11-2018
28

خطبة مكتوبة بعنوان: التذكُّرات التي دعت الشريعة إليها أمام الحوادث ومن أعظمها المولد النبوي

خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع آل البيت، في مدينة صلالة، سلطنة عمان، 15 ربيع أول 1440هـ بعنوان:

التذكُّرات التي دعت الشريعة إليها أمام الحوادث ومن أعظمها المولد النبوي

 

الخطبة الأولى

       الحمدُ للهِ المَلكِ الفاطرِ البَديعِ العليِّ القديرِ البصيرِ السميعِ، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا الله وحدَه لا شريكَ له، منه المبتدأ وإليه مرجع جميع خَلْقِهِ الجميع، وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا وقرة أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبده ورسوله المصطفى المجتبى الطاهر الشفيع. اللهم صَلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المجتبى المصطفى ذي القدرِ الرَّفيعِ والجاهِ الوَسيعِ، وعلى آله وأصحابِه ومَن سَارَ في سَبيلِهِ وصَوابِهِ واهتدى بهديهِ واقتدى بِهِ، وعلى آبائه وإخوانه من الأنبياء والمرسلين وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكتِكَ المقرَّبين، وجميع عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

        أما بعد .. عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيايَ بتقوى الله.. فاتَّقُوا اللهَ عبادَ الله، وأحسِنُوا يرحمْكُم الله ( إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ)

       وإنَّ من شؤونِ التقوى، بل مِن حقائق التقوى: أن تُقابَلَ الذُّكرَيَاتُ والمناسباتُ بما يليقُ بالعبدِ المؤمنِ بمقابلتِها، وأن يتذكَّرَ فيها ما أوحاهُ إليه كتابُ اللهِ وبلاغُ رسولِه المصطفى صلى الله عليه وسلم ؛ أن يتَذَكَّرَهُ في مثل تلك المناسبة. فإنَّ مِن عظيمِ ما حمَلته لنا شريعةُ الله، وجاء إلينا به عبدُ الله ومصطفاه محمدُ بن عبد الله صلى الله عليه وسلم : أن نتذَكَّرَ أمام كُلِّ شيء وأمام كلِّ مناسبة وأمامَ كلِّ حادثةٍ عَظَمَةَ الخالقِ الذي خلَق وشؤونَ المَرجعِ إليه، وما يناسبُ تلك الحادثةَ مِن أخبارِ المآلِ والآخرة.

 ولقد علَّمنا أدعيةً عندما ندخلُ في المنزل، أو نخرج تليقُ بالمؤمنِ أن يتذكَّرَ منها هذه الشؤون، وعند المنام، وعند القيام من المنام. فتجدُ المؤمنَ المُسْتَنَّ بسُنَّة رسولِ الله كلما اضطجعَ لينام تذكَّرَ ضجعةً مُقبلةً عليه في القبر، وتذكَّر بتلك الضجعةِ قياماً وحشر، يقول "إن أمسكتَ نفسي فارحَمها، وإن أرسلتَها فاحفظها بما تحفظ به عبادَك الصالحين" يقول: "باسمك ربي وضعتُ جنبي، وباسمِك أرفعُه". ما أعجب ذلك " باسمك ربي وضعت جنبي" أنا العبدُ المذنب المقصر في إيماني وإسلامي تتحوَّلُ حركاتي وأحوالي في الحياة إلى مرفوعةٍ باسم "الله" وقائمة على اسم "الله" ومنسوبة إلى "الرحمن" تعالى في علاه " باسمِك ربي وضعت جنبي، وباسمك ارفعه".

مَن وضعَ جنبَه باسم نفسِهِ أو راحتِها ، ومَن وضع جنبه باسم السَّعيِ والكدِّ في تحصيلِ ملاذِ الدنيا ومُتعِها ، ومَن وضعَ جنبه ليتنَشَّطَ لِيَخدُمَ بعد ذلك طائفةً أو جماعةً أو حزباً لغرضٍ من الأغراض ..  فأنا المؤمنُ أضعُ جنبِي باسمِك يا رب " باسمك ربي وضعت جنبي وباسمك ارفعه فاغفر لي ذنبي".

 وكذلك في المشي إلى المسجد وكذلك عند دخول المسجد وطلب الرحمة بعد الحمد لله والصلاة على سيدِنا رسول الله، وعند الخروج في طلبِ الاستعاذة من الشيطان، وعند هبوبِ الرياح ، وعندما نرى البرقَ في السماء سبحان الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفًا وَطَمَعًا) ، وعند ما ينظر الإنسان وجهه في مرآةٍ تبدو فيها صورته "اللهم كما حَسَّنتَ خَلقي فحَسِّن خُلُقي" . تذكرة وتبصرة في كُلِّ حدَث وفي كُلِّ شأن وفي كُلِّ حركةٍ وفي كُلِّ سكونٍ .

         فإذا مرَّت ذُكْرَيَاتُ الأنبياءِ وأخبارِهم، والحق تعالى يقولُ: (لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ) ويقول جل جلاله: (وَكُلا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ) فهل تمرُّ مرورَ الكرام ؟ إنها لأيامُ الذكرى وأيام الاعتبارِ والادِّكارِ، وبها تثبيتُ الفؤاد. فما تظن بعد ذلك بحوادثِ سيدِ الأنبياء وخاتمِ الأنبياء ؟ نبيك الذي شُرِّفتَ به . فإن كانت الأمة في الشرق والغرب يتذكرون في هذه الأيام حادثةَ مولد المصطفى صلى الله عليه وسلم وبروزه إلى هذا العالم كيف لا يحملُهم هذا على نظرٍ فاحصٍ عميقٍ في شؤونِ عظمة الرسالة ومعاني الأنوار التي سطعت بسطوعِ مَن أحسنَ الدلالة ؟ وعجائب في الكونِ اهتزَّ لها الكونُ عُلْواً وسُفْلى مشيرةً إلى أنَّ الذي وُلِدَ ارتفع له لدى الحقِّ منزلاً وعَلا له مَحَلَّا صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

        ولقد ذَكَر هذه الحادثةَ صلى الله عليه وسلم بما ينبغي أن تتذكَّر الأمةُ عندها وقال: { وأنا رؤيا أمي التي رأت ، وكذلك أمهات النبيين يرين}. وفي هذه العبارة إشارة إلى تعظيم أمهات الأنبياء، وأنَّ لهُنَّ الخصوصيات بمرآتي مخصوصة ذات شأن وذات منزلة لدى الرحمن ، يقول في حديثه الصحيح :{ وأنا أمي التي رأت، وكذلك أمهات الأنبياء يرين، وإن أمي رأت حين وضعتني نوراً} .. فماذا يذكر عن ولادته صلى الله عليه وسلم ؟ ماذا يذكر عن  مولده صلى الله عليه وسلم ؟  : نورا أضاءت له قصورُ الشام . تطلع الشمس كل يوم، فهل تُرَى قصور الشام من مكة ؟ لكن نور "محمدٍ" قَرَّبَ البعيد، ونور "محمدٍ" فَتَك الحُجُب حتى رأت أمُّه قصور بصرى بأرض الشام وهي في بيتها في مكة المكرمة .. إنه نور ما أعظمه، إنه نور ما أبهاه ؛ بهذا المعنى ذكر النبي مولده ، بهذا المعنى ذكر النبي ولادتَه.

ولقد قال صلى الله عليه وسلم في ما رواه مسلم في صحيحه وقد سُئل عن يوم الإثنين : {ذاك يومٌ وُلِدتُ فيه}.  ولنِعْمَ الصوم فيه لِتَتَشَرَّف الأيام بالحوادث فيها وأنا وُلِدتُ في ذلك اليوم .. فنِعْمَ العبادة – صومٌ وغيره- تقوم به في ذلك اليوم يوم الإثنين، وهو يوم تُعرض فيه الأعمال على الله، ولكنَّ النبي في هذا الحديث ذكرَ حادثة المولد وقال: { ذاك يوم وُلدت فيه} .

 أوعَى عن رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الحقائق مَن أخذ يتشكَّكُ أذْكُر أم لا أذْكُر ؟ أحتفل أم لا أحتفل ؟ أُصَلِّ عليه أم لا أصلي ؟

يا هذا ! يا هذا ! يا هذا ! من أين تَفْقَه ؟ من أين تعرف ؟ من أين تأخذ دينَك ؟! من أين تأخذ فكرَك ؟!

يا هذا : إن كان على ظهرِ الأرض أحدٌ أحب إليك منه فلم تتحقق بالإيمان فَقُم وحقِّق نفسك بالإيمان.

يا هذا : وأيُّ عقلٍ يوجد في الأرض يقول إنَّ مَن تحبه تشمئزُّ من ذكر شيء من أخباره ! أو ذكر شيء من أحواله ؟! هل يمكن ؟!  . هذا الذي لا يمكن !

من أين هذه الشكوك ؟ من أين هذه الغرائب؟ من أين هذه النقائض ؟ من أين هذه العجائب ؟!

قَطعاً لو كان غير إنسان أحببتَه بقدر حبِّك لا تكره أن تذكر أيامه ولا لياليه ولا حوادثه ولو حيوان !  قطعاً يُقِرُّ بها كُلُّ عاقل على ظهر الأرض .. أفتأتي إلى عند مَن فرض الله عليك أن لا تُحِبَّ في الوجود مثله فتقول أذكره أم ما أذكره ؟ أذكر مولده، أو ما أذكر ؟ أذكر قصة ولادته أو ما أذكر ؟ أذكر نشأته أو ما أذكر ؟ أحضر مع مَن يذكرون أخلاقَه  أو ما أحضر ؟!

الله أكبر ! من أين جئت بهذا ؟!

أتحبه أو لا تحبه ؟!

وعزِّةِ رَبِّ العالمين لا يجدُ المُحِبُّ إلا فَرَحاً بذكرِ مَن يحبُّ في مختلفِ أحوالِه وشؤونِه ، بل انشراحاً واستئناساً، وكذلك كان حال الصحابة، وكذلك كان حال التابعين. ولقد قال القائل منهم مخاطبًا زينَ الوجود : " إني لأذكرك يا رسول الله وأنا بعيدٌ عنك فإذا ذكرتك صرتُ كالمجنون". أكاد أغيب عن شعوري من شدة شوقي، من شدة حبي لك " فإذا ذكرتك صرت كالمجنون" ولم يسمع النبي منه هذا الكلام فيقول بالغتَ ولا زدت ولا خرجت عن حد الإيمان والواجب والسنة !! صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

ويقول له ثوبان "وإني لأذكرك وأنا بين أهلي وولدي فلا يَقِرُّ لي قرارٌ ولا أصبر حتى آتي وأنظر إلى وجهِك" صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. كذلك يعيش المؤمنين.

    احذر أن يتسَرَّبَ إلى قلبِك محبة نفسك أو ولدك أو أهلك أو مالك أو شركتك أو بلادك أو قبيلتك أو أحدا في الأرض والسماء مِن الخَلْقِ قبلَ محبة " محمد" حاذر على قلبك ، وليكن هو الأحب ، ولتكن أشدَّ حبّاً له . وضرورةً إذا كان الأمر كذلك أنت المستبشر بذكرِه وأنت المُكثِر بذكره وأنت المتعلق القلب بذكر أخباره وسِيَرِهِ وبعثته ونشأته صلى الله عليه وسلم ، ثم أنت المتعلِّق بمتابعتِه، والخائف أن تفعل ما لا يُرضيه أو تقول ما لا يرضيه، أو تتعامل بما لا يرضيه ، وأن تفوتك الدنيا بأسرِها أهونُ عليك مِن أن تفوتَك سنةٌ مِن سننه، أهون عليك مِن أن تفوتك متابعةٌ له .. فكيف بمخالفته بأي أمر وبأي غرض نفسيٍّ أو ماليٍّ أو دُنيويٍّ أو اعتباريٍّ عند الخلقِ أو اجتماعيا أو غير ذلك (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ)

(إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ)  لا يُقَدِّمون على رضى الرحمن وعبده محمد شيء ، قبل كل شيء رضى الله ورضى الرسول .. قبل رضى الأصحاب والأصدقاء والشركات والمؤسسات والشرق والغرب والجنوب والشمال : رضى "محمد" رضى" رب محمد" (وَاللَّهُ وَرَسُولُهُ أَحَقُّ أَن يُرْضُوهُ إِن كَانُوا مُؤْمِنِينَ) احذر أن تُرضيَ نفسك بغضبِ الله أو بغضبِ رسوله تخسَر وتخرج عن حقائق الإيمان.

         أيها المؤمنون: وبحقائقِ الإيمانِ هذه تُفرَّجُ الكُرُبَات، وتُدفَع الآفات، وتحصُل النُّصُرَات مِن ربِّ الأرض والسماوات، يقول سبحانه وتعالى: (وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ) وكذلك نجاة المؤمنين، فهو الناصر والمُنَجِّي للمؤمنين على قدرِ إيمانهم . وذلك يُقِيمُكَ