07-2018
19

خطبة مكتوبة بعنوان: ميزان استعمال الإرادة والحرية وخطر الهوى في مسار وحال البشرية

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن حفيظ في جامع الروضة بمدينة تريم، وادي حضرموت، 29 شوال 1439هـ بعنوان: ميزان استعمال الإرادة والحرية وخطر الهوى في مسار وحال البشرية

الخطبة الأولى

         السلامُ عليكم ورحمة الله وبركاتُه..

        الحمدُ للهُ ربِّ السماواتِ والأرضين ومَن فيهما وما بينهما عالمِ السرِّ والنجوى. وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَهُ لا شريكَ لَهُ، يُكْرِمُ ويَرْفَعُ درجاتِ أهلِ التقوى، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعينِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، سَيِّدِ أهلِ الاستقامةِ على المنهجِ الأقومِ الأقوى، فهو القدوةُ التي تُخَلِّصُ مَن اتَّبَعَهَا مِن الآفَاتِ والرَّدَى وسُوءِ الشرِّ والهَوى. اللهمَّ أدِم صلواتِكَ على عبدِكَ المُجتَبى المصطفى محمدٍ الذي دَنَا فَتَدَلَّى فكانَ قابَ قوسَينِ أو أدنى، فأوحيتَ إليه ما أوحيتَ، وقلتَ في تعظيمِ شأنِ ما يُخْبِرُ عنك: (وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ).

          اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المُصطفى الهادي إليك سيدِنا محمد، القائلِ: {لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعاً لما جئتُ به}، وصَلِّ معَه على آلِهِ الأطهارِ وصحبِهِ، ومَن سَارَ في سبيلِهِ ودربِهِ، وعلى آبائهِ وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبِهم أجمعين، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتكَ يا أرحمَ الراحمين.

        أما بعد .. عبادك الله: فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله. تقوى اللهِ التي لا يَقْبَلُ غيرها، ولا يَرْحَمُ إلا أهلَها، ولا يُثِيبُ إلا علَيها.

         أيها المؤمنونَ بالله: تقوى اللهِ تَنْزَعُ مِن النُّفوسِ والقلوبِ والضمائرِ آفةَ الهوى المُرْدِيَة وشرورَ النفسِ المُطْغِيَة. إنَّ تقوى الرحمنِ جل جلاله ذخيرةُ المُؤمنِ في الخُروجِ مِن أنواعِ الطُّغيان، بتَسييرِ ما أُوتِيَ مِن الاختيارِ في الطاعةِ، والبُعْدِ به عن الطغيان. وكُلُّ مَن استعملَ ما آتاهُ رَبُّهُ مِن اختيارٍ فيما يَضُرُّهُ في دينِهِ وآخرتِهِ فقد طَغَى.

        أيها المؤمنون: يعيشُ الناسُ على ظهرِ الأرضِ مُختَبرُونَ بما أوتوا مِن اختياراتٍ وقُدُرَاتٍ ومَهَاراتٍ وإراداتٍ، ويَصْرِفُ أكثرُ الناس على ظهرِ الأرضِ إراداتِهِم واختياراتِهِم لأجلِ شَهواتِهِم وأهوائهِم، وينتجُ عن ذلك أنواعٌ مِن الضلالِ والزيغِ والرَّدى، والأتعابِ والإشكالاتِ والخصوماتِ والمقاتلَاتِ والإضراراتِ المتنوعة. ثم إنَّ منهم مَن يُتَنَبَّهُ لأنه يجبُ أن يكونَ في مواقفَ قَاهِرَاً للهوى ومتغَلِّبَاً على النَّفس وشهواتِها، ليُوصَفَ "بالنِظَامِيِّ أو التَقَدُمِيِّ".. أو إلى غير ذلك مِن الأوصاف، فيقِفُ أمامَ قوانينَ أو أنظمةٍ لشركاتٍ يَنتمِي إليها، أو لدولٍ يَحِلُّ فيها ليتجنَّبَ المحاكمةَ وأن يُوصَفَ بالخروجِ عن النظامِ أو التَخَلُّفِ أو إلى ما إلى ذلك. وكثيرٌ منهم يَطغى عليه سوءُ استعمالِ الاختيار، فلا يقفُ عند حدِّ نظامٍ ولا قانونٍ، وتتكونُ منهم عُصَابَاتٌ على ظهرِ الأرضِ يتحدَّون أنواعَ الأنظمة والقوانين، ويُطارَدُون مِن قِبَلِ بعض السُّلُطَات هنا أو هناك. وما أكثرَ هؤلاءِ في البلادِ الموصوفةِ بالتقدُّمِ والحرية، مِن بلادِ أهلِ الكفرِ التي يحكمُها الكفار.

