محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، في دار المصطفى ليلة الجمعة 11 محرم 1440هـ ضمن سلسلة إرشادات السلوك، بعنوان: وعي أسرار الحمل في السفينة وشئون البصائر ومسلك أهل الهدى.
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمدُ للهِ المُتَعَرِّفِ إلى عِبادِهِ بحقائقِ إفضالِهِ وجُودِهِ وإمدادِه، بمَظاهرَ أبرزَها في الوجودِ جعلَها العلاماتِ الدالَّة، وجعلَها الأصابعَ المُشِيرَة والألسُنَ الناطقَة؛ لِتدُلَّ وتهديَ مَن شاءَ الله، وجعلَ لتلكَ الدلالةِ والتعرُّفَاتِ مِن حضرتِه العَلِيَّةِ مراتبَ ومنازلَ ومجالِيَ ومظاهرَ، يندرجُ بعضُها في بعض، وهي في دائرة : (وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ) جل جلاله.
ولكنه سبحانه جعلَ سِرَّ تَعَرُّفِهِ إلى هذا النوعِ المُكَلَّف مِن الخلقِ – الإنس والجن – قائماً ومُرتَّباً على إنزالِ وحيٍ وإرسالِ رُسُلٍ وتَنبِئَةِ أنبياء، وجعلَ رأسَهم وإمامَهم نبيَّكم محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فكان أعظمَ الدلائل، وخاتمَ الرسائل، وأعلى الوسائل، وجامعَ الفضائل، صلواتُ ربي وسلامُه عليه وعلى آله وصحبِه ومَن سار في دربِه على مَمَرِّ الأيامِ والليالي.
وتعرَّفَ الحقُّ تعالى إلى هذه الأمةِ بمُحمدٍ، ونالَ أعظمَ التعَرُّفِ وأوَّلَهُ السابقُون الأوَّلون مِن المهاجرِين والأنصار، وآلُ بيتِ النبيِّ المصطفى المختار، وورِثَهُ عنهم الأخيارُ بعدَ الأخيارِ على مَمَرِّ الأعصار.. إلى ما يحدُثُ في ساحةِ هذا العالمِ في عصرِنا الذي نعيشُ فيه وزَمَنِنا الذي نحيا فيه.
ونجِدُ مُقَلِّبَ القلوبِ يُقَلِّبُهَا ؛ يؤمنُ هذا ويكفرُ هذا، ويُقبلُ هذا ويُدبرُ هذا، ويَصدقُ هذا ويَكذبُ، وينافقُ هذا، ويُقَرِّب هذا، ويُبعِد هذا؛ ليَجريَ قضاؤه، وليفوزَ مَن يفوزُ بسِرِّ تَعرُّفِه إليه فيَعرِفَ ربَّه، ويصدُقَ في طلبِ ربِّهِ، وفي إرادةِ رضوانِ ربِّه، وفي محبة ربِّه، وفي الشوقِ إلى ربِّه جَلَّ جلاله وتعالى في علاه، ويعيشُ واللهُ ورسولُه أحبُّ إليه مما سِواهما.
وتزيغُ قلوبٌ كثير.. تُقطَع وتُمنَع وتُخدَع بمظاهرِ زُخرفٍ مِن القولِ وغُرور؛ بمَظاهرِ زائلٍ مِن شؤونِ الدنيا الغَرور؛ يَبقُون فيها ممتلئين بشيءٍ مِن مَسؤوليَّاتِها.. مِن وِزارَاتِها.. مِن تجاراتِها.. مِن رئاساتها.. مِن سُلُطاتِها ..إلى غير ذلك مما قُطع به الأكثرون، وخُدعِ به الأكثرون، وحُرِم به الأكثرون، وكان حجاباً للأكثرينَ فمَرَّت أعمارُهم ما عرفُوا ربَّ العالمين، ولا صَدقُوا مع أرحمِ الراحمين، ولا أنزلُوا مَولاهم منزلةً لائقةً في صُدورِهم وقُلوبِهم وعُقولهم، ولا عرفُوا قدرِ عبدِه محمد، وصَفِيِّهِ أحمد صلى الله عليهِ وسلم، وعظَّموا مَن لم يُعَظِّم ربُّهم تعالى، وأحبَّوا مَن لم يُحِبّ ربُّهم تعالى، وأكبَرُوا مَن لم يُكبِر إلههُم تعالى، فاستحقُّوا أن يغضبَ عليهم وأن يُحِلَّهُم دارَ سخطِه (وَمَن يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوَىٰ) والعياذ بالله تبارك وتعالى، وكل مَن بَلغَته رسالةُ محمدٍ فأبى وتكبَّر فقد هَوى.
ومنهم الذين تتَحرَّكُ نفوسُهم لإيذاءِ المسلمين أو التَّحامُل عليهم بسببٍ مِن الأسبابِ مِن هنا أو مِن هناك، إنما يريدُ الله تبارك وتعالى أن يُقيمَ الحُجَّةَ عليهم، وأن يُذيقَهم هُونَ العذاب، والعياذ بالله تبارك وتعالى (وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْـهُونِ ..)، أردتُم أن تُهِينُوا المؤمنين بي؟!.. أردتُم أن تُهينُوا أتباعَ رسولي؟!، أُهِينكُم أنتم..أنتم عليكمُ الهُون (فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ)، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ ) يُهِينُهم الله ويُذِلُّهم؛ لأنَّه كما قال عنهم في الآية الأخرى: (إِنَّهُ كَانَ فَرِيقٌ مِّنْ عِبَادِي يَقُولُونَ رَبَّنَا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا وَأَنتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ * فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّىٰ أَنسَوْكُمْ ذِكْرِي وَكُنتُم مِّنْهُمْ تَضْحَكُونَ * إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِمَا صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفَائِزُونَ)، اللهم اجعَلنا من الفائزين، وألحِقنا بالفائزين.
ولا يضرُّنا أن يَضحكَ علينا أفرادٌ أو جماعاتٌ مِن هناك أو مِن هناك، ونقول لهم: أنقِذوُا أنفسكَم، إنكم إن أصرَرتُم على ذلك، فإن تَسخرُوا مِنَّا فإنا نسخرُ منكم كما تَسخرُون، (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ ).. نفس النداء حق نوح صاحب السفينة المذكورة في هذه الأيام وكُنَّا فيها، نادى قومَه الذين تكبَّروا وأبَوا إلا أن يَسخرُوا بمَظاهرِ النُّبوَّة والرِّسالة، ومظاهرِ الدِّينِ والتقوى، ومظاهرِ الإنابةِ إلى الله، وقالوا: ما هذا !؟ هذا نبيكم .. هذا النجار !؟ هذا الذي يزاول الخشب والمسامير يدقُّها ويصلِّح السفينة ؟ (وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِّن قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِن تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ) وصدَقتَ يا نوح، غرِقُوا وهَلكُوا في الدنيا وعُذِّبُوا في الآخرةِ بالعذابِ، وإلى اليومِ وهم مُعذَّبُون في البَرازِخ.
كم مضَى مِن وقتِك إلى زمنِنا هذا! القُرون بعد القرون بعد القرون وعذاب الهون مستقبلُهم في يوم يُجمَعُون، ثم في النارِ يدخلُون ويُخَلَّدون، فمَن ذا الذي يسخَر؟! وهذا هو نداءُ الأنبياءِ وأهلِ الحقِّ لمختلَفِ أربابِ الأفكارِ الذينَ يستصغرُون عظيماً عند الله، يستصغرونَ وحياً مِن وحيِ الله، يستصغرُون وليّاً مِن أولياءِ الله، يستصغرون حُكْمَاً مِن أحكامِ الله؛ هذا نداؤنا لهم: إن احتقرتُم هذا فأصررتُم فإنا نسخرُ منكم كما تسخرونَ (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ).
أيُخزَى الذين صدقُوا مع هذا الإلهِ الخالق والمرجع إليه والحكم له، أم تُخزى فئاتُكم وهيئاتُكم ومؤسساتُكم وأفكارُكم وحضاراتُكم؟! (فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَن يَأْتِيهِ عَذَابٌ يُخْزِيهِ وَيَحِلُّ عَلَيْهِ عَذَابٌ مُّقِيمٌ).
إنا نتذكَّرُ تلكَ الحوادث -كما سمعتم الإشارة إليها- قال لنا ربُّنا جل جلاله (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) في سفينة نوح؛ الله يقول حملناكم لأنكم كنتُم في أصلابِ أهل السفينة، لا أحد منكم خارج عنهم ، ما في آباء للمَوجودين ممَّن على ظهرِ الأرض إلا الذين كانوا في السفينة فقط، هم الثمانون الذين كانوا مع سيدِنا نوح، وأي واحد اليوم مِن بنِي آدم على ظهرِ الأرض إما مِن صُلبِ نوح أو واحد من الثمانين الذين معه في السفينة فقط، لا أحد غيرهم، (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ * لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ). وجاء في الخبر أنه صلى الله عليه وسلم أنه لما نزلت الآية قال: {اللهم اجعَلها أذنَ علي} فكانت مِن أوعَى الآذان، وآذانُ الصحابة أوعَى الآذانِ لأخبارِ اللهِ ورسولِه، والأخيار من بعدهم.
يقول تعالى: (لِنَجْعَلَهَا لَكُمْ تَذْكِرَةً وَتَعِيَهَا أُذُنٌ وَاعِيَةٌ)، تعي سِرَّ الحياة، وإدراكَ عظمةِ : لا إله إلا الله، حقِّقنا اللهمَّ بحقائقِها، وأحيِنا عليها وأمِتنا عليها، واحشُرنا مع زمرةِ كُمَّلِ أهلِها يا الله، ثبِّتها في قُلوبِنا واجعَلنا مِن خواصِّ أهلِها عندَك، يا حيُّ يا قيومُ لا تنزِعها عن فؤادٍ مِنَّا، واجعلها آخرَ كلامِنا مِن هذه الدنيا، تُختَمُ بها صحائفُنا ويكونُ آخرَ كلامِنا من الدنيا "لا إله إلا الله محمد رسول الله" صلى الله عليه وسلم ؛ متحقِّقين بحقائقِها .. آمين آمين يا رب العالمين، ويا أكرمَ الأكرمين.
مَشَت تلك السفينة ستةَ أشهر على ظهرِ الأرض وهي فوقَ الماء بين الأرض والسماء، وقد عمَّ الغَرَقُ جميعَ مَن على ظهرِ الأرض، وقال الله : (قُلْنَا احْمِلْ فِيهَا مِن كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ)، ومنها الحيَّاتُ والعقارب، قال سيدنا نوح: "نحملكُم معنا ومَن ذكرنا وسلَّم علينا لا تَلدغُوه" فأخذَ العهدَ والميثاق؛ ولذا قالوا: مَن خافَ مكاناً فيه حيَّات وعقارب فقال (سَلَامٌ عَلَىٰ نُوحٍ فِي الْعَالَمِينَ * إِنَّا كَذَٰلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * إِنَّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُؤْمِنِينَ) لم يمسُّه عقرب ولا حيَّة ولم تقدر عليه.
حمل الحيوانات معه مِن كلِّ زوجين اثنين؛ لأنَّ الأرضَ مَن فيها مِن الأنفس ستهلكُ ويغرَق؛ كلُّ الأنفس التي تغرقُ بالماء وتموتُ بفقدِ هذا الأوكسجين ستنتهي إلا حيوانات البحر في محلِّها، فأخذ مِن جميعِ حيوانات البَرِّ مِن كُلِّ زوجين اثنين وركبُوا معه في السفينة .. وما أعجبَ هذه السفينة تسع مَن، وتسع كم مِن الحيوانات ! وأخذَ مِن كلِّ زوجين اثنَين الذين يتناسلون فقط؛ انتهت فروعُهم.. بقي التناسُل مِن الذين ركبُوا في السفينة؛ حتى حيوانات البَرِّ معنا تشاركُنا في ركوبِ السفينةِ هذه، كانت محمولةً معنا بأمرِ الحقِّ جل جلاله.
قال الله: (حَمَلْنَاكُمْ) ليست السفينة هي التي حملَتنا ؛ هي وسيلةٌ وسبب، لكنَّ اللهَ الذي حملَنا؛ لأنها تجرِي بعينِ الله .. وإلا لا سفينة، ولا مائة سفينة يمكن أن تقابِل هذه المياه المُغرِقة .. مَن يقدر عليها ؟!.
اليوم السفن المصمَّمَة بالتصميمِ القوي تتعرَّضُ للتَّكسير في البحر هذا .. وهذا ما هو بحر، : (فَفَتَحْنَا أَبْوَابَ السَّمَاءِ بِمَاءٍ مُّنْهَمِرٍ * وَفَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُونًا فَالْتَقَى الْمَاءُ عَلَىٰ أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ) لكن السر: قال سبحانه وتعالى: (وَحَمَلْنَاهُ عَلَىٰ ذَاتِ أَلْوَاحٍ وَدُسُرٍ * تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا) حتى جريها وسط هذه المياه، وكيف سلمَت؟ قال (تَجْرِي بِأَعْيُنِنَا جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ) هذا الصابر الذي كذَّبوه واستهزأوا به، وينصحُهم، فيضربونه حتى يُغمَى عليه، وإذا أفاق رجع ينصحُهم، وكلما نصحَهم (جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا) لكنه ثبت.. قال (جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ). الآيات الكبيرة جرَت إكراماً مِن الرحمن لهذا العبدِ الصالح، هذا المنيبُ الخاشع لمَّا صدَق مع ربِّه جل جلاله (جَزَاءً لِّمَن كَانَ كُفِرَ)، وما بقي مِن نسلِ بنِي آدم إلا مَن كان مع أصحاب سفينةِ نوح على نبينا وعليه أفضل الصلاة وأزكى التسليم.
وتوالى ما يُحكى عن الأنبياء وتحقيق الله له في مثل هذه الذكرى وفي مثل هذا اليوم؛ ومنه رَدُّ بصرِ سيدِنا يعقوبَ عليه السلام، ونسألُ الرحمنَ الذي ردَّ بصرَ يعقوبَ لِقُلوبٍ مِن قلوبِ المسلمين والمسلمات والمؤمنين والمؤمنات عَمِيَت بالانخداعِ وراء السَّرابِ ووراءَ التُّرَّهات .. الله يفتح أعينَ قلوبِهم، الله يفتح هذه البصائر مِنَّا وينوِّرُها، يا حيُّ يا قيوم.
وإنَّ سيدَنا يوسفَ عليه السلام أمرَهم أن يُحمَلَ قميصُه (اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هَٰذَا فَأَلْقُوهُ عَلَىٰ وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيرًا) وقال الحق: (فَلَمَّا أَن جَاءَ الْبَشِيرُ أَلْقَاهُ عَلَىٰ وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيرًا) اللهم ما كان مِن عمَى قلوبٍ فانقُلنا منه إلى البصيرةِ يا الله.. وربما أعمَى قلبٍ ظلَّ البارحةَ في العمَى، والجواب الليلة يُمسِي في نور، ويُمسِي في بصيرةٍ منه سبحانه وتعالى .
(قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ) هل تعرف البصائر؟ (بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ..)، يا رب بصِّرنا، (وَمَنْ عَمِيَ..)، ما رضِي يقبلُ النور هذا (فَعَلَيْهَا)، (قَدْ جَاءَكُم بَصَائِرُ مِن رَّبِّكُمْ..) ونِعْمَ البصائر. يقول سبحانه وتعالى (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّقَوْمٍ يُوقِنُونَ)، هذا بصائر ..تعرف البصائر ؟ جمع بصيرة (هَٰذَا بَصَائِرُ لِلنَّاسِ) هذا هو النور.
قال تعالى في بيانِ حقيقةِ هذا العمَى والإبصار: (أَفَمَن يَعْلَمُ أَنَّمَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ الْحَقُّ..) صاحب البصيرة (..كَمَنْ هُوَ أَعْمَىٰ إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ) اللهم اجعَلنا مِن أُولي الألباب، يا كريمُ يا وهَّابُ، يا رحمنُ يا رحيمُ، يا الله.
ومِن هذه البصائر: مسلكُ هؤلاءِ الأكابرِ في طُهْرِ السرائر، ومحبتُهم للمؤمنين عامة وخاصتهم الأكابر خاصَّة، مِن النَّبيِّين والصدِّيقين والشهداء والصالحين وإنزالهم منزلتَهم.
ومِن ذلك جاء في البصيرة مسلكُ أهلِ السنَّة والجماعة، ما يعرفون ضرب الصحابة بسادتنا أهل البيت، ولا ضرب أهل البيت بسادتنا الصحابة، كما لا يعرفون ضربَ نَبيٍّ بنَبيٍّ ولا رسولٍ برسول (لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِّن رُّسُلِهِ).
جاء اليهود يدَّعونَ الإيمانَ بموسى ويكفُرون بعيسى فأكبَّهم الله في النار، جاء النصارى يدَّعون الإيمان بعيسى ويكفرون بمحمد صلى الله عليه وسلم فأكبَّهم الله في النار .. والعياذ بالله تبارك وتعالى، (قُلْ مَن كَانَ عَدُوًّا لِّجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَىٰ قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ * مَن كَانَ عَدُوًّا لله وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَجِبْرِيلَ وَمِيكَالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِّلْكَافِرِينَ).
فكانت البصيرةُ هذا الأدب والمحبة، وهذه الرعاية، والقيام بالأمرِ كما ينبغي، فجاء قَدَمُ أهلِ السنةِ والجماعة.. مَن أوائلِهم ؟ أوائلُهم أبوبكر الصدِّيق وعمرُ بن الخطاب .. أوائلُ أهلِ السنَّة والجماعة عليهم رضوان الله تبارك وتعالى. أوائل أهل السنة والجماعة ما أحد منهم يفسِّر السنةَ والجماعةَ بانتقاصِ أهلِ البيت ولا بِعَدمِ ذكرِ مناقبِهم ولا بعدمِ ذكرِ أحوالهم ؛ ما عرف هذا أبوبكر.. مِن أين السنة ذي جاءت ؟! ما عرف هذا عمر ! ما عرف هذا عثمان ! ومحمد رأسُهم ؛ هو صاحبُ السنَّةِ نفسِها .. هو ذكرَ هؤلاء وهو مجَّدَ هؤلاء .. فكيف تكون السُّنَّةُ عدمَ ذكرِهم ؟! فكيف تكونُ السُّنَّةُ عدمَ تمجيدِهم ؟!
صَحِّحُوا سُنَّتكم يا مُدَّعِي السُّنة بلا بَصيرة. ولا يمكن أن تكونَ المحبةُ الصادقةُ لأهل البيتِ بِبُغضِ أصحابِ صاحبِ البيت ! أصحابِ مُشَرِّفِ البيت !
الشرف نالَه هؤلاء وهؤلاء بواحد؛ ما نالَ سادتُنا الصحابةُ الشرفَ إلا بمحمد وصُحبتِه، ولا نال آلُ البيت الشرفَ إلا بمحمد ونِسْبَتِه ؛ فلا تهونُ نسبتُه ولا تهونُ صحبتُه. ومَن هَوَّن أحدَهما وادَّعى سُنَّةً أو محبَّة فهو الكذاب الكذاب الكذاب عند الله وعند رسوله. لا تَهُوُن نسبتُه ولا تهونُ صحبتُه؛ هو كريمٌ ونسبتُه كريمة، وصحبتُه كريمة، وهو عظيمٌ ونسبتُه عظيمةٌ، وصحبتُه عظيمة، هو رفيعٌ ونسبتُه رفيعة وصحبته رفيعة، وما كانت أمتُه خيرَ الأمم إلا لرِفعتِه وإلا لشرفِه وكرامتِه، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فمن أحبَّه ومَن أرادَ سنَّتَه : ففي هذه المحبة للجميع، وفي هذا التعظيم، وفي هذا الإنزالُ لهؤلاء القوم، وفي تجنُّب موجِبَات الشرِّ والضرِّ والفسادِ والإفسادِ بين عبادِ الله تبارك وتعالى وإثارةِ البغضاءِ وإثارةِ الشَّحناءِ وإثارةِ الحروبِ وإثارةِ التَّقاتُلِ بين المسلمين والعياذ بالله تبارك وتعالى، وهي شؤونٌ مِن فتنٍ حدَّثَ عنها جَدُّ الحسينِ والحَسَن صلى الله عليه وعلى آله، وأمر مَن ينصتُ إليه فيها باعتزالها والبُعدِ عنها. وهو أعلمُ بها وبحالِها وبما يُصلِح لأمته، وأعلم بمرضاة الله جل جلاله وتعالى في علاه.
ثبَّتنا اللهُ على دَربِه، وسقَانا كأسَ حُبِّه وسقانا مِن شُربِه، وأدخِلَنا في دائرتِه مع خاصَّتِه إنه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.
وبالولاءِ وبالمحبةِ المنصُوصِ عليها في القرآن، ولاءُ سادتِنا أهلِ البيت ومودَّتُهم منصوصٌ عليها في القرآن الكريم، تعظيمُ سادتنا الصحابة وولاؤهم منصوصٌ عليه في القرآن الكريم . وهل لنا طريقٌ غير القرآن الكريم ؟! (قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَىٰ)، (إِنَّمَا يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَيُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيرًا)، ويقول جل جلاله: (لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبَايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ مَا فِي قُلُوبِهِمْ)
تريدونني أجي إلى عند من زكَّاهم الله وهم آله أو صحابته لأتكلم عليهم أو تريدونيي أبغض أحدا منهم !! يا هؤلاء من أين جئتم ؟! مِن أين ظهرتم ؟! قوم زكَّاهم ربي في كتابه تريدون الأمة تتفرق، واحد يسب ذا وواحد يسب الثاني !! ايــــه ! مَن لي ولك وشيوخك وكما الأرض ملء شيوخك أن تتجرأ على قومٍ زكَّاهم الرب الأعلى رب العرش العظيم في الكتابِ المُنْزَل على لسان محمد !! قوم زكَّاهم ربي أنا أقدر أتجرأ على أحد منهم ؟! أنا أقدر أبغض أحد منهم ؟ ! ايـــه ..!!
إن كان عندك إيمان بالله إن كان عندك تصديق بوحيِ الله خَلِّ النفاق خَلِّ الكذب .. أَحِب هؤلاء من قلبك، وَوُدّ القرابة، اعرِف قدر الصحابة، أَحِب المؤمنين عامتهم عامة وخاصتهم خاصة، والقَ الله بقلب سليم، وانظر مسلك الخليل إبراهيم: (وَلَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ * يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ)
مَن ذا صاحبُ القلب السليم؟ هل هو الذي يوظِّف قدراتِه وكتاباتِه وحركاتِه في الحياةِ لأجلِ غرضِ سلطةٍ أو غيرها؟ يسب هؤلاء ، ويتكلم على هؤلاء ، ويخالِف بين هؤلاء .. أهذا قلب سليم؟! أشهد بالله ليس بقلبٍ سليم، إن مات على هذا الحال والله ليهونَّنَ يوم القيامة، ليُهانُ يوم القيامة إن مات على هذا الحال. صَفِّ قلبَك قبلَ أن تلقى ربَّك جل جلاله، وهو الأعلمُ بالسرائر (يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لَا تَخْفَىٰ مِنكُمْ خَافِيَةٌ) يقولُ جل جلاله وتعالى في علاه.
فالله يرزقنا محبةَ أهلِ البيت، ومحبةَ الصحابةِ الأكرمين، ومحبةَ المؤمنين عامذَة وخاصَّتَهم خاصَّة، ويخلِّصنا مِن الشيطانِ وجُندِه مِن الإنس والجن، الذين يدعونَنا للتباغُض وللتَّباعد وللتَّحاسد وللتحاقُد ولحَملِ بعضِنا على بعض، وسَكِرُوا بمحبَّةِ الدينارِ والدِّرهم أو محبة الدنيا وسُلطتها !. دفعُ الله شرَّهم عنَّا وعن الأمَّة، ونشرَ في الأمةِ النورَ والهداية.
الله يجعله عامَ نورٍ مِن أنوار القلوب، يُنوِّر بها القلوبَ، ويُنَقِّيها عن هذا الشوب. يا ربِّ بعد العَمى بصيرة، يا ربِّ ثبِّتِ الأقدامَ على أقَوَمِ سِيرة، يا رب اجعلنا عيونَنا ترى الوجوهَ المنيرة، وتُحشر في زمرِة محمد وأهلِ المراتب الكبيرة. يا حيُّ يا قيوم شَرِّف عيونَنا برؤيةِ السيِّدِ المعصُوم، ولا تُبَاعِد بينَنا وبينَه يا الله، نسألكَ أن لا تُبقِي في الحاضرين ولا في السامعين ولا في أهل بيوتِهم قلباً إلا نوَّرتَه مِن العمى، وبصَّرتَه بعد ذلك العمى، وهديتَه إليك يا كريمَ الكُرَماء يا الله.. يا الله .. يا الله
وثبِّتنَا على ما تُحب، واجعَلنا في من تُحب، واجعله عاماً مِن أَبْرَكِ الأعوامِ على جميعِ أهلِ الإسلام ظاهراً وباطناً، بل على أهل الحياة وأهل البرازخ وأهلِ الأرضِ وأهلِ السماء، اللهم اجعله مِن خيرِ الأعوام، مِن أنورِ الأعوام، مِن أبركِ الأعوام، مِن أشرف الأعوام، ثبِّتنا فيه على الاستقامةِ مع مَن استقام، يا ذا الجلال والإكرام يا ذا الطَّولِ والإنعام، بارِك لنا في أعمارِنا وارزقنا صرفَها في خيرِ ما يُرضيكَ عنا وأحبَّها إليك.. يا الله وقَفنا على بابك ولذنا بأعتابك..
انظر إلى المؤمنين في فرنسا، وانظر إلى المؤمنين في أوروبا، وانظر إلى المؤمنين في أمريكا، وانظر إلى المؤمنين في بلادِ العرب وجزيرةِ العرب، وانظر إلى المؤمنين في أفريقيا، وانظر إلى المؤمنين في أستراليا، وانظرِ اللهم إلى المؤمنين في جميعِ قاراتِ الأرض طولِها والعرض نظرة تزيلُ العنا
نظرة تُزِيلُ العَنَا عَنَّا وتُدْنِي المُنَى ** مِنَّا وكُلَّ الهَنا نُعطَاهُ في كُلِّ حِين
نظرة تزيلُ العمى، نظرة تزيلُ الدَّرَن، نظرة تزيلُ الوَهَن، نظرة تزيلُ النفاق، نظرة تزيلُ البلاء، نظرة تزيلُ الشر، نظرة تزيلُ الضرر .. يا ناظر يا كريم، يا رحمنُ يا رحيم، يا حيُّ يا قيوم يا الله.
يبيتُ كلُّ فردٍ مِن أهل مجمعِنا ومَن يسمعُنا منظوراً إليه بعينِك، بعينِك.. بعينِك.. بعينك ؛ عينِ رحمتك، عينِ رأفتِك، عينِ لطفك، عينِ رضاك، عينِ جودِك، عينِ إحسانِك، يا الله .. يا الله
وإذا قُبِلَت فيكَ الدعوة..فسنة مباركة بحق وبصدق؛ سنتُك مباركة بحقيقة. الله يقبل دعانا ولا يُخَيِّب رجانا.
ساعة من ساعات السُّقيا يبارك لنا في كريم الُّلقيَا في اجتماع أهل الأرض بأهل السماء وأهل الدنيا بأهل البرزخ، الحمد لله على ذلك. وفي الأصلاب مَن سيأتي، قال لنا (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ) وخطاب لأصلاب الحاضرين والسامعين : " إنا أحضرناكم في الغيوثِ الهَامِعَة ، إنَّا أحضرناكم في الأنوارِ اللَّامِعَة".
لك الحمدً يا رب أتمِمِ النعمة، أتمِمِ النعمة، ادفعِ النِّقمة، عجِّل بتفريجِ كروبِ المسلمين، اجعل كلَّ واحد مِنَّا سبباً للفرج، ورفع الضيق والحرج، سبباً لنشرِ الهدى والنور والأخوة والمحبة والصدق معك يا كريم يا كريم، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
الله الله يا الله لنا بالقبول
للاستماع إلى المحاضرة