسار.. كيف كان قضاء العشر السنوات الأخيرة مِن عمر النبي المختار على ظهر هذه الدار..
فلم يزل للحق في اجتهاد ** وبعد فرضِ الغزو والجهاد
ما قرَّ في ظل ولا بلادِ ** إلا على الكفار في قتالِ
سبع وعشرون غزوة، وسبع وأربعون سرية، جرَت على يده في خلال هذه العشر السنوات، سبع وأربعون وسبع وعشرون، وزِّعها على السنوات كم لكل سنة؟ بل بنفسه في غزواته، بعض الغزوات بين وصوله إلى المدينة وبين خروجه إلى الثانية أسبوع، بعضها بين وصوله إلى المدينة وخروجه إلى الثانية عشرة أيام، وبعضها أقل من ذلك، يخرج صلى الله عليه وسلم ثم يقول: لولا أن رجالاً يشق عليهم أن يتخلَّفوا عني ولا أجد ما أحملهم عليه ما تخلَّفت خلف سرية ولا غزوة، ولكن لا أجد ما أحملهم عليه، ويشقُّ عليهم أن يتخلَّفوا عني، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه سلم.
بيَّن لنا أحوالَ وعواطفَ ومشاعرَ المجتمع الذي عاش على الاتصال بذي الجلال، وأسرار وعي خطابه ووحيِه الذي أوحاه إلى قلبِ هذا النبي صلى الله عليه وسلم: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنذِرِينَ) على قلبك.. على قلبك.. على قلبك.. قلب النبي محمد صلى الله عليه وسلم والذي وعى عن الله وحمل عن الله، ثم بعد أن حمل هذا القلب يُسِّر بلسان صاحب هذا القلب (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَتُنْذِرَ بِهِ قَوْمًا لُدًّا) (فَإِنَّمَا يَسَّرْنَاهُ بِلِسَانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ) فاجعلنا يا ربنا مِن خواصِّ من تذكر وتبصَّر وتطهَّر وتنوَّر بحبيبك الأنور يا الله، (عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ * بِلِسَانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ)
(أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) قل أما يكفيكم آية، العلماء من بني إسرائيل من قبل تكوين خلقِ ذاته الطينية والجسدية في هذا العالم، أجريتُ ذكرَه على ألسنتهم، لأنني وصفتُه، ولأنني بيّنت فضله، ولأنني رفعت ذكرَه، ولأنني أعليتُ قدرَه، ولأنني أخبرت كلَّ رسول عن فضلِه، وأخذتُ عليهم المواثيق لو بُعث في زمان أيٍّ منهم أن يتَّبعه ويطيعه (أَوَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَمَاءُ بَنِي إِسْرَائِيلَ) فقد كانوا يبشِّرون به.
قالت سيدتنا صفية بن حُيي عليها رضوان الله لنبي الله محمد: يا رسول الله، ليلة أن جاءك أبي وعمي نظروا إليك أول ما قدمتَ المدينة، ثم رجعوا إلى البيت، فسمعتهم يتكلمون، ويقول كيف رأيت الرجل؟ فقال عمي لأبي: إنه الذي بشر به موسى، هذا الذي بشر به موسى بن عمران، فيقول له ما قررتَ في شأنه؟ قال: معاداته، معاداته إلى الأبد.. تعادي مَن؟ والذي بُشِّر به على لسان الأنبياء مَن قبل!! رغبةً منه في بقاء سُلطتِه الزمنية فما بقيت سُلطته، رغبةً منه في مظهر الحياة فما بقيت حياتُه، رغبةً منه في شيء من الجاه فما بقي جاه، رغبةً منه في تحصيل شيءٍ من المال فما بقي له مال.
كعب بن الأشرف.. هل بقي معك مالٌ ينفعك؟ إن أُذن لك أن تسمع ليكون مِن جملة تعذيبك وتأنيبك وأنت في البرزخ اليوم، لمَ كذَّبت بصاحب الوجه المنير؟ مِن أجل مالك؟ هل بقي معك اليوم مال!؟ مِن ألف وأربعمائة سنة وقد قُتلتَ وذهبتَ من هذه الحياة، هل بقي للمال قيمةٌ عندك؟ ألِأجل أيامٍ قلائل كذَّبت فيها بصاحب ختم الرسائل، خسرت هذا الخسران كله!؟ وأنت محبوس في برزخك حتى يأتيَ آخرُ بني آدم وتقوم الساعة، ثم تحضر إلى موقف تكون الراية فيه للذي كذبتَه هذا..
يا كعب بن الأشرف، السلطة التي كنت متشبِّثاً بها.. ما قيمتها الآن عندك؟ ما مكانتها؟
فإنَّ أمامَنا عقولاً في الشرق والغرب مُغترَّة بالسلطات، يرون أنها شيء وما هي بشيء، إن ربَّ كلِّ شيء، يدعوهم لأن يرفضوا هذه الحقيرات، وأن يتَّصلوا بختمِ الرسالات، اللهم اجعلنا من خواصِّ مَن اتصل به. ندم والله، خسر والله، من أجل المال؟ من أجل السلطة؟ من أجل المظهر؟ ولا نفعه مالٌ ولا سلطةٌ ولا مظهر، وكان مثله مثل مَن هلك قبله مِن الأمم الذين أبَوا نورَ الله، وأرادوا أن يطفئوا نور الله بأفواههم (فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) ولقد مكناهم في مظاهر الحياة الدنيا، في اقتصادياتها، في سياساتها، في اجتماعياتها، في عماراتها، ومبانيها، (وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ) ليس موجوداً عندكم، مُكِّنوا في العمارات، مُكِّنوا في التجارات، مُكِّنوا في الزراعات، مُكِّنوا في الصناعات، ( وَلَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيمَا إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَجَعَلْنَا لَهُمْ سَمْعًا وَأَبْصَارًا وَأَفْئِدَةً فَمَا أَغْنَىٰ عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَلَا أَبْصَارُهُمْ وَلَا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْءٍ إِذْ كَانُوا يَجْحَدُونَ بِآيَاتِ اللَّهِ وَحَاقَ بِهِمْ مَا كَانُوا بِهِ يَسْتَهْزِئُونَ) (وَلَقَدْ أَهْلَكْنَا مَا حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرَىٰ وَصَرَّفْنَا الْآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ * فَلَوْلَا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْبَانًا آلِهَةً ۖ بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ ۚ وَذَٰلِكَ إِفْكُهُمْ وَمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) فمن يفوز؟ مَن سمع نداءَ الرب، مَن خضع لله، وحدهم الفائزون، نعم والله ثم والله ثم والله، لا أهل الطائرات ولا أهل التكنولوجيا ولا أهل السياسات ولا أهل الكراسي الدنيويات هم الفائزون، دونَ مَن اتصل بالله تعالى.
عامةُ مَن على ظهر الأرض من أهل مظاهر الدنيا والله ستشتدُّ حسرته تَمنِّياً أنه أدرك ساعةً من ساعات هذه المجالس في حياتِه، لكن صدَّتهُ نفسه، صدَّه هواه، صدَّه الاغترار بذا الكرسي، صدَّه الاغترارُ بذي التكنولوجيا وما شيء منها يبقى، إن كان هناك شرف فبالإصغاء إلى آياتِ الله.
بعد ما ذكر هذه الآيات التي تلوناها قال تعالى: (وَإِذْ صَرَفْنَا إِلَيْكَ نَفَرًا مِّنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ) هناك الشرف للإنس والجن، إن هناك شرف أو بقاء، سعادة أو كرامة أو رفعة أو خير أو نعمة فمع الذين يتبعونك، ( فلما حضروه قالوا أنصتوا) فاستمعوا الكلامَ مِن الله على لسان رسوله، ( فلما قُضِي ولَّوا إلى قومهم منذرين) فقهُوا حقَّ هذه الرسالة فلنفقَهها.
الله ما تلا علينا هذه الآيات لِننام يا إخواني، ولا لنغفلَ مِن بعدهم، بل لنعمل، لنحمل هَمَّ هذه الرسالة إلى ديارنا وأهلنا وأقوامنا وإلى مَن لقينا في سيارة أو في طائرة أو في شرق أو غرب حيثما كنا، احملوا نورَ الله جل جلاله، (قَالُوا يَا قَوْمَنَا إِنَّا سَمِعْنَا كِتَابًا أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسَىٰ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَإِلَىٰ طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ) (يَا قَوْمَنَا أَجِيبُوا دَاعِيَ اللَّهِ) يعنون محمداً.
هذا نبيُّكم محمد، وهذه سننُه، وهذه أخباره، وهذه سيرتُه، وهذه دعوتُه لكم فيما حرَّم وأحل (وَيُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّبَاتِ وَيُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبَائِثَ وَيَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَالْأَغْلَالَ الَّتِي كَانَتْ عَلَيْهِمْ ۚ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ) اللهم اجعلنا منهم ومِن خواصِّهم (وَعَزَّرُوهُ) اللهم اجعلنا منهم ومِن خواصِّهم (وَنَصَرُوهُ) اللهم اجعلنا منهم وفي خواصهم (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ) ما قال عليه، ما قال فيه، أُنزل معه، أُنزل معه، النور معه، هو ذات النور وأصل النور، صدر منه النورُ لعباده (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ) كما نزَّلناه إليكم بهذا القالب من حقيقته المحمدية، النور نزل معه (وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) الفائزون السعداء، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا فيهم يا الله يا الله يا الله.
في اتصال هذه الأنوار سمعتُم هذه الأخبار، وكلام الحبيب علي بن حسين عيديد، كان والده عليه رضوان الله نوراً من أنوار إرث المصطفى صلى الله عليه وسلم، يجلس في مجالس شيخه الحبيب علي بن محمد الحبشي، لما تعجَّبوا من قوة منزلتِه في قلبِ شيخه ومحبته له، يسأله بعضهم عن السبب، يقول: ما سمعت منه كلمة إلا أنزلتُها على نفسي، كل كلامه الذي يقوله ويذكِّر به في المجالس الخاصة والعامة أُخاطبُ به نفسي، وأطبِّقه على نفسي، وأقول أنا المقصود بهذا الكلام، بهذه التربية بهذه الترقية، كان له جسد ضعيف، له جسد نحيف، وفيه روح قوية كبيرة، يذهب حجَّة بعد حجَّة، في طريق الحج دعوة إلى الله، في القرى في المدن، في البوادي في الحضر، ومسجد بعد مسجد يبتني على يديه، حتى يقول الحبيب مصطفى المحضار يتعجب فيما أجراه االله على يديه يقول على الحبيب حسين عيديد أضعف من الوليد وأقوى من الحديد، قوة معنوية في هذا المسير وهذا التأثير وهذا النور وهذا النشر للخيور.
وكان جدُّهم أول مَن استنشق شذا مجالسِكم هذه في هذا الوادي، حتى خرج مِن محلِّ المباني السابقة لتريم وانتزح إلى موطن عيديد التي ما في طرفها إلا مقابر الصحابة وآل البيت والعلماء والصالحين، في طرف عيديد، ونزل إلى باطن الوادي وتردد إليه، وبنى له المكان وبنى المسجد الأول والمسجد الثاني وانتزح إلى هذه المحلات من قبل ستمائة سنة، والمكان هذا خَبْت، ما حواليه شيء، لكن الريح تُشَمُّ لأهل الأرواح، والنور يسطع لأهل البصائر، عليهم رضوان ربنا.
ومضوا على قصد السبيل إلى العلى ** قدماً على قدم بجد أوزعِ
ثبتوا على قدم الرسول وصحبه ** والتابعين لهم فسَل وتتبعِ
سرُّ علاقتِهم بالله متجلِّيةٌ في ورعِهم، متجليةٌ في خشيتِهم لإلههم، متجليةٌ في تواضعِهم لإلههم جل جلاله وتعالى في علاه، في محافظتِهم على سنةِ محمد صلى الله عليه وسلم، وها أنتم تجدون هذه التجدُّدات وحقائق التجليات في ركنٍ ركين مِن الدين المتين القوي المَرعي بِرعاية العلي القوي جل جلاله، دين المنصور، المخاطَب بقول ربكم: ( إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا * لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا).
فيا مؤمن بالله: هل تهب لنصرة محمد وهو منصور من الله؟ تتشرف بأن تنصُر مَن ينصره الله، فلك الشرف ولك الفضل ولك العزة، إن كان سيدنا المسيح عيسى بن مريم يقول للحواريين من أنصاري إلى الله؟ قال الحواريون نحن أنصار الله، معك أنصار الله تعالى، أنت مظهر مِن مظاهر أمرِ الله وروحه وكلمته فنصرتك نصرة لله، نحن أنصار الله (فَآمَنَت طَّائِفَةٌ مِّن بَنِي إِسْرَائِيلَ وَكَفَرَت طَّائِفَةٌ) فما النتيجة؟ (فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَىٰ عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ).
وكذلك الذين اتبعوا محمداً ونصروه (فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَعَزَّرُوهُ) يعني عظموه وأجّلوه (وَنَصَرُوهُ وَاتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنزِلَ مَعَهُ أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ) اللهم اجعلنا منهم (قُلْ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعًا الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ) ماهو واحد صلَّح لكم صناعة وهو من جملة الصناعة وقال لكم تعالوا لي وانسوا الرب الصانع!! أنا رسول من؟ (الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ ۖ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ يُحْيِي وَيُمِيتُ ۖ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَكَلِمَاتِهِ وَاتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ) اللهم اهدنا بهداك، اللهم اهدنا فيمن هديت، اللهم ارزقنا المتابعة لحبيبك المصطفى محمد صلى الله عليه وسلم.
وفي بقاء مثل الحبيب علي طوّل الله في عمره في عافية وزادَه من أنوار الإرث للنبوة والمشي في سبيل الفتوة، في أيام يقضيها بمكة كان مثل المجلس هذا مذكور على قلوبهم وألسنتهم هناك، وربما سمعوه أو شاهدوه في بعض الليالي عبر هذه الأجهزة لأسرار اتصالات قلبيات روحيات وجدَت فيها في هذا الزمن سبيلاً للحسيَّات، وصارت تلك المواصلات، نحن اليوم في مجمع مبارك في هذه البلدة وكم من مُبعد، والله يقرِّب البعيد، لكن كم مِن بعيد مِن حيث المسافة اليوم قلوبُهم حاضرة مع الله من خلال المتنزّل هنا، من خلال المتفضَّل به على الجمعِ وأهله، كم مِن قلب حاضر مع الله في الشرق والغرب، وكلهم في وجهة إلى واحد أحد، إلى فرد صمد، وكلهم تبِين لهم الحقيقة إن شاء الله تعالى، فلا يغرُّهم الخداع ولا الكذاب ولا أعوانُه من النفوس الأمارة والأهوية، ويكون هواهم تبعاً للإمام، خير الأنام الذي قال "لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعاً لما جئتُ به".
وهذا إلهكم جل جلاله وتعالى في علاه الذي ذكر لكم الحقائق وأنه المُسيِّر لهذه الكائنات فآمنوا به واصدقوا واصبروا (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ) لا يزعزعكم شيءٌ من كلامهم ولا ما يجري من وعدهم أو وعيدهم، فإن القول الحق للحق، والوعد الحق للحق، والوعيد الحق للحق، (قَوْله الْحَقّ وَلَهُ الْمُلْك يَوْم يَنْفُخ فِي الصُّور) فمن من ملكوت الأرض يكون له مُلك يوم يُنفخ في الصور؟ في ذاك اليوم هذا مَلِكنا جل جلاله يقول لمن المُلك اليوم؟ لا متقدمين ولا متأخرين، يقول لله الواحد الواحد القهار الذي قهر عباده بالموت جل جلاله، فمن يفوز في ذاك اليوم؟ من اتصل بالحق ورسوله (وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ) (يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَعَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الأَرْضُ وَلا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثًا) فالله يحشرنا في زمرة النبي، الله يكرمنا بمرافقة هذا النبي.
يا رب هذه القلوب اجتمعت تطلب منك أن ترافقَ حبيبَك فهيِّئ لها السبيل إلى ذلك، اسلُك بنا وإياهم أشرف المسالك يا رب، ومن يستمع، يا رب وأهل القلوب الحضارة أجمع، يا رب وأهل المودة فيك والمحبة فيك مِن كل مخلص أقرَّ بكلمة التوحيد واتبع حبيبك الحميد، يا الله يا الله.
فيا رب ثبتنا على الحق والهدى ** ويا رب اقبضنا على خير ملة
وعم أصولاً والفروع برحمة ** وأهلاً وأصحاباً وكل قرابة
وسائر أهل الدين من كل مسلم ** أقام لك التوحيد من غير ريبة
وصلِّ وسلم دائم الدهر سرمداً** على خير مبعوث إلى خير أمة
محمد المخصوص منك بفضلك ** العظيم وإنزال الكتاب وحكمة
واجعلنا في خيار هذه الأمة التي هي خير الأمم يا ذا الجود والكرم
اللهم صلّ وسلم وبارك على سيدنا محمد، واجعل في قلوبنا إصغاءً لما أوحيت إليه، أنت الذي خلقت، أنت الذي تُحيي، أنت الذي تُميت، أنت ربُّ الشعرى، أنت تُضحك، أنت تُبكي، أنت أهلكت عاداً وثمودا الأولى فما أبقيت منهم من باقية، وقوم نوح أغرقتهم جميعاً إلا من ركب في السفينة، فاجعلنا في سفينة حبيبك محمد يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين، يا مَن إليه المنتهى يا الله (أَفَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى * وَأَعْطَى قَلِيلا وَأَكْدَى) مُغترَّاً بأي شيء في هذه الحياة (أَعِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرَى * أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى * وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى * أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى * وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى * وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى * ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى) هذه خلاصةُ الحياة وما بعدها إلى الأبد (وَأَنَّ إِلَى رَبِّكَ الْمُنتَهَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا) يقول شؤونكم هذه أنا أُسيِّرها لا أحد يضحك عليكم، الملك فوق ملكه، والقيوم فوق مملكته (وَأَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَأَبْكَى * وَأَنَّهُ هُوَ أَمَاتَ وَأَحْيَا * وَأَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى * مِنْ نُطْفَةٍ إِذَا تُمْنَى * وَأَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرَى) ويردكم مرة أخرى (وَأَنَّهُ أَهْلَكَ عَادًا الْأُولَى * وَثَمُودَ فَمَا أَبْقَى * وَقَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كَانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَأَطْغَى * وَالْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوَى * فَغَشَّاهَا مَا غَشَّى * فَبِأَيِّ آلَاءِ رَبِّكَ تَتَمَارَى* أَزِفَتِ الْآزِفَةُ * لَيْسَ لَهَا مِن دُونِ اللَّهِ كَاشِفَةٌ).
اللهم اكشف عنا جميعَ البلاء، وانظر إلى يَمنِنا وشامنا وشرقنا وغربنا نظرةً تأذن بها بِدفعِ البلايا وكشفِ الرزايا وصلاح الظواهر والخفايا يا الله، قلوب تقودُها الأطماع والدنيا ويقودها الكفار بك وبرسولك خلِّصهم من ذلك، فإنهم يقولون لا إله إلا الله فحقِّقها في قلوبهم يا الله، وأنقذهم الله من مخالفاتها، وثبِّت أهل لا إله إلا لله جميعاً على لا إله إلا الله، واعمُر بها قلوباً لم تكن بها معمورة من قبل ساعتنا هذه وأحِلَّ نورَها فيها حتى يشهد أن لا إله إلا أنت الكثرةُ الكاثرة من عبادك في مشارق الأرض ومغاربها يا الله، وكلٌّ منا وممن يسمعنا ثبِّته ثباتاً تاماً عليها في جميع أحواله وشؤونه وأقواله وأفعاله ومقاصده ونياته وحركاته وسكناته حتى تتوفاه عليها بها موقناً وبحقائقها متحقِّقاً، فإذا جاءت ساعةُ حشرِه أذنتَ له أن يرى وجهَ سيدَ مَن قالها وإمام مَن آمن بها ويرافقه على الحوض المورود، وعند المرور على الصراط وفي جنات الخلود يا بر يا ودود يا الله يا الله.
قُلها وأنت سعيد، يا الله، قُلها وألقِ السمع وأنت شهيد، يا الله، المرجُو أنت، المُراد أنت، المقصودُ أنت
والله لولا الله ما اهتدينا ** ولا تصدقنا ولا صلينا
فأنزلن سكينة علينا ** وثبِّت الأقدام إن لاقينا
إن الأولى قد بغوا علينا** وإن أرادوا فتنة أبينا
فاجعلنا هداة مهتدين غير ضالين ولا مضلين، نحبُّ بحبك الناس ونعادي بعداوتك مَن خالفك مِن خلقك، اللهم هذا الدعاء ومنك الإجابة، وهذا الجهد وعليك التكلان يا أرحم الراحمين، يا الله.
نسألك الأمن يوم الوعيد، والجنة يوم الخلود، مع المقربين الشهود، والركع السجود، الموفين لك بالعهود، إنك رحيم ودود، وأنت تفعل ما تريد، يا الله يا فعالاً لما يريد ألحِقنا بخيارِ العبيد، واجعلنا من أهل حقيقة التوحيد، وهب لنا العطاء والمزيد، يا مبدئ يا معيد، يا فعالاً لما يريد، ثبِّتنا على ما تحب، واختم لنا بأكمل الحسنى وأنت راض عنا.
والحمد لله رب العالمين.
للاستماع إلى هذه المحاضرة