محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ للداعيات ضمن فعاليات ملتقى الدعاة الثاني عشر بدار المصطفى بتريم للدراسات الإسلامية، عصر الثلاثاء 1 محرم 1440هـ بعنوان: صفات الداعية الناجحة.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ الذي اقتضَت إرادتُه الأزليةُ باختيارِكنَّ لفَهمٍ عنه فيما أوحاه، ولانتباهٍ فيما بَعَثَ به خاتِمَ أنبياه، ولانتظامٍ في سِلْكِ التَّلبية لنِدَاه، والعملِ بمقتَضى الإيمانِ بهذا الإلهِ ورسولِه ومصطفاه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم؛ في شُموليةٍ تَشْمُلُ حالَ المؤمنةِ في نفسِها ومع ربِّها ومع ما حواليها، وترتقِي لحملِ أمانةِ البلاغِ والأداءِ والدعوةِ والتنبيهِ والتوجيهِ والإرشادِ، عبوديةً للرَّب وتَسَبُّبَاً وتَوَسُّلَاً في استِنزالِ الرحمةِ، وفي استقامةِ الأقدامِ والقلوبِ على ما يُحِبُّ سبحانه استرضاءً له، واستنزالاً لطيِّبِ أقضيتِه وأقدارِه، واستِدفاعاً للمَصائب والنوائبِ النازلةِ بالأمَّة ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ).
فإذا وُجد المصلحونَ فيها فإن مَن شَذَّ بعد ذلك وآثرَ أن يعملَ بالسُّوء وقد قام المجتَمعُ بواجبِه نحوَه مِن تعليمٍ وتبيينٍ وتوجيهٍ وإرشادٍ ومَنعِ مَن يُستطاعُ منعُه مِن كلِّ مَن استطاعَ منعَه عن أن يتجاهرَ بمعصيةِ الله فحينَئذٍ لا تهلِكُ القُرى ولا يحلُّ عليها العذاب ( وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَىٰ بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ). ولا يكون مُصلحاً إلا مَن صلحَ في نفسِه، ثم اهتمَّ بإصلاحِ الغير، فهؤلاء هم المصلحُون.
الحمد لله الذي وفقكنَّ واختاركنَّ للقيامِ بهذه المهمَّة والوصول إلى هذه الرتبةِ في أخذِ النَّصيبِ مِن وعيِ المقاصد الثلاثة:
1- مقصد العلمِ بالله وآياتِه وأحكامِه وصفاتِه ورسالتِه وشريعتِه.
2- والعمل بمقتضَى ذلك في تبعيَّةٍ لحبيبِه صلى الله عليه وسلم موصلةٍ إليه؛ إلى حبِّه، إلى قُربِه، إلى رضاه، إلى معرفتِه الخاصة.
3- وبلاغٍ عن اللهِ تبارك وتعالى يُسَرُّ به قلبُ حبيبِه ويَعظُم به رضاه، ويَنشرُ به سبحانَه الخيرَ في عبادِه ويدفعُ عنهم أنواعَ الآفاتِ والبليَّات والكُروبات.
وكلُّ مَن تعلَّقت بهذا الدَّرب وجعلَت نفسَها ممتثلةً لأمرِ اللهِ مُقتديةً بنبيِّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فإنها سارَت في مسارِ خصوصيةٍ ومِيزةٍ يجبُ أن تحمدَ الله عليها، لا ينالُها مَن انقطع بإخلاصٍ وصدقٍ مع الله عن هَمِّ القيامِ بأمرِه، ولو توظَّف في أي وظيفة، ولو اُنتخب وهُيىء لأيِّ عملٍ في العالم على الإطلاق. تعلَمن؟ أحضِرن قلوبكن ..
أي عملٍ في العالم وأي انتماءٍ إلى أي هيئة وإلى أيِّ مؤسِّسة .. أهليَّة ورسميَّة وشعبيَّة وحكومية في الشَّرقِ، أو في الغرب .. لن تجدَ شرفاً -وهي منقطعةٌ عن هذا الأمرِ بالإخلاصِ والصدقِ في قبولِ وظيفةِ النبوةِ والرسالة في البلاغ عن الله- لن تجد مثلَ هذا الشرف بأي شيءٍ يُمكنُ أن يوجدَ في العالم مِن كلِّ ما يمكنُ أن يكونَ في الواقعِ بل وفي التَّصوُّر، لا يمكنُ أن تُحَصِّل شرفَ هذا الانتماء إلى وعيِ خطابِ الله والقيامِ بخدمتِه في أرضِه خِلافةً عن اللهِ وتبعيةً لساداتِ الخلفاءِ الحنفاءِ من المقرَّبين والصدِّيقين ومَن فوقَهم مِن النبيَّين والمرسلين إلى رأسِهم وإمامِهم مَن أنزل الله علينا في شأنه: ( قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ ).
الحمد لله على توفيقِه وحضورِكُنَّ هذه المحاضر، ومجيءِ الكثيراتِ مِنكنَّ مِن هنا ومِن هنا. وأنتنَّ جزءٌ مِمَّن اهتمَّ بالأمةِ المحمديةِ بهذه الدعوة، بل جزءٌ مِن خَواصِّهِنَّ اللاتي انتمَينَ إلى السُّنَّة وإلى أخذِ السندِ في القيامِ بأمرِ الدعوةِ إلى اللهِ تعالى عن خلاصةِ أهل السنةِ وأئمَّتِهم ورجالِهم، وأنتنَّ مع بقيةِ هؤلاء الداعيات جزءٌ مِن عموم الداعيات إلى الله تعالى مِن نساءِ هذه الأمة، وأنتنَّ معهنَّ جميعاً جزءٌ مِن جملةِ نساءِ الأمة أجمعين اللاتي بُعِثَ إليهنَّ النبيُّ الأمين صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم.
وكُلُّ جزءٍ مِن هذه الأجزاء يُرجى –إذا قام على وجهِهِ وأدى حقَّه على كمالِهِ- أن ينتشرَ الخيرُ إلى بقيةِ الأجزاءِ في الأمة. فالله يربُط قلوبَكنَّ، ويأخذُ بأيديكُنّ، ويلهمكُنّ رشدَكنَّ، ويقوِّي وجهتَكنَّ ويُخْلِصُهَا لوجهِه ويقبلكنَّ عنده؛ فتعمُّ الخيراتُ بقيةَ أجزاءِ الأمةِ مِن جميعِ نسائها ورجالِها كذلك.
فأحضِرن قلوبَكُنَّ في تأمُّلِ الصِّفاتِ التي تكونُ به هذه الداعية الفَرْدَةُ مِن هذا الجزء الذي أشرنا إليه مِن داعياتِ الأمة مِن أهل السُّنَّةِ، مِن أهلِ الارتباط بالسند .. كيف تنجح؟ وما صفاتُها لتكون ناجحة؟
ومعنى ناجحة : مدركةٌ المقصود من وراء القيامِ بهذا الأمر. المقصود مِن وراء القيام بهذا الأمر: رضاءُ المُسَبِّب سَبَبٌ في نشرِ هدايته في البرية. إقامةِ السبب في نشرِ هدايتِه في البرية. فإنَّ جميعَ شؤونِ الدعوة وسائلُ جعلَها الله لنَشرِ الهدى، لنَشر الخير، لإنقاذِ الناسِ مِن الكفرِ إلى الإسلام، مِن المعصيةِ إلى الطاعة، مِن البِدعة إلى السنة، من الغفلةِ إلى الذكر، مِن الإعراض والإدبار إلى الاقبال، مِن ضعف إيمانٍ إلى قُوَّتِه، مِن التفرُّق إلى الاتحادِ والمحبة والألفة والأخوة، ومِن كُلِّ عملٍ ووصفٍ دنيءٍ إلى كُلِّ عملٍ ووصفٍ شريف سَنيٍّ عليّ. هذه هي الدعوة إلى الله، وهذه معانيها. جميعُ ما يُقامُ به في شأنها وسائل.
فكيف تجتمعُ عواملُ النجاحِ في هذه المرأةِ القائمةِ بالدعوةِ إلى الله تبارك وتعالى؟
مركِزُ ذلك وأساسُه في أولِ صفات هذه الناجحة: إخلاصُ قَلبِها في قَصدِها وَوُجهَتِهَا ونيَّتِها، إخلاصُ قلبها في قصدِها وَوُجهَتِهَا ونيتها، إخلاصُ قلبِها في قصدِها وَوُجهَتِهَا ونيَّتها؛ لوجهِ الله.. أن تعرفَ تقصد مَن، وتريد مَن، وتتوجَّه إلى مَن، تبغِي مرضاة مَن.. مِن خلالِ هذا الاهتمام.. لِمَ هذا الاهتمام ؟ لِمَ هذا التفكُّر؟ لِمَ هذا البَذل؟ فتَتنزَّه في قصدِها عن قصدِ غيرِ الله، وعن إرادةِ غيرِ وجهِ الله جل جلاله. تتخلَّى عن كلِّ الدوافعِ النفسيةِ والشخصيةِ وكلِّ الدوافع المتعلِّقة بتحقيقِ أيِّ غرضٍ فانٍ. وتدخُل في الارتباطِ بقومٍ قالوا عنهم: " ولِغَيْرِ اللهِ مَا قَصَدُوا ".
ولمَّا دعا ربُّ العالمين نبيَّه سيدَ الدعاة أن يجلسَ مع جزءٍ مع فئةٍ من هذه الأمِّة ذكرَ خُصوصيِّتَهم، وأنِّي دعوتُك لتجلسَ معهم لهذه الحيثيَّة فيهم، ما هي؟ هذا الأمر : (وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ)
اغنَمنَ مِن خلالِ لقائكنَّ في هذا المُلتقَى أن تترسَّخَ وتتعمَّقَ وتتمكَّنَ شؤونُ الإخلاصِ لوجهِ الله في قلوبِكنَّ وتُرِدنَ وجهَه، وحينئذٍ أنتنَّ عاملاتٌ لِمَن ؟ وفي وظيفةٍ لمَن ؟ ووجهةٍ لمَن؟ وقصدٍ لمَن؟ الله .. الله.. الله .
فما مقدار مَن تحقَّق بهذا؟ ما شأنُ الواحدةِ منكن؟ ما أحطَّ شؤونَ ما في الدنيا من شُعوبٍ وحكومات ودول إذا صحَّت نسبةُ العملِ لله وإرادة وجه الله .. فما أعظمَ ذلك.
هذه الصفةُ الأولى المُشارُ إليها بقولِ الله: (وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ ۚ وَذَٰلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) وقوله: (أَلَا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ) وقوله : (فَمَنْ كَانَ يَرْجُوا لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلا صَالِحًا وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا).
مع هذا الإخلاصِ لوجهِ اللهِ الكريمِ فالصفة الثانية تأتي: الحرصُ على زيادةِ الإيمانِ به المُوصِل إلى اليقينِ، إلى قوةِ اليقين عِلماً، وعيْناً، وحقَّاً. ويندرجُ في هذا نيلُ القُربِ والمحبة والمعرفة. حرصُ الداعيةِ على أن يزدادَ إيمانُها ويقوَى، فتصير في مراتبِ علمِ اليقين وتتمكَّن، وترتقي إلى مراتبِ عينِ اليقين وتتمكَّن، وتتهيأ لمنازلِ حقِّ اليقين إن أكرمَها الله بذلك وهيَّأها له قبل خُروجِها من هذه الحياةِ الدنيا.
فتعدُّ أنَّ جميعَ ما تجتهدُ فيه وتقومُ به مِن الأعمالِ وسيلةً للوصولِ إلى هذه الدرجات العَوَال، ولكن تُعطي هذا الوصفَ -وهو وصفُ زيادةِ الإيمان واليقين- اهتماماً خاصة وعنايةً مِن قلبِها بواسطة : التدبُّر والتأمُّل، والتفكُّر، والذكر، وقراءة أخبار أهل اليقين، ومجالسة مَن تمكنَّت مِن مجالستِه منهم، وقراءة كُتبِهم وما إلى ذلك. بأساسَيِ الفِكر والذكر.
ورأس الفكر: الفكرُ في عظمةِ الله والمَصيرِ إليه وعظمةِ أنبيائه.
ورأس الذكر: القرآن؛ تدبُّر القرآن الكريم.
هي بحِرصها على زيادةِ إيمانِها ويقينِها تُبرهنُ عن معنى صِدقِها في القيامِ بهذا الأمر، وتؤكِّدُ شأنَ إخلاصِها لِترتقيَ في الإخلاصِ إلى مَرتبة الصِّدق.
عَلِمْنَا الوصف الأول: إخلاص القصد والنية والوجهة. والصفة الثانية: الحرص على زيادة الإيمان وقُوَّتِه للرُّقِي في مراتب علم اليقين وعين اليقين وحق اليقين.
فتأتي عندنا الصفة الثالثة: أخذُ النَّصيبِ مِن العلمِ النافع، وأن تكونَ على فقهٍ في دينِ الله. وأول ذلك فقهٌ بما هو فرضُ عَين، تكونُ الداعيةُ مُطَّلعةً على ما يجبُ عليها، وما يحرُمُ عليها، وما يدخلُ في دائرةِ السُّنَّة لها أو المكرُوه في أقوالِها وأفعالِها، وما تصادفُه مِن الأعمالِ في اليوم والليلة.
مع هذا العلم بالشريعة تكونُ حريصةً على الاستزادةِ منه، قال الله لسيِّدِ الدعاةِ إليه (وَقُل رَّبِّ زِدْنِي عِلْمًا).
ومع هذا الحرصِ على الزيادة مِن علومِ الشريعة والعلومِ النافعةِ تكونُ على اطِّلاعٍ بما يدورُ في الواقع وما يستجِدُّ مِن الحوادث. فتأتي بعد صفةِ العلم: صفةُ الإدراكِ للواقِع، وإدراك النفسيَّات القائمة، طريقة الفكر القائمة، والمستويات القائمة في الأمة، وخصوصا مع مَن تُزَاولُ معهم الدعوةَ إلى الله.
وهي كلَّما اتسعت علِمَت أن مُهمَّتَها ليس مجردَ بيتِها ولا أسرتِها ولا أهل مدينتِها أو قريتِها؛ هي حاملة هَمّاً يشملُ الأمةَ بحسبِ ما يتسنَّى لها الوصول إليهم من مختلف الأصناف. فعليها أن تكون على درايةٍ بالنفسيات والعقليات؛ طريقة التفكير عند مَن تخاطبُهم ومَن تدعوهُم إلى الله تبارك وتعالى ومَن تُبيِّن لهم الأمر. فهي بمعرفتِها لهذا الواقعِ تستطيعُ أن تُورِد من الكلامِ والأسلوبِ ما يتناسبُ معهم، وسوف تصادفُ أصنافاً متنوعةً ومتفاوتة وبعضها متناقضةً في طريقة التفكيرِ وفي النفسيَّات.
فهي إذاً مع هذا الاطلاع تحتاجُ إلى الوصفِ السادس؛ وهو وصف: الصبر والتحمُّل. فما تقومُ دعوةٌ إلى الله على غيرِ صبر، على غيرِ تحمُّل، على غيرِ توطِينِ النَّفسِ على المشاقِّ وأنواع المجاهدات. فلابدَّ مِن ذلك، قال اللهُ تعالى لسيِّد الدعاة: (فَاصْبِرْ كَمَا صَبَرَ أُولُو الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَلا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ). ولمَّا أوصى لقمانُ الحكيمُ ابنَه بالدعوة إلى الله ذكر له ركيزةَ الصبرِ، قال له : (يَا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلَاةَ وَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَانْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَاصْبِرْ عَلَى مَا أَصَابَكَ إِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ).
إذا علِمنا شأنَ الصبرِ والحلمِ في أمر القيام بالدعوة إلى الله تبارك وتعالى فإنَّ ذلك الصَّبورَ الحليمَ المتعامِلَ في القيام بأمرِ الله تبارك وتعالى بتَحمُّل المَشَاق..
كان الإمام أحمد بن عمر بن سميط يقول لِمن يقومُ بالدعوة إلى الله: ضَع في نفسِك أنَّ الذين ستدعُوهم وتخرج إليهم من أهل القرية وغيرها مِن أهلِ القرى، أنهم سيقولون لا نريد كلامَك ولن نستمعَ إليك، وأنهم سيُناوِئُونَك. ولكن أنت حامل أمانة تبلِّغها بأي كيفية. فإن أنصتُوا واستمعُوا فهي نعمةٌ مِن الله عليك، وإن حصل منهم شيء من المعارضة فقلبُك موطَّن، فلا تنقطع عن الدعوة إلى الله، قلبُك مُوطَّن أنهم يقولون ذلك، وإن قالوا.. فأنا جئت لأبلِّغكم وأؤدِّي واجبِي نحوكم، وإن لم تقبلُوا وإن ما استقبلتم باستقبالٍ حسن، وإن ما التَفتُّم، وإن ما أكرمتُم، وإن ما راعيتُم. فلا أنتظرُ منكم شيئاً، أنا في أداءِ أمانةٍ أنتظرُ مِن ربي أن يقبلَني فيها وأنالَ قُربَه وأنالَ رضاه.
فإذاً شأنُ هذا الصبر الذي وصَّى الله به نبيَّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم يقترن به نصرٌ " واعلم أنَّ النَّصرَ مع الصَّبرِ ". بل لا تصحُّ الإمامةُ في دينِ الله لأحدٍ إلا بالصبر، قال تعالى (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا ۖ وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ). فبالصبرِ والقيامِ بحقِّ العبادةِ يتحقَّقُ الأمر، قال في الآية الأخرى: (وَجَعَلْنَاهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَإِقَامَ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءَ الزَّكَاةِ ۖ وَكَانُوا لَنَا عَابِدِينَ).
مع الانطلاقِ بهذا المعنَى مِن الصبرِ والحلمِ قال سبحانه وتعالى: (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) أتبعَها بقوله: (وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ..) مع الصبر والحلم مقابلةُ السيئةِ بالحسنة (ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ *وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ).
التعامُل بهذا الأسلوب متَّصلٌ بوصفِ انطلاقِ الداعيةِ بالرَّحمةِ، لأنَّ اللهَ أرسل نبيَّه رحمة، وما ندعو الناسَ إلا مِن منطلقِ الرَّحمة؛ فتكون القلوبُ حاملةً للرحمةِ وللشفقَةِ لعبادِ الله تبارك وتعالى. ومَن كان ينطلقُ بالرحمة لا يتحوَّل لأجل أنه قُوبِل بإساءة إلى مَن يتمنَّى الشرَّ للعباد ولا مَن يدعو عليهم! فإن كان مُنطلقاً من الرحمة لا يكون منه ذلك، ولكن يعرف معاني قول: { اللهم اهدِ قومِي فإنَّهم لا يعلمُون}.
الناس دائرة بينهم مِن قِبَلِ النفوسِ والأهواء وشياطينِ الإنسِ والجنِّ أفكارٌ كثيرةٌ وعُقدٌ كثيرة وتصوُّرات كثيرة ؛ والداعية يجبُ أن تكون مستوعبةً ومُحْتَمِلَة وصابرة لتؤديَ واجبَها على حالٍ مَرضيٍّ مع الله وصورةٍ صحيحةٍ شريفةٍ مَقبولةٍ عند الله، وعند رسولِه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم. مع مراعاةِ الحرصِ على الناسِ وهدايتِهم الرعاية الكبرى والمراعاة الأعظم للوُصولِ إلى رضوانِ الله ولتحقيقِ الأمرِ على ما يحبُّه الله؛ هذا هو الأمرُ الأهم، "إن لم يكن بِكَ عليَّ غضبٌ فلا أبالي".
إذا انتبهَتِ الداعيةُ مِن هذه الأوصافِ، فإنه يتعلَّقُ بصفاتِ نجاحِها في الدعوة إلى الله تبارك يأتي هذا الوصف الثامن: أن تُحسِنَ أداءَ الحقوقِ المتعلِّقةِ بها والقريبةِ منها. حقوق الزوج، حقوق الوالدين، حقوق الأولاد، حقوق القَرابة. فما تكون داعيةً إلى الله مهملةً شأنِ زوجها، ما تكون داعيةً مهملةً أبناءها وبناتِها، غير منتبهة منهم ومن أحوالهم وتربيتهم، ما تكون داعية تكدِّر قلبَ أبيها، أو تُكَدِّر قلبَ أمها؛ بل تحسنُ القيامَ بحقِّ الوالدين، وتُعين زوجَها على إحسانِ القيام بحقِّ والديه؛ هذه الداعيةُ الناجحة: تبذل وسعَها في أن يؤدِّيَ زوجُها حقَّ الأب وحقَّ الأم وحقَّ أرحامِه، وهي تُحسن أداءَ حقَّ أبيها وأمِّها -بالترتيب والأسلوبِ الحسن- وأرحامِها وقراباتها، تربية وسط البيت، تعليم وسط البيت.
بعض الدعاة وبعض الداعيات يهمل أبناءه، يهمل بناتِه، يهمل قريباتِه ما يبلِّغهم الدعوة. والحقُّ تبارك وتعالى لمَّا كلَّفَ نبيِّه بدعوةٍ شاملةٍ للعالَمين خصَّصَ الأقارب (وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ) ، (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُل لِّأَزْوَاجِكَ إِن كُنتُنَّ تُرِدْنَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحًا جَمِيلًا ) (يَا نِسَاءَ النَّبِيِّ) يقول الله تبارك وتعالى في الكتاب (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لأَزْوَاجِكَ وَبَنَاتِكَ وَنِسَاءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذَلِكَ أَدْنَى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا).
فتكون مهتمةً بأداء هذه لحقوق. وهنا يأتي دورُها في الجمعِ بين مهماتِ الدعوةِ العامةِ وبين القيامِ بنصيبِها مِن البيتِ والأسرة.
مِن أعظم الداعيات في الأمة المحمدية على الإطلاق "خديجة بنت خويلد" أول مَن آمنَ، وناصَرت النبيَّ مناصرةً ومؤازَرةً قويةً بمالِها وروحِها ونفسِها، ولمَّا يذكُرها يقول صلى الله عليه وسلم: {وفدَتني بنفسِها ومالِها} رضي الله عنها، ويقول عليه الصلاة والسلام { فلا والله ما أبدلنِيَ اللهُ خيراً منها }. مع ذلك، ومع قيامها بهذه الدعوة إلى الله كانت تراعِي ثيابَ النبي، وتراعِي طعاماً تقدِّمه للنبي؛ بيدِها، بنفسها تطبخ، بنفسها تقدِّم .. فما شغلها القيامُ بأمرِ الدعوة إلى الله تبارك وتعالى عن أداءِ الواجبِ القريب عليها.
حتى في الصحيحين في قصةِ مجيءِ جبريلِ بالسلامِ لخديجةَ من الله، يقول {إن خديجة تُقبل عليك الآن، تدخل عليك بإناءٍ فيه طعام } عندها خادمات وعندها جواري كثيرات، لكن هي تطبخ، وهي تحمل الطعام، وهي تقدِّم الطعام ؛ حرصاً على خدمةِ بيتِها وخيرِ الأنام في بيتها صلى الله عليه وسلم، { فإذا دخلَت عليكَ فاقرِئها السلامَ من الله } قل لها إن رب العالمين يُقرِئك السلام ، قال سيدنا جبريل { ومنِّي } وأنا أسلِّم عليها، وحدة يسلِّم الربُّ عليها أنا أسلِّم عليها {وأخبِرها أنَّ اللهَ يبشِّرها ببيتٍ في الجنة من قصبٍ -أي لؤلؤة مجوفة- لا صخبَ فيه ولا نصب}. والشاهد في قوله: "تدخل عليك بإناء فيه طعام" ؛ هذا شغلُها في البيت وقيامُها بالواجب. بل تعدُّ ذلك من جملةِ العبادات المقوِّيات للإيمان والمقرِّبات إلى الرحمن.
وبالطبيعة والفطرة مهما كان زوجُها مِن أهل الخير والدعوة إلى الله فسيُقاسمُها القيامَ بمثلِ هذه المهام ويساعدُها في أن يخفِّف عليها كثيراً من هذه الأمور ويفرِّغها في شيءٍ من الأوقات؛ على حسب ما يكونُ مِن ذلك التوافقِ والتناغُمِ في همِّ الدعوةِ إلى الله تبارك وتعالى.
كما تحرصُ على زيادةِ الإيمان، وزيادةِ العلم، والاطلاعِ، ومعرفةِ النفوس، وطريقةِ التفكير الدائرةِ في هذا الأمر والمجال؛ تحرص على: اتِّساعِ مهارتِها وقدراتِها وخبرتِها وفكرِها وإدراكِها للأمور؛ فهي أيضا تحرص على أن تتطورَ في كيفيةِ أدائها والقيامِ به، وعلى استعمالِ أقربِ الوسائلِ وأحسنِها في الشؤونِ والأحوال.
ثم تتَّصل من خلال هذه الأوصافِ كلِّها بوصفِ: الثبات والتَّعظيم لأمرِ الله ورسولِه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. وأن تُقيمَ الميزانَ أمامَ كلِّ ما يُعرَض وأمامَ كلِّ ما يُطرَح مِن مختلفِ الأفكار. وأن تعلم أنها في وقتِ إرسالياتٍ قويةٍ بتياراتٍ كثيرةٍ لمفاسدَ فكريةٍ وخُلُقية تنتابُ الأمةَ المحمدية اليوم، وتُرسَل مباشرةً إلى وسط البيوت وإلى الأفراد فيما يحملونه بأيديهم وفي جُيوبهم ويصلُهم وهم يمشُون في الطرق أو على السيارات أو وسط البيوت؛ إرساليات كثيرة لإفسادِ فِكرٍ وإفسادِ خُلُق. وأكثر ما يتعلق بجانب المرأة : اغترارُها بالمُزَيَّف مِن المظاهرِ والحضاراتِ الباطلة، واللِّباسات السيِّئة القبيحة التي فيها تبعيَّةُ الساقطات والدخولِ في دائرةِ "الكاسيات العاريات"، وتبعيَّةِ أيضا مَن حُذِّرنا مِن اتِّباعِهم.
إذاً هذا الأمر يتعلَّق أيضا النجاح فيه بأنَّ الداعية تكونُ القدوةَ الحسنةَ في مناسباتِها في البيت وما يجري في مناسبةِ قدومِ مسافر، أو ولادة، أو مناسبة زواج ؛ ما الذي يدور؟ ما هي الوسائل للتعبير عن الفرح ؟ ماذا يكون لباسُها ولباسُ بناتِها ولباس قريباتِها.. وما إلى ذلك. هذه شؤونٌ مهمة متعلقةٌ بنجاحِ هذه الداعية.
وبعد ذلك: وسيلةُ الدعاء والتضرُّع إلى اللهِ بالصدقِ والإخلاصِ لها وللأمةِ مِن أقوى أسبابِ النجاحِ والفلاحِ وتحقيق الخيرات.
وأما استيعاب أصناف النساء.. فذلك راجعٌ إلى أن يتقرَّرَ في ذِهنِها وجودُ الاختلافِ في طريقةِ التفكير، في طريقة تصوُّرِ الأشياء، وتقف على ما تستطيع الوقوفَ في ذلك. وعلى حسبِ ما يكون عندَها من صفاءٍ في الفكرِ والذهنِ وسِعَةٍ في العقلِ تستوعبُ أكثر. وليس المطلوبُ إلا ما يمكنُها الوصولُ إليه مِن حيث إمكانيَّتِها وقُدرتِها ؛ ولكن أصل تؤصِّلُه : أنَّ الأصلَ في هذه الدعوةِ الرِّفق ، والصبر، والتحمُّل، والمراعاة، والتدرُّج، وتضبطُ نفسَها أن لا تُستثارَ وأن لا يعلُوها الغضبُ عند وجودِ المخالَفَة وعند وجودِ المخالِفة وعند وجود الرادَّة والمُنكِرَة لصَريحِ الحق.
ومع ذلك كلِّه، فبِحمدِ الله.. الأكثر والواقع وجودُ المستجيبات ووجودُ المتلقِّيات، حتى أن كثيراً ممَّن لا تتقبَّل في البداية لا تتكلم، وتسكُت في باطنها، وإذا تكرر الكلامُ عليها اتَّضحَت لها الحقيقة ورجعت إلى الحق وإلى الطريقة، وهذا هو الحاصلُ الكثير. ولكن قد يحصل غيرُ ذلك مِن مُكابرة، أو مِن معاندة، أو مِن استفزاز (وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ). ولتَعلم سِرَّ: { اللهم اهدِ قومِي فإنهم لا يعلمون}.
ومِن أهم وأقوى صفاتِ الداعية في نجاحِها: قُدرتُها على كسبِ مودَّةِ الداعياتِ خاصَّة والمؤمنات عامَّة، ومحبتهنَّ مِن أجل الله، والتَّنازُل عن كثيرٍ من الآراء الشخصية حفاظاً على الألفةِ والمودةِ والمحبة. وقد كان العقلاءُ يقولون في مسلكِ الطريق: "إنَّ كسبَ القلوبِ أهمُّ مِن كسب المواقف". لا يضر أن تكون في موقفٍ ظهرت فيه الداعيةُ أنها غُلِبت أو أنها هُزمَت في هذا الموقف .. إذا كسبت القلوبَ فهي ناجحة " كسبُ القلوب أهمُّ من كسب المواقف". فاستِيعابُها القويُّ لقلوبِ مَن حواليها مِن الداعيات خاصة والمؤمنات عامة أساسٌ قوي. ولقد قالوا أنه "لا أعظمَ بعد الإيمانِ بالله تعالى مِن حُسنِ مُداراةِ الخلق" ، وأنه مِن أعظم ما يقومُ به الإنسان ومِن أعظم عقلِه: أن يكونَ بعد الإيمانِ لله تعالى حسنَ المداراةِ لأصنافِ الخلقِ متودِّداً إليهم.
وأن تريد الخروجَ لطلبِ العلم والدعوة إلى الله تعالى ولكن لم تجدْ تيسيراً في ذلك الأمر.. هل هو بسبب النية؟ لا يكون كلُّه بسببِ النية، قد يكون لضعفِ النية ولعدمِ إخلاصِها دخلٌ، وقد يكونُ غيرَ ذلك، مِن مختلف الأسباب. ولكن علينا أن نعزمَ وأن نصدق، وأي عزيمةٍ ونيةٍ صدَقنا فيها كُتبَت لنا؛ تمكَّنَّا من العمل أو لم نتمكَّن مِن العمل ؛ إذا صحَّت النية كُتبت لنا النية وكُتبت لنا العزيمة. وبعد ذلك لا يفتح الإنسانُ لنفسِه بابَ التعذُّر والاهمال والتَّرك. ولا يتكلَّف كذلك مالا يُطيق، بل يتوسَّط ويستقيم في أمرِه ويصدُق مع الله تبارك وتعالى. وما صدقَ فيه وعلمَ اللهُ منه صدقَه فيه لم يضيِّعْ فيه نيَّتَه.
ولا يجوزُ لداعيةٍ ولا لغيرِ داعيةٍ مِن المؤمنات أن تتَّبعَ زوجَها في أي محرَّم؛ كمثالِ تفرُّجِه على مسلسلاتٍ ساقطةٍ وهابطةٍ غير لائقة. فلا معنى لأن تقولَ يُكرِهني أو يأمرني أن أشاهدَها معه بل يجبُ عليها زجرُه، ويجبُ عليها نهيَه بأيِّ أسلوبٍ استطاعَته يؤدي إلى فائدة. ثم بعد ذلك مهما لم ينتهِ ولم ينزجرْ فيجب عليها أن تفارقَه في ذلك الوقت ولا تتبعُه. والأساس الذي يقوم عليه العلاقة مع الزوج وغيره : أنه لا طاعةَ لمخلوقٍ في معصية الخالق. هذا مع الأب مع الأم مع الزوج مع الأمير مع أيِّ أحد " لا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق" . ولكن مهما كان عدمُ الطاعة له في معصيةِ الخالق يمكنُ أن تتمَّ بلطفٍ، فلا ينبغي أن تكونَ بعنفٍ ولا ينبغي أن تكونَ بإثارة ؛ لا تُطِعه بألطفِ الأساليب وأقربِها. المهم لا تطيع مخلوقاً كائنا مَن كان في معصيةِ الخالق، ومهما كان ذلك أبعدَ عن الإثارة وأبعدَ عن الإشكال فهو الأولى وهو الأفضل، المهم أن تتوصَّلَ إلى المقصود. ولا طاعةَ لمخلوق في معصية الخالق.
يُتعرَّض لشؤون الجامعات والدراسات العليا كما يسمونها، أمثالُ ذلك الأصل فيه: أن ما تمَّ التوصلُ إليه من دون مَحذورٍ شرعيٍّ، مِن دون تبرُّج، من دون اختلاطٍ بالرجال مِن دون أي معصية، فالأصل فيه الجواز. بعد ذلك بحسب النية والحاجة إليه يترتَّب أمر الثواب. وكذلك أمرُ العقاب بالسلبِ في ذلك. كل ما خرجَ عن ضوابطِ الشرع فلا عذرَ للمرأةِ في أن تقتحمَه، إذا علِمنا ذلك فالأمرُ أمرُ توسُّط ما فيه مجال لانغلاقٍ وتزمُّت ولا فيه مجال لدعوى انفتاح وانفساح وما إلى ذلك مما يُذكر، ولكن طريقُنا موزونٌ بميزانِ الشرعِ والعقل فنرجع إلى ذلك. وفي جزئياتِ المسائل نستشير مَن نثقُ بعلمِه ودينِه ونرجع إليه.
ومِن غير ما شكٍّ أن كثيراً من النواحي في كثيرٍ مِن الشؤون تحتاج المجتمعاتُ فيها إلى نساءٍ يتخصَّصنَ فيها ويقُمن فيها؛ فكل مَن استطاعتِ القيامَ بهذا الدور بالضوابطِ الشريعة فيا حبَّذا ذلك، ولكن تعيين وتبيُّن وجودِ الفائدة أو الحاجة أو المصلحة أو الضرورة راجعٌ إلى ذوي الوَرع والوَعي والفهمِ والاحتياطِ في المنطقةِ والمكان. فينبغي أن لا تعجزَ عن مشاورتِهم والأخذِ برأيِهم فيما تقدمُ عليه مِن مثل هذه الأعمال.
فصار على العموم عندنا حاجاتٌ كثيرة يجب أن تغطِّيَها المرأة في جوانبَ علمية وجوانبَ مهنية، وينبغي أن نُحسنَ قياسَ الحاجة والفائدة والمصلحة، ونقيم بذلك أيضا النياتِ الصالحة، ونخرج في كلِّ ذلك عن التعصُّبِ أو الانغِلاق أو التشدُّدِ وعن الانفساحِ أو الانفتاح المُزرِي الخارجِ عن الضوابطِ الشرعيةِ، ونستقيم على ضوابطِ الشرعِ والعقل.
وأما بيانُ الحقيقةِ للشابَّاتِ وغيرِهنَّ فذلك راجعٌ إلى حسنِ النظر وحسنِ البيان فيما يُعرض عليهن، بل وفي التجربة الواقعية في حياةِ البشر، ونتائجُ ما كان مِن تلك الأغاني الماجِنة أو المسلسلاتِ الهابطةِ الساقطة، أو ما كان مما ادُّعيَ فيه الحرية وما إلى ذلك.. ماذا كانت النتائج؟ وماذا كانت الثمرات؟ وهي واقعةٌ في الأمة. فينبغي بيانُ ذلك وعرضُه مع نصيبٍ مِن الحرص والغَيرة والرِّفق واللُّطف، وتحريكِ الضَّمير والعاطفة؛ فذلك كلُّه مما يعينُ على ذلك.
وكذلك فيما يتعلقُ بما يُثارُ في بعض المناطق الآن عن قيادةِ المرأة للسيارة وغيرها.. ما جابوا الطائرة لكن هنَّ الآن موظفات في الطائرات بأزياءَ تفرِضُها عليهن الشركات، ويقُلن أنهن مِن أجل مصلحة المرتبات يُطِعنَ الشركة حتى ولو عصَتِ اللهَ تعالى بالتعطُّر عند الأجانب، الذي عليها فيه إثمُ الزِّنا، أو بالتبرُّج والإظهارِ لمحَاسنِها، ولا عذرَ لهن في ذلك.
ما يتعلق بمسألةِ السيارة كمجرد تعلُّم لأجل توقُّع شيء من الحاجة إليه في نادرٍ من الأحيان والأوقات، قائم على انضباطٍ وأسسٍ شرعية من أصلِها، ولا يكون ذلك ديدن. فإنَّ مثلَ هذه المِهن الرجلُ أولى بها وأليقُ وأحقُّ بها، والمشي بعد ذلك يكون في قيودٍ محدَّدة وحدودٍ محدَّدة وفي قتِ أمنٍ وطمأنينة وما إلى ذلك. فهذه الضوابط إذا جاءت.. ولكن أن يُجعل مثل هذا قضية ويكثرُ الكلام حولها، كله من جملة عبثِ العابثين بأفكارِ وعقولِ المؤمنين والمؤمنات؛ والمسألة أكبر من هذا العبث.
وكُلُّ ما أتقنَته المرأةُ وتوصَّلت إلى إتقانِه بوسائلَ شرعيةٍ صحيحةٍ واستعملَته استعمالاً صحيحاً لا إشكالَ عليها في ذلك – مِن دون أن تتجاوزَ الحدَّ – بأن تجعلَ الأصلَ فرعاً أو الفرعَ أصلاً، أو تقدِّم الأليقَ بغيرِها بقيامِها به أو تقدِّم ما هو أليقُ بها بالقائه إلى غيرها؛ فكلُّ هذا لا ينبغِي أن يكونَ من العاقلة ولا من المؤمنة.
والحرام بعد ذلك منوطٌ بكل ما تُعُرِّض فيه لفعلِ الحرام وغلب فيه فِعلُه، أو تمَّ فيه المحرَّمُ شرعاً مباشرةً من تكشُّفٍ أو اختلاطٍ بأجانب وما إلى ذلك. وما سلِم مِن كلِّ ذلك فلا مجالَ للقول بحرمتِه ؛ إلا أنه بقيت لنا الضوابطُ العامة في معرفةِ ما هو أليقُ وما هو أحقُّ وما إلى ذلك.
ومن جملة ذلك ما تُشير بعضُ السائلاتِ إليه مِن صَيحات المُوضة وغيرها، وأنَّ ذلك مِن جملة الأسلحةِ التي يستخدمها أعداءُ المرأة وأعداءُ الديانة وأعداءُ الكرامة وأعداءُ القِيَم ليَغرُوا بها ناقصاتِ الوَعيِ والإدراكِ ليُصدِّقوهنَّ أن في ذلك شيئاً مِن الخير لهنَّ وما إلى ذلك. كلُّ أمثالِ هذه المسائل تذاكُرنا فيها بالأسلوبِ والمَنطقِ الطيبِ هو الذي يُوصل إلى إدراكِ الحقيقة وإلى علاجِ أمثالِ تلك الانطلاقات على غير بيِّنة وعلى غيرِ بصيرة.
وما يتعلقُ بشأن قراباتِها وأسرتِها واجب عليها أن تبذلَ الوسعَ بما تستطيع، و (لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا). ويجب أن لا تكونَ مُقصِّرة ولا مُهملة، وأما تحقيق الهدايات ما هي بيدِها لا للأقارب ولا للأباعد ؛ وإنما هي متسبِّبة ترقبُ رضا المُسبِّب سبحانه وتعالى.
وكذلك الاتصالُ بالأسانيد والاتصال بالشيوخ أمرٌ مِن الضرورة بمكان فيه صلتها بالله وبرسوله أو بتحقيق سيرِها إلى الله تبارك وتعالى. وكلُّ ذلك بمختلف الوسائلِ الطيِّبة الحسنةِ، وبقراءة الكتبِ واستماعِ الأشرطة، وما إلى ذلك من مختلف الوسائل.
ومَن كانت تريدُ أن تعرف صفاتِ المريد الصادق أو كيف يكونُ على الاتصالِ الصحيح أو كيف يحصل الرعاية : فلتُحسنِ التأملَ والنظرَ في "آداب سلوك المريد" للإمام الحداد و"رسالة المعاونة" له، و"مفتاح السرائر" للشيخ أبي بكر بن سالم. ولتَقرأ " سُلَّم التوفيق إلى محبة الله على التحقيق" للإمام عبد الله بن حسين بن طاهر. وبهذا النظر، وبما ذكرنا مِن الصفات يحصلُ كلُّ المطلوبِ مما ذُكِر، والله وليُّ التوفيقِ والهداية.
أخذ الله بأيديكُنَّ، ونوَّر الله قلوبكَنَّ، وزادكنَّ إيماناً ويقيناً، وجعلكنَّ سبباً لنَشرِ الخير والهدى والبرِّ في مختلفِ الجهاتِ والأقطارِ والسَّاحات. وجعلكنَّ مِن المتعاوناتِ على البِرِّ والتقوى، والصادقاتِ في الوَفاءِ بعهدِ الله تبارك وتعالى والإخلاصِ لوجهِه الكريم، والصدقِ معه في كلِّ ظاهرٍ وباطنٍ وقولٍ وفعلٍ ومقصدٍ ونية، ودفعَ عنا وعنكنَّ وعن أهلِينا وأسرِنا كلَّ أذيَّة وبليَّة، ظاهرةٍ وخفيَّة إنه أكرمُ الأكرمين وأرحم الراحمين.
للاستماع إلى المحاضرة