محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في دار المصطفى، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 4 محرم 1440هـ بعنوان: آثار إسماع الله معاني ندائه وأسرار عنايته بأنبيائه وأوليائه
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ لله الذي غَمَرَ بفضلِه الملأ الأعلى ومَن أرادَ أن يُرفَع لهم القدرَ مِن الملأ، وجعلَ سيَّدَ الكُلِّ عبدَه المصطفَى محمداً.
اللهم أَدِم صلواتِك على صَفوتِك مِن البَريَّة سيّدِنا محمدٍ المجتبى، وعلى آبائه وإخوانِه من الأنبياء والمرسلين، وعلى أولادِه وأهل بيتِه وصحابتِه، وعلى آلهم وصحابتِهم، وعلى ملائكتِك المقرَّبين، وعلى جميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحمَ الراحمين.
أنواعُ الإسماعِ من حضرةِ الرَّحمنِ تُعرَضُ على قلوبِكُم ليَسْمَعَ كُلٌّ في رُتبةٍ مِن رُتَبِ السماعِ كان فيما دونها فيُرفَعُ إليها؛ ليتهيأ لأن يُرفَعَ إلى ما فوقَها في دوائر الخير الذي يَهَبَهُ الله ثم يَعلَمُ مِن قَابِلِهِ مِن عباده فيزيده إسماعاً، (وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْرًا لأَسْمَعَهُمْ).
حَرَمَ ذلك القلوبَ التي أراد أن لا تُصَدِّق بمحمد، ولا بما جاء به، ولا أن تخضعَ له، ولا أن تؤمِنَ بما بَعَثَهُ الرحمنُ به؛ فهؤلاء الذين حُرِمُوا الخيرَ ولو مَلَكوا كُلَّ شيءٍ على ظهرِ الأرض.
وعزَّةِ ربِّ الأرضِ وربِّ السماءِ لم يَملِكُوا مِن الأرضِ إلا ظاهراً مِن الحياة الدنيا، وأنواعٌ مِن أمتعةٍ حقيرةٍ زائلةٍ تُزَمْجِرُ بِقوَّتِهَا الاقتصاديَّة أو العسكرية، ثم ما تلبثُ أن تتهاوَى ويتهاوَى أصحابُها؛ سُنَّةٌ ربانيةٌ كانت مِن العهدِ الأول إلى زمانِنَا هذا، فسبحانَ الذي يُحَوِّل ولا يتحوَّل، ويُبَدِّل ولا يتبدَّل، ويُغَيِّر ولا يتغيَّر.
يقول جل جلاله وتعالى في عُلاه في بيانِ هذه الحقيقة، وقد انبثقت مِن أيادٍ امتَدَّت ليدِ خيرِ الخليقة؛ فنزلَت مَنزِل الرضوان مِن الرحمن: (لَّقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ..) مِن الإيمان بالله عَبْرَكَ، والإيمان بك ليؤمنُوا بالله جل جلاله، وليستقبلُوا مواهبَ الله وفضلِه عليهم بإيمانهم بك، وحُبِّهم لك، وتعظيمِهم لك الذي به أحبُّوا ربَّكَ الذي أرسلَك إليهم واختصَّك بفضلِه واختصَّهم بما آتاكَ مِن فضلٍ ليكونُوا خيرَ أمة (..فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا).
هذا الذي عَلمِ ما في قلوبِ أولئك الرَّعِيل الأول ألا يعلَم ما في قلوبِنا؟! معشرَ أهلِ المجمَع ومَن لنا يسمع كذلك، ومَن سيَسمعُ هذا الكلام .. أو كُلُّ قلبٍ مِن المؤمنين خطرَ به خاطِرُ الوِجهة إلى الرَّبِّ ليطلبَ منزلةً في القُرْبِ أو المعرفةِ الخاصَّةِ أو حُسْنِ اللقاءِ لهذا الباقي جل جلاله؛ ألا يعلمُ ما في قلوهم؟ وعِزَّتِهِ إنه ليَعلَم.
فإن عَلِم في قلبٍ مِنَّا مشابهةً لِمَا كان في قلوبِ أولئك سلَك به تلك المسالِك حتى يُلحِقَهُ بهم، وحتى يحشرَه في زُمرتِهِم، (فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا * وَمَغَانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَهَا وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا * وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ..) يا كُلَّ مُتغانِم، ويا كُلَّ راجٍ في العطايا العظائم، (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ) لا يُساويها شيئاً تيسيرُ المُرَتَّبَات ولا إعطاء الوزارات ولا الوعدُ برئاسةٍ على دولةٍ مِن الدولِ الزائلات المُنْتَهِيَات ولا شيء مما يكونُ على ظهر الأرض؛ وعدكم ربُّ السماء والأرض مغانمَ، (وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغَانِمَ كَثِيرَةً..) كثيرة.. كثيرة؛ كثيرة بميزانه هو، (..كثيرة فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا).
كيف كان ميزانُ القُوَى المادية والعسكرية على ظهرِ الأرض أيامَ بعثةِ نبيِّنا؟، وأيامَ قِيَامِهِ بالأمر؟ وأيام فتحِه لمكة فضلاً عما كان قبلَها؟، وأيامَ خروجِه في آخرِ غزوةٍ إلى تبوك في السنةِ التاسعة من الهجرة .. كيف كانتِ القُوى المادية والعسكرية والنفوذيَّة على ظهرِ الأرضِ في عالم الحِس؟ أما كان يُمكنُ أن يُجتَاحَ في خلال يومٍ وليلةٍ مِن قِبَل أولئك الجُنْد والعساكر ليُستأصَل ومَن معَه؟
إن أمكنَ ذلك في عالم الحِس فذلك غيرُ ممكنٍ في عالم الواقع والحقيقة، تحت حقيقة: (إِنَّا لَنَنصُرُ رُسُلَنَا)، وهو الذي خُوطِبَ يومَ رجوعِه مِن تحت مكةَ ممنوعاً أن يدخلَ مكة وهو مُحْرِم بالعمرة .. خُوطِبَ في وقت ذلك الرجوع بعد أن تحلَّلَ بحلقِ رأسِهِ ونحرَ هديَه، رجع وفي رجوعِهِ خُوطِبَ : بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَٰنِ الرَّحِيمِ (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُّبِينًا * لِّيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ وَيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَيَهْدِيَكَ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا)
هذه معاني نَصره وتأييدِه له، بل قبلَ أن يصلَ إلى تحت مكة ويُرَدّ ؛ أيامَ أُخْرِج منها أيامَ الهجرة في صورةِ مَن يُطَارَد مِن هنا وهناك، قال لسراقة: ((كيف بك وأنت تَلبِسُ سواري كسرى وقيصر))، فأنَّى لتلك القوى مهما كَبُرَت أن تنالَ مِن هذا الجَنَاب، أو تَصِلَ لتلك الرحاب ؟!!
وهل نطلب نحن في قيامِنا بهذا الأمر أو انتهاجِنا في هذا النَّهْجِ في هذه التبعيَّة لهؤلاء القومِ نصراً غير هذا النصر؟! مِن جهة غير هذه الجهة !! .. لا.. لا والله، لا والله. مَن عنده غيرُ هذا النَّصرِ فلَه ولا حاجةَ لنا به، مَن عندَه غيرِ هذه الحراسةِ فلَه ولا حاجةَ لنا بها، وما يأتي مِن أي جهةٍ غير هذه الجهة فمردودٌ عندنا، ولكن عينُ نُصرتِهِ لحبيبِهِ، وعينُ تأييدِه، هو الذي نحن في ظِلِّه وهو الذي نحن تحتَه، يقول جل جلاله وتعالى في عُلاه : (فَعَجَّلَ لَكُمْ هَٰذِهِ وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ).
ووَرَد وارِد كسرى إلى عند الحبيب صلى الله عليه وسلم في المدينة، وكان منظر وجوهِهما في تربيةِ الشوارب بقوَّة، وحَلقِ اللَّحاء كَرِهَه صلى الله عليه وسلم وكَرِهَ النَّظرَ إليهم، قالوا : إنما جئنا مُبعثِين مِن عند كسرى لِنُحضِرك إليه، لنَحملَك أنت مِن جزيرة العرب، من المدينة ونأخذك إليه!! ضحكَ صلى الله عليه وسلم قال : ((انتظرُوا اليومَ, أجيبُكم في الغَد))، جاءوا في الغد، قال: ((مَن أمركُما بهذا؟))، قالا: ربًّنا – يقصدون الملكَ حقهم-، قال : ((إن ربي قتلَ ربَّكم البارحة، وأن ابنه تسلَّط عليه فقتلَه))، البارحة ذاك في الفُرس وذا في المدينة، لا انترنت!!، لا تلفون!!، لا وسائل تواصل ، ارجِعُوا وبلِّغُوا ..
رجعُوا إلى عند المسؤولين تبع كسرى في اليمن، قالوا لهم يقول هذا كذا كذا . وقَف.. قالوا انتظروا الخبر؛ فإنْ والله كان ما يقول حقّاً فهو رسولُ الله يجبُ أن يُخضَع الكل له، وإن رأينا كلامَه غير واقعٍ لنا معَه شأن.
وصلوا هم بالخبر قبل أن تأتيَ الأخبار مِن فارس وتصل اليمن .. ووصلت إذا في نفس الليلة كما حدَّد صاحبُ الرسالة، وحدَّدَ القاتل مَن هو، وولده الذي قام عليه، وجاءتهم الأخبارُ وبالتاريخ. ارتعبوا ! .. وقالوا: لا نَقرَب هذا الجناب.
لأنَّ ملك الدنيا على الحقيقة "الله" "الله" "الله" .. متى يمتلِئ قلبُك به؟ خرِّج نفسَك .. خَرِّج ملوكَ العالم الذين في زمانِك والذين مضَوا والذين يأتون، وقُلْ : " الله " (قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ)، هو ملك الأرض، وهو ملك السماء، وهو ملك الدنيا، وهو ملك الآخرة، و(تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَهُوَ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ * الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ).
يا عزيزُ يا غفورُ بحبيبِكَ بدر البدور زِدْنَا مِن عطائك الموفور، وهَبْ لنا نوراً فوق نور، وادفع عَنَّا وعنِ الأمة جميعَ الشرور، وكُفَّ أيدي أهلِ الظلم والزَّيغ والفسادِ والفُجور، عنَّا وعن رُبوعِنا والدُّوُر، وعن المؤمنين والمؤمنات في البُطون والظُّهور، يا حيُّ يا قيومُ، يا برُّ يا شكورُ، يا عزيزُ يا غفورُ يا الله.
(وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ)، أخيارُ الأمة في مختلَفِ الأزمنةِ ومختلَفِ الأزماتِ والمِحَنِ والشدائدِ كانوا في سِيَاجِ ألطافٍ مِن عظمةِ خفيِّ لُطفِ اللطيف، بل في تكريمٍ وتشريفٍ؛ وبقي هذا النورُ فيهم إلى وقتنا الحاضر، .. مَن حرسَهم؟، مَن حماهم؟، اعتمدُوا على أيِّ قوة؟ على أي دولة؟ على أي معسكر؟ عليهم رضوان الله تبارك وتعالى.
وهكذا كان ما كان، حتى قال في هذا الشأن سيدُنا الحداد عمن تُحَدِّثُهم أنفسُهم بإيهاماتِ وإيحاءاتِ إبليسَ وجُندِه أن يَستأصلُوا الأخيارَ أو يستأصِلُوا آثارهم:
يُرِيدُونَ أن يُطْفِئوُا بأَفْوَاهِ زُورِهِم ** مَصَابِيحَ نُوُرٍ قَدْ مَحَت لِظَلَامِ
مِنَ السَّلفِ المَاضِينَ والخَلَفِ الذي ** كِرَامِ السَّجَايَا أَعْقَبَت بِكِرَامِ
أولئِكَ وُرَّاثُ النَّبِيِّ ورَهْطُهُ ** وأَوْلَادُهُ بالرَّغْمِ لِلْمُتَعَامِي
ينقطع شأنهم وإرثهم وأثرهم يا حدَّاد؟،
مَوارِيثهم فِينَا وفِينَا عُلُومُهُم ** وأَسْرَارُهُم فَلْيَسْأَلِ المُتَرَامِي
إِذَا جَاءَ بِالصِّدْقِ الَّذِي هُوَ سُلّمٌ ** إلى كُلِّ خَيْرٍ نَالَ كُلّ مَرَامِ
فما شأنُ ما يُحِيطُ مِن الألطافِ ببُقَعِهم ومواطنِهم وأماكنِهم ؟ قال:
بِهِم أَصْبَحَ الوَادِي أَنِيسَاً وعَامِرَاً ** أَمِينَاً وَمَحْمِيَّاً بِغَيْرِ حُسَامِ
وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِم وسَبِيلِهِم ** وَمَا نَحْنُ عَن حَقٍّ لَهُم بِنِيَامِ
مُقِرِّينَ بِالتَّقْصِيرِ عَن شَأْوِ مَجْدِهِم ** وَحُسْنَ مَسَاعِيهِمِ بِكُلِّ مَقَامِ
ولَكِنَّهُم آبَاؤنَا وَشِيُوخُنَا ** وَأَسْلَافُنَا مِمَّن مَضَى بِسَلَامِ
**
فَيَا رَبِّ ثَبِّتْنَا علَى الحَقِّ والهُدَى ** ويَا رَبِّ اِقبضنَا على خَيرِ مِلَّةِ قال :
(وَكَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنكُمْ وَلِتَكُونَ آيَةً لِّلْمُؤْمِنِينَ وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا)، اللهم اهدِنا فيمَن هدَيت.
هذه مظاهر العناية والعطا الأفخر: (وَيَهْدِيَكُمْ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا * وَأُخْرَىٰ لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْهَا قَدْ أَحَاطَ اللَّهُ بِهَا وَكَانَ اللَّهُ عَلَىٰ كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرًا)، ثم الحقيقة في جريانِ الأحداثِ على ظهرِ الأرض: (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)، هذا في وقت محدد؟ قال: (سُنَّةَ اللهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِن قَبْلُ وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللهِ تَبْدِيلًا)؛ أي لا يملكُ أحدٌ القرارَ في تغييرِ هذه السُّنَّة، لا أحد يملك، لا إبليس ولا جنده، ولا إنس ولا جن، ولا عجم ولا عرب، لا أحد يملكُ تغييرَ هذا القرار (وَلَن تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا) ؛ ولكن: (لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ) اختبارات يختبرها بِحِكَم؛ ليعلَمَ الصادق؛ (لِيَمِيزَ اللهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ)؛ ليعلَم المؤمنَ مِن المنافق. .
(وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ)، ولحكمةٍ من الحِكَم قال أيديكم أنتم أيضاً في يومِ صلح الحُديبية كفَفْتُها، وكان عندكم من المؤهِّلات المعنوية والقُوَى الباطنة ما لو فتحتُ لها السبيل لأهلَكَت مَن في مكة؛ لكني أيضاً كففتُ أيديَكم؛ كَفَفْتُ أيديَ أهلِ الباطل، ووقَّفْتُ أيدي أهلِ الحق؛ لأنني الحقُّ الأعلى وأُراعِي شؤونَ حقيقةِ الحق مِن بين الحقائق عبدي محمد، (وكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُم بِبَطْنِ مَكَّةَ مِن بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ)، كنتم تستطيعون بما عندَكم مِن إيمانٍ ويقينٍ وقوة وقيادةِ زينِ الوجود أن تجتاحوا مكة ولا تُبقُوا أحداً، أنا وقّفتكم؛ كما وقَّفتُ أيادي أهل الباطل وأمسكتُ أيادي أهل الحق لحِكمةٍ من وراء ذلك، (وَكَانَ اللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيراً )، جل جلاله.
(هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ..)، لا خَلُّوُكُم تدخِّلوا الهدي ولا تطوفوا بالبيت، وأنتم مُحْرِمين وردُّوكم من تحت مكة، (هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَصَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرَامِ وَالْهَدْيَ مَعْكُوفًا أَن يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ لَّمْ تَعْلَمُوهُمْ أَن تَطَئُوهُمْ فَتُصِيبَكُم مِّنْهُم مَّعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِّيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَن يَشَاءُ)، بعض هؤلاء سيسلمون وبعضهم يرجعون!!، حِكَم وراء فعل الحكيم جل جلاله، (لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا)، لكن أخَّرتُ هؤلاء بينهم ليبلغَ الكتابُ أجلَه، وليتهيأ إسلامُ مَن يُسْلِم فأُبْعِد عنهم العذاب وأؤخِّره، ويُسْلِم مَن يُسْلِم ثم يكونُ ما يكون؛ ويأتي زينُ الوجود وأخاطبُه في الخطاب بعد دخولِه إلى مكة المكرمة: (إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللهِ وَالْفَتْحُ * وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللهِ أَفْوَاجًا..)، أنت اُثبت ودُمْ على أصلِ الطريق الذي أعطيتُك مِن أول الأمر: (فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا) جل جلاله وتعالى في علاه .
وهكذا .. (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا..)، مهما بقي على ظهرِ الأرض قلوبٌ صادقةٌ مخلصةٌ لله مؤمنةٌ به معظِّمةٌ لله ولرسوله، لا تريد علوّاً في الأرض ولا فساداً ولا تريدُ غيرَ وجهِ ربِّها، ولو لم يكونوا إلا عشرة أو مائة على ظهر الأرض ثم اجتمعَت عليهم دولُ الكفرِ لعَجَزُوا عن أن ينالُوهم (وَلَوْ قَاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ) خبر مِن مَن؟، وبالتأكيد لام التوكيد (لَوَلَّوُا الْأَدْبَارَ)، ومع الهَيْلَمَة والضَجَّة الكبيرة، قال: (ثُمَّ لَا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَلَا نَصِيرًا)، ما حد ينصر غيرُه، وما أحد يؤيِّد غيره؛ (إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غَالِبَ لَكُمْ).
يا رب ارزُقنا الصِّدقَ معك، وانصرنا بِنَصرِك العزيِز المؤزَّر، ولا تَكِلْنَا إلى أنفسِنا ولا إلى أحدٍ من خلقِك طرفةَ عين.
وواجهتكُم سَنَةُ الهجرةِ الجديدةِ بالطَّوالِعِ السَّعِيدَةِ، واللهُ يُبَلِّغُ الآمالَ وفوقَها مِن عطايَاهُ المدِيدة، وأياديه الطَّيِّبَةِ الحميدة، يا مُوالي النعم، يا دافع النِّقَم، يا مولى الجودِ والكرم، اجعله مِن أبركِ الأعوامِ على هذه الأمةِ فيما خَصَّ وفيما عَم، بوجاهةِ حبيبِك الأعظم، يا أرحمَ الراحمين.
نَعْزِمُ على ابتداءِ رحلةٍ في الهجرة لِنَهْجُرَ ما نهانا الله عنه؛ نيَّةً وقصداً وإرادةً وفعلاً وقولاً ونظراً سمعاً وبصراً وحركةً وسكوناً، نهجر ما نهانا الله عنه؛ حتى نتصل بأهل الرَّحَلَات، ومنها ما يقول بعض أربابها :
رحلةٌ فيها رَحَلْنَا ** لِلْمَقَامَاتِ العِظَام
رحلةٌ فيها اِجْتَمَعْنَا ** عِنْدَ سَيِّدِنَا الإمَام
وعَرَفْنَا حِينَ زُرْنَا ** مَا هُنَالِك مِن مَقَام
فاحفظوا عنَّا خَبَرْنَا ** إنه قَوْلُ حَذَام
ثُمَّ قُومُوا حَيْثُ قُمْنَا ** فالنِّدَاء فِينَا أَقَام
إرادةُ الرحمنِ بفيض الجود والرحمة على المحبوبين والمخصوصين بدأت تظهرُ في عالم الحسِّ للملأ الأعلى مِن عند قوله: (إِنِّي جَاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً)، تَرْعَى هذه الرعاية أربابَ الصِّدقِ والإخلاصِ مِن آدم ومَن انْحَدَرَ مِن ذُرِّيَّتِهِ مِن النبيِّين، وأهلِ دوائرِهم مِن الصِّدِّيقين والمخلِصين إلى زمانِنا وإلى آخرِ الزمان، و(اللهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسَالَتَهُ)، والله أعلم يخُصُّ مَن شاءَ بِنُوره (يَهْدِي اللهُ لِنُورِهِ مَن يَشَاءُ).
ويبارك الله لنا ولكم في هذه الرحلات، وفي هذه الزيارات، وفي الالتجاء إليه من الأبوابِ الواسعات؛ أبوابِ أهل النبوةِ والرِّسالات، وأربابِ الصدِّيقِيِّة الكبرى، مِن أبوابِهم نَلِجُ إلى ربِّ العالمين خضوعاً خشوعاً مضطرِّين.
ربي وأنت القائل: (أَمَّن يُجِيبُ المُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)، سيِّدي.. علَّمتَنَا وأذقتَنا مِن بعضِ ما نحن فيه مِن الاضطرار ما علَّمتَنا فلك الحمد؛ فنحن وعزَّتِك مُضطرُّون أتمَّ الاضطرار إلى رأفتِك، وإلى رحمتِك، وإلى عفوِك، وإلى مغفِرتِك، وإلى نُصرتِك، وإلى تأييدك، وإلى عفوِك، وإلى صفحِك، وإلى إمدادِك، وإلى معونتِك؛ مضطرِّين لذلك في أديانِنا، في أبدانِنا، في أهلينا، في أولادِنا، في طُلَّابِنا، في أصحابِنا، في حركاتِنا، في سكناتِنا ..
يا ربِّ وما لم نطَّلع عليه مِن حقيقةِ الاضطرار أكبر وأكثر، وأنت أعلمُ به، وعلى أكفِّ الاضطرار وأرجُلِ الاضطرار، ووجهاتِ الافتقارِ نمدُّ الأيادي إليك يا كريمُ يا غفارُ.
(أَمَّن يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذَا دَعَاهُ)، ووَعْدَتَ إذا اضطرَّت القلوبُ إليكَ وعرَفتَ حاجتَها وفقرَها فخضَعت فدَعَتكَ أن تكشفَ السُّوءَ، ربِّ وما علِمْنَاه مِن سوءٍ في أنفسِنا أو أحوالِنا أو أهلينا أو بلدانِنا أو أوضاع الأمة عَلِمْنَا ما عَلِمنا، وما تعلمُه أنت أعظمُ مما نعلمُ، فاكشِف عنَّا السُّوءَ مِن حيثُ أحاطَ به عِلمُك يا كاشفَ السوء يا الله.
(وَيَكْشِفُ السُّوءَ..)، ووعدتَهم بعد ذلك أن يتَّصِلوا بكراسيّ الخلافة في الصِّلَةِ بحبيبك: (..وَيَجْعَلُكُمْ خُلَفَاءَ الْأَرْضِ)، مَن يصنعُ كلَّ ذلك؟ (أَإِلَٰهٌ مَّعَ الله)، هل يشاركه أحد؟!، ملائكة؟، إنس؟، صغار كبار؟، عرب عجم ؟!، (أَإِلَٰهٌ مَّعَ الله قَلِيلًا مَّا تَذَّكَّرُونَ)، ذكِّر هذه القلوبَ يا رب، ذكِّر قلوبَ الحاضرين والسامعين بهذه الحقيقة، وارزُقهم الاستمساكَ بالعُروةِ الوثيقة، والاتصالَ بخيرِ الخليقة.. يا الله .. يا الله .. يا الله
أيُّ كلمة هذه أُذِن لك أن تقولَها؟!، أُذِن لك أن تلهجَ بها، أيُّ كلمة هذه؟!، أيُّ كلمة هذه !! اسمُ مَن هذا !!
يا الله يا الله .. يا الله يا الله
يَصْغُر كلُّ شيءٍ أمامَها؛ أما تهابُه وأما ترجوه.. ماذا يكون.. آمالك وأطماعك كلُّها صغيرة، والأهوال والشدائد الخطيرة كلُّها صغيرة أمام هذه الكلمة: الله .. الله.. الله، أَذِن لك ووفَّقك أن تقولها: "يا الله"، فتشارك في قولها الملأَ الأعلى، والنبيين، والصدِّيقين، والشهداء، والصالحين؛ كلهم قالوا: "يا الله"، وأنت تقول: "يا الله".
يا سيِّدنا ابتليتَ قلوباً على ظهرِ الأرض تلتجىء لغيرِك، ترتجي غيرَك، تخاف غيرَك، تتَّكل على غيرِك، تعتمد على غيرِك، وهم يقولون: "لا إله إلا الله محمد رسول الله"، إلا أنهم ما شَرِبُوا كأسَها ولا تحقَّقوا بحقائقِها، فنقول لك: يا مَن وفَّقتَ أن نَتَسَامَى عن كُلِّ هذه الدَّنَايَا فنقول: "يا الله" مأذوناً لنا، موفَّقَاً لنا، مُقَدَّر لنا ذلك، مقدور لنا ذلك، بمحض قُدرتِك، بمحضِ توفيقِك، بمحضِ إذنِك نقول: "يا الله".
هذه القلوب وإن بقيت بقايا في قلبِ أحدٍ مِن السامعينَ أو الحاضرينَ اللهم إنها مرضى فَيَا مُداوي دَاوِها، ويا شافي اشفِها، ويا معافي عافِها، وأبعِد عنها هذه الظُّلمَة حتى لا تلتجي إلى غيرِك، وحتى لا تنادي سواك، وحتى لا تثقَ إلا بك، وحتى لا ترجو إلا إياك، ولا تخاف إلا إيَّاك، يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا الله.. يا الله.
أنعَمَ عليك بها، ولو أراد أن يُحرِمَك ما أعطاك إياها، ولا أذنَ لك أن تكونَ مع أهلِها وأنت تُناجيه بها، خيرُ كلمةٍ خرجَت مِن قلبِك ولسانِك، والله.. والله.. والله ما تصوَّر قلبُك كلمةً أعظمَ مِن هذه الكلمة، ولا نَطَقَت لسانُك بكلمةٍ أجَلَّ مِن هذه الكلمة: يا الله.. يا الله .. يا الله.. يا الله .. يا الله.. يا الله
فَيَا مَن أَذِنتَ لهم وأوقفتَهم على البابِ في فسيحِ الرِّحاب ونادوك يا ربَّ الأرباب وقالوا: "يا الله" ، اقبلنا وإياهم يا الله، وارحمنا وإياهم يا الله وانظر إلينا وإليهم يا الله، وأكرِمنا وأكرِمهم يا الله، واعفُ عَنَّا وعنهم يا الله، ووفِّقنا ووفِّقهم يا الله، وانصرنا وإياهم يا الله.
واجعله عاماً تظهر فيه راياتُ حبيبِك في مشارقِ الأرضِ ومغاربِها، يا ربَّنا.. يا ربَّنا أكرمتَنا بإسلامِ كثيرٍ ممن لم يكُن مُسلِماً في العام الماضي، فنسألكَ في هذا العامِ أضعافَ أضعافَ أضعافَ مَن أسلمُوا في العام الماضي.
يا ربّ .. يا ربّ .. يا رب وبارِك فيهم أجمعين، والعدد الذي يصل منهم إلى هذا المكان بعد حين، بركاتٍ واسعاتٍ، بركاتٍ كبيراتٍ، بركات دائمات، بركاتٍ ناميات، بركاتٍ أبديات يا مجيب الدعوات يا الله.
ولو فَتَحَ لك بابَ حلاوتها في ساعةٍ من الساعات لكشفَ عنك الحُجُبَ، ولأذاقكَ سَلْسَالَاً من المحبةِ والعشقِ والوَلعِ والشَّوقِ.
يا الله .. يا الله، بوجاهةِ المحبوبين والمقرَّبين، والنبيِّ محمد والنبيِّ هود، وسلاسل الإسناد إلى زينِ الوجود، جُدْ علينا يا جواد، زِدنا ما أنت أهلُه في الدنيا والمَعَاد، وأصلِح لنا كلَّ جسمٍ وقلبٍ وفؤاد، وبلِّغنا المرادَ وفوقَ المراد، مما أنت أهله يا جزيلَ الإمداد، يا ربَّ العِباد، يا كريمُ يا جوادُ يا أرحمَ الراحمينَ يا الله.
للاستماع إلى المحاضرة