أيها المؤمنون بالله: لِنَعْلَمَ خزائنَ الكنوزِ الثمينةِ في شهادة: أن لا إلهَ إلا الله وأن محمداً رسول الله، وأنَّها الرُّقِيُّ التَّامُّ الكاملُ لهذا الإنسانِ في السرِّ والإعلانِ، يُهَيِّئُهُ في الأرضِ لإقامةِ الخلافةِ عن ربِّ السماءِ والأرضِ، ويُؤهِّلِهُ ويُهَيِّئهُ للنجاحِ والفوزِ والنجاةِ في يوم السؤالِ والعرضِ. رُقِيٌّ لا يتأتَّى إلا بالإيمانِ بالله وبرسولِه، وعُلُوٌّ لا يُدرَكُ إلا بالخُضوعِ لأوامرِ الحقِّ الذي خَلَق.

أيها المؤمنون بالله: مفهوم الحريةُ المَلعوبُ به على ظهرِ الأرض المُتَقَّوَلُ فيه بمختلفِ الأقاويلِ وصلَ عند بعضِ الناسِ إلى الطغيانِ الذي ذَكَرْنَا، فلم يكن لهم دينٌ ولا إيمانٌ بإلهٍ يَضبطُ حركتَهُم في الحياة، ولم يَخضعوا لقوانينَ وضعيَّةٍ وضَعَها الناسُ على بعضِهم البعض، يدَّعون بها قيامَ النظامِ للحدِّ مِن الاعتداءاتِ أو الشرورِ أو تسيِيب المصالح على بعضِهم البَعض. وإننا لنعجبُ مِن أقوامٍ يدَّعون الثقافةَ والتقدُّمَ ثم يُدركون أنَّ الإنسانَ محتاجٌ أن يُخالِفَ شهوتَه ويخرجَ عن هواهُ في مواقفَ كثيرةٍ، لأجلِ رغبةٍ في مكانَةٍ، أو وظيفةٍ، أو ارتباطٍ بأشخاصٍ، أو تَمجيدٍ لدولةٍ.. إلى غير ذلك، ويجهلونَ تماماً عظيمَ الشرفِ والعزَّةِ في قَهرِ الهوى مِن أجلِ الذي خلق!! وفي مخالفةِ النفسِ من أجلِ الذي أبدعَ البدائع، وكوَّنَ الأكوانَ وإليه المرجع والنهاية!! واللهِ إنَّ ذلك لهو الشرفُ الأكمل، والعِزُّ الأعظمُ الأمثلُ، أن تتركَ أيّها المخلوق هواكَ وشهواتِكَ مِن أجلِ خالقِكَ الذي ستؤُول إليه.

 إنهم لا يُدْرِكُونَ هذا، يُدركون أن يَتَخلَّوا عن كثيرٍ مِن مُراداتِهم وأهوائهم مِن أجلِ أن يَنْجحَ في لُعبة من اللُّعَب!  مِن أجلِ أن يتوظَّف في وزارة! مِن أجل أن يتوظَّفَ في شركة! تماماً يَعِي هذا ويترك كثيراً مِن مُراداتِ نفسِهِ، حتى يُقلِّل منامَه، حتى يبذلَ مالَه، حتى يعمل ما يعمل، لكن ما دام في مثل هذه الأغراض: اتصالٌ بالشركات أو وظيفةٌ في الوزارات، أو لأجل علاقةٍ حميمةٍ بذا وذاك أو من أجلِ لعِب، فهو ثقافة وأمر مُسَلَّمٌ به.  فإذا جاؤوا إلى أوامرِ الخالقِ ونواهِيه قالوا لا تكبِتُوا الناس! ولا تُضَيِّقُوا حرياتِهم! ودعُوهم في الحرية؛ ما يعرفون الحرية إلا تطاولٌ على نظامِ الصانعِ الموجدِ البارىءِ جل جلاله وتعالى في علاه !! وتنتهي حُريَّاتُهم أمامَ الأغراض الخسيسةِ والحقيرةِ والزائلةِ والزائفةِ والفانيةِ، ثم يأتون لِمَا هو أعظمُ وأجلّ ويقولون الناسُ على حرياتهم.!

فبئس هذا المفهومُ الأخبلُ الأعوجُ الأهبلُ الذي لا مكانةَ له في عقلٍ ولا منطقٍ ولا إنسانيةٍ ولا ديانةٍ؛ إنَّ الحُرَّ مَن أحسنَ الاختيارَ في ما أُعطِي مِن إرادةٍ، وفيما أُعطي مِن قوةٍ، وفيما أُعطيَ مِن مشيئةٍ فيُسخِّرها لأعلى شيءٍ وهو ربُّه، وحينئذٍ تنتظمُ له المصالحُ الظاهرةُ والباطنةُ في الدنيا والآخرة.

أيها المؤمنون بالله جل جلاله وتعالى في علاه: أوحى اللهُ إلى النبيِّ داؤد: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَىٰ فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ ۚ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ)، والحق يقول: ( أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ وَأَضَلَّهُ اللَّهُ عَلَىٰ عِلْمٍ وَخَتَمَ عَلَىٰ سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَىٰ بَصَرِهِ غِشَاوَةً فَمَن يَهْدِيهِ مِن بَعْدِ اللَّهِ ۚ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ).

أيها المؤمنون بالله: لأجلِ هذا الفقهِ العظيمِ والإدراكِ الفَخيمِ لنعمةِ الإسلامِ والتوحيدِ والإيمانِ باللهِ ورسولِهِ صلَّى الله عليه وعلى آلهِ وصحبِهِ وسلَّم، جاءت هذه التعليمات الإلهيّات والنبويّات في ارتفاعِ الإنسانِ عن الهوى الذي يُرْدِيِهِ (فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ).

أيها المؤمنون: يقولُ صاحبُ الرسالة: {لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعاً لما جئتُ به}.

أيها المؤمنون: يقول النبيُّ المصطفى صاحب الرسالة { لا يؤمنُ أحدُكم حتى أكونَ أحبَّ إليه مِن والدِه وولدِه والناسِ أجمعين}، وقال تعالى: (وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِّلَّهِ).

أيها المؤمنون: في التَّخَلُّفِ عن إدراكِ هذه الحقيقةِ رَكِبَ طوائفُ مِن المسلمينَ أَمْتَانَ الهوى، فأَرْدَتْهُم وأوقعَتهم في شرورٍ في كيفيةِ قضاءِ الوقتِ، وفي اختيارِ ما يعلمُون ويتعلَّمون. ومَن هُدوا حَفِظُوا أوقاتَهم، ورَتَّبوا أخذَ المعلوماتِ بما هو أنفعُ، ولم يُقدِّموا شيئا على عِلْمِ ما أوجبَ الله ليعملُوه، وما حرَّمَ لينزجُروا عنه ويتركُوه، وما سَنَّ وندَبَ ليرغبُوا فيه، وما كَرِهَ وجعلَ مِن الشُّبهات فيحذرُوا منه، وما أباحَ فينطلقُوا فيه استعمالاً للعقلِ والحريةِ والاختيارِ في مكانِها، وعلى ميزانِها الذي يكونُ صحيحاً مَلِيحَاً يُنْتِجُ المَلِيحَ مِن النتائجِ، في الواقع النَّفْسِيِ، وواقع الأُسَرِ وواقع المجتمعات، وواقعِ البشرية والإنسانيةِ.

أيها المؤمنون بالله تبارك وتعالى: مِن إضاعةِ هذا الميزانِ استرسَلَ الناسُ وراءَ المنظوراتِ غيرِ الطيبة، والمسموعاتِ غير الطيبة، وأَحْدَثَت خَلَلًا كبيراً في إيمانِهم فضلاً عن مسالِكِهِم وصلاحِ أعمالِهم وأقوالِهم.

أيها المؤمنون بالله: يجبُ أن ندركَ هذه الحقيقة، وأن نستمسكَ بعُروةٍ وثيقةٍ، نكون فيها مُتَحَقِّقينَ بحقائقِ الإيمانِ بالله الذي خلَق، ونضبط حركاتِنا في الحياة وأقوالَنا وأفعالَنا بميزانِ الشرعِ المَصُون، والهدي للأمينِ المأمون وما أوحى الله إليه، وبذلك تُنصبُ سلالِمُ الارتقاء إلى التَّحقُّقِ بالتُّقى والإكرام الدائمِ الأبقى (إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ). اللهم ثبِّت قلوبَنا وأقدامَنا على ما تحبُّ منَّا، وتولَّنا بما أنتَ أهلُه في الحسِّ والمعنى، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

        والله يقول وقولُه الحقُّ المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم: (أَأَنتُمْ أَشَدُّ خَلْقًا أَمِ السَّمَاءُ ۚ بَنَاهَا * رَفَعَ سَمْكَهَا فَسَوَّاهَا * وَأَغْطَشَ لَيْلَهَا وَأَخْرَجَ ضُحَاهَا * وَالْأَرْضَ بَعْدَ ذَٰلِكَ دَحَاهَا * أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءَهَا وَمَرْعَاهَا * وَالْجِبَالَ أَرْسَاهَا * مَتَاعًا لَّكُمْ وَلِأَنْعَامِكُمْ * فَإِذَا جَاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرَىٰ * يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنسَانُ مَا سَعَىٰ * وَبُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَن يَرَىٰ *فَأَمَّا مَن طَغَىٰ * وَآثَرَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ * يَسْأَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْسَاهَا * فِيمَ أَنتَ مِن ذِكْرَاهَا * إِلَىٰ رَبِّكَ مُنتَهَاهَا * إِنَّمَا أَنتَ مُنذِرُ مَن يَخْشَاهَا * كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَهَا لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحَاهَا)

بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيِه وعذابِه الأليم.

           أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفرُوه إنه هو الغَفورُ الرَّحيم.

 الخطبة الثانية

        الحمد لله مُكوِّنِ الأكوانِ، حمداً نَتَحَقَّقُ به بحقائقِ الإيمان، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له عالمُ السرِّ والإعلان، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا ونورَ قلوبَنا محمداً عبدُه ورسولُه، مَن خُصَّ بالفُرقانِ وأعلى البيان. اللهم صَلِّ وسلِّم على عبدِك الذي جعلتَه سيدَ الأكوان، محمد بن عبد الله وعلى آله المطهَّرين عن الأدران، وأصحابِه الغُرِّ الأعيان ومَن تبعَهم بإحسان، وأنبيائك ورُسلِك وآلهم وصحبِهم والملائكةِ المقربين، وعبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

         أما بعد .. عباد الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله، فاتَّقُوا اللهَ وأحسِنُوا يرحمْكُم الله ( إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

قال نبيُّنا المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: { افعلوا الخيرَ دهرَكم، وتعرَّضُوا لنفحاتٍ من رحمته يُعطيها مَن يشاء مِن عباده، وأسألوا اللهَ أن يسترَ عوراتِكم وأن يُؤمِّن روعاتِكم}.

أيها المؤمنون بالله تعالى في علاه: مظاهرُ قضاءِ أيامِ الإجازاتِ، وما يُفعل في المناسباتِ -وخصوصا الزواجاتِ-  يُبَيِّنُ الحقيقةَ فيمن كان هواهُ تبعاً للهُدى، وفي مَن هوَى به الهوى إلى الرَّدى. ما يَحْصُلُ مِن كيفيةِ القضاءِ للأوقاتِ، وما يَحْصُلُ في الزواجات ثم في بقيةِ مظاهرِ الحياةِ، مُبَيِّنٌ وموضِّحٌ لحالِ الناس في وعيِهم، في مستوى إدراكهِم، في رُتبةِ دينِهِم، في حقيقةِ إيمانِهِم.

 أيها المؤمنون بالله جل جلاله: ما يُعبَّرُ به عنِ الفرحِ مِن أغانٍ ماجنةٍ، أو اختلاطِ رجالٍ بنساء، أو ظهورِ أصواتِ النساءِ بالسمَّاعاتِ إلى الشوارعِ، ضَرْبٌ مِن سُوءِ الاختيارِ، وسوءِ استعمالِ الإرادةِ، وما آتانا اللهُ تعالى مِن حريةٍ وقوةٍ ومشيئةٍ.. سوءُ استعمال لها يُفضِي إلى مصائب. كما عَلِمْتُم مِن شأن الذين أرادُوا التعبيرَ عن الأفراحِ باستِعمالِ ضَربِ الرَّصاص وما ترتَّبَ على ذلك..! وفيه إتلافٌ للمالِ، وهو أمرٌ مخالفٌ للدينِ والشريعةِ والسنةِ والهدي النبوي، وفيه ترويعٌ، و: {مَن رَوَّعَ مسلم لم يؤمنِ اللهُ روعتَه يومَ القيامة}، وفيه خُرُوجٌ عن هذه الآدابِ.

 وأنتم اليوم أمامَ استقبالِ نبأ وفاةِ شابَّةٍ في أولِ عُمرِها أتَتها رصاصةٌ لا يُدرى مِن أين؟! ودخَلت في رأسِها، وحُمِلَت مِن الداخلِ – أي وادي حضرموت- إلى السَّاحِلِ حتى وافَتها المنيةُ مِن أثر ذلك. صاحِبُ هذه الرَّصَاصَة روَّعَ أطفالاً، وروَّع شباباً، ورَوَّعَ أُسَرَاً، فمَن يُؤمِّن روعتَهُ يوم القيامة ؟! ما استفادَ مِن رصاصتِه هذه ؟! ما كسبَ مِن رصاصتِه هذه ؟! ما حصَّل مِن رصاصتِه هذه ؟! عَرَّضَ نفسه لأن يمتلىء بالخوفِ والفزعِ يومَ الفزعِ الأكبرِ، ولن يُغنِيَه أحدٌ { من روَّعَ مسلما لم يؤمِّن الله روعتَه يومَ القيامة} .

           فوجبَ على العقلاء أن يُدركوا واجبَ مهمَّاتِهم في الحياةِ ليَضبِطُوا الحركات، ويضبطُوا التعبيرات عن الفرح. لا تعبيرَ عن الفرحِ بكلامٍ ماجِن، لا تعبيرَ عن الفرحِ بهَدرِ ضَرْبِ الرَّصاص على غيرِ بيِّنةٍ وعلى غيرِ نيَّةٍ صالحةٍ، وعلى غير سنةٍ، ولا على غير سبيلِ هدى، لا تعبيرَ على الفرحِ بما يُروِّعُ القلوب ولا بما يُخوِّفُ الآمنِين. إنه العَبَث الذي أدّاهم لأن يُوجِّهُوا بعد ذلك الرَّصاصَ لرؤوسِ بعضِهمُ البعض على الباطل، وعلى الكذبِ وعلى التطاول على الفانيات. إنَّ العبثَ إذا انفتح بابُه توسَّع خَرْقُهُ فلم يُرْقَع بعد ذلك.

أيها المؤمنون: يجبُ أن تُضْبَط، ويجبُ على ذي السلطة وعلى ذي النفوذِ -مِن عَاقِلِ حارةٍ أو شيخِ قبيلةٍ وغيره- أن يُحْسِنُوا النظرَ في أمثالِ هذه العادات، وأن يُقوِّمُوهَا لأجلِ المحافظةِ على أمانةِ: حمايةِ الأعراضِ، حماية الأبدانِ، حماية الأديانِ، حماية الأرواحِ والأنفسِ { لَزَوَالُ الدنيا بأسرِها أهونُ على اللهِ مِن سفكِ دم رجلٍ مسلم بغيرِ حق}.

أيها المؤمنون بالله: يجبُ أن نعرفَ حقيقةَ إيمانِنا بِضَبطِ أهوائنا، وتسليمِنا لأمرِ خالقِنا، وأن نعتزَّ بذلك أمامَ مُدّعِي النظامِ في الشرقِ والغرب، واللاعبين بمعنى الحريةِ في غيرِ وجهِها، فلنعتزَّ ولنفتخِر عليهم أنَّ حرياتِنا كفٌّ عن الأضرار، وعن الشرِّ والأشرار، واتباع الأشرار، وأنَّ حريَّتَنا اختيارٌ لمِنهاجِ فاطرٍ خلقَ (أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ)، (وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ).

اُخْرُجوا مِن الجمعةِ بقُلوبٍ اجتمعَت على الصِّدقِ مع الله، وسيِّرُوا اختياراتِكُم في أطعمَتِكم وأشربَتِكم، وألبِسَتِكم وعاداتِكم، وأًسَرِكُم ومجتمعِكم. سَيِّرُوها بنُورِ الشريعة ترتقُوا المراتبَ الرَّفيعَة، سَيِّرُوها بنظامِ إلهٍ خلَق، ترتقوا مع مَن ارتقى مِن أهل الحق، سَيِّرُوها بهديِ مصطفىً اختاره الله مِن بين البرية، وعَدَ مَن اتَّبعه أن يُحِبَّهُ ربُّ العرش ويغفرَ له كلَّ خطيَّة. سَيِّروا اختياراتِكم بهذا النور والمستوى العالي مِن الإدراكِ والوعي. واحذروا اتباعَ الهوى المُردِي والانسياقَ والاسترسالَ وراءَ العاداتِ السيِّئةِ الدَّخيلةِ التي تدخلُ على المجتمعاتِ وعلى المُدَنِ وعلى مواطنِ العلم مِن هنا ومن هناك، ولا خيرَ فيها والله.. لا خيرَ فيها والله. حافِظُوا على العاداتِ الطيِّبة الصالحةِ، الشاهدِ بخيريَّتِها وحيُ الله وسنَّةُ محمدِ بنِ عبد الله. وأبعِدُوا عما تستَحسنُه النُّفوسُ ولا يُحِبُّهُ القدُّوس، وأسِّسُوا الأمرَ على بصيرة، وسِيرُوا  في خيرِ سِيرَة.

اللهم ارزُقنا الاستقامة، وأتحِفنا بالكرامة، وأعِذنا مِن مُوجباتِ الندامة في الدنيا والبرزخ ويومِ القيامة، برحمتِك يا أرحم الراحمين.

وارحمِ المُتوفَّاةَ وارفع درجتَها عندكَ في الدَّرجاتِ العُلى، واخلُفها في أهلِها وأهلِ بلدِها والأمة بخيرِ خلف. وأحيِ قلوبَ المؤمنين وأيقِظ ضمائرَهُم لِتُحْسِنَ الاتباع والاقتداء والاهتداء بنبي الهدى، وتِكُفَّ عن الهوى والزيغِ وموجباتِ الضياعِ والرَّدى يا أرحم الراحمين.

وأكثِرُوا الصلاةَ والسلامَ على الهادي الإمام خيرِ الأنامِ، فإنَّ أولاكم بهِ يوم القيامة أكثرُكم عليه صلاةً وسلاما، وإنَّ مَن صلَّى عليه واحدةً صلَّى الله عليه بها عشراً. وتأمَّلوا قولَ إلههِ العليَّ الكبيرِ مُخْبِرَاً وآمِرَاً تكريماً وتعظيماً وتفخيماً: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

اللهم صلِّ وسلِّم على المصطفى المختارِ نورِ الأنوارِ عبدِكَ المجتبى محمد، وعلى الخليفةِ من بعدهِ المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤازِرِ رسولِ الله في حالَيِ السَّعةِ والضيق، خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكرٍ الصديق.

 وعلى النَّاطِقِ بالصواب، حليفِ المحراب، الوقَّافِ عند تلاوةِ آياتِ الكتاب، ناشرِ العدلِ في الآفاقِ، أمير المؤمنين سيدِنا عمرِ بن الخطاب. وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَنِ استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عثمان بن عفَّان. وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ عِلمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب، أمير المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب.

وعلى الحَسَنِ والحُسِينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنة في الجنة، وريحانتي نبيِّك بنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهما الحوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرِّضى وأمهاتِ المؤمنين، وعلى الحمزةِ والعباس، وسائرِ أهل بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهل بيعةِ العقبة وأهلِ بدرٍ وأهلِ أُحُدٍ وأهلِ بيعةِ الرضوان، وعلى سائرِ الصحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم  بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين. اللهم هيِّئ للمؤمنينَ سبيلاً رشدًا يَعِزُّ فيه وليُّك، ويذلُّ فيه عدوُك، ويؤمَرُ فيه بالمعروف وُينهَى فيه عن المنكر. اللهم اجعَلنا ممَّن يسارعُ في الخيرات، واجعلنا اللهم ممَّن سَلِمَ مِن الطغيان وسَلِمَ مِن استعمالِ مُرَادَاتِهِ واختياراتِهِ فيما لا يرضيك. اللهم ارفَع ظلماتِ الهوى عن النفوس، اللهم زَكِّهَا بأنوارِ الشرع يا قُدُّوس، اللهم أحيِ ما مات ورُدَّ مِن الخيراتِ ما فاتَ مِن الأمر بالمعروفِ والنَّهيِ عن المنكر والتَّواصي بالحق والتَّواصي بالصبر.

احقِن دماءَ المسلمين، واعصِم أعراضَهم، واعصِمِ اللهمَّ أموالَهم، واحفظهم مِن الزَّيغِ والضلالِ والآفاتِ وتسلُّطِ أعدائك عليهم. اللهم اجمع شملَهم بعد الشتات وألِّف ذات بينهم، وأصلِح شؤونَهم بما أصلحتَ به شؤونَ الصالحين يا مصلِحَ الصالحين، يا أولَ الأولينَ ويا آخرَ الآخرِينَ، ويا ذا القوة المتين ويا راحم المساكينَ ويا أرحمَ الراحمينَ. أنجز لنا رحمةً مِن عندِك تملأ بها القلوبَ إيمانا، وتدفعُ بها عنَّا أدرانا، وترزقنا بها عِزَّاً وإيقانا، وشرفَ اتباعٍ لمن بعثتَه صلى الله عليه وسلم بالهدى تحقيقا وتِبْيَانَا.

 اللهم فرِّج كروبَ الأمة، واكشفِ الغمة، وعامِل بمحضِ الجُود والرحمة. وبارِك في أيامنِا وليالينِا، وتولَّنا في ظاهرِنا وخافِينا. واختِم لنا بأكملِ الحسنى. واغفِر لآبائنا وأمهاتِنا، وأجدادِنا وجداتِنا والمؤمنين والمؤمنات بمغفرتِك الواسعة يا وسيعَ المغفرات، واختِم لنا بأكملِ الحسنى وأنتَ راضٍ عنا، واجعل آخرَ كلامِ كلِّ واحدٍ منا مِن حياتِه الدنيا " لا إلهَ إلا الله" متحقِّقاً بحقائقِها في الحسِّ والمعنى يا ربّ العالمين.

(رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ)

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ).

         عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث: ( إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

        فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكم، واشكرُوه على نعمهِ يزِدْكم.. ولذكرُ الله أكبر.

للاستماعِ للخطبة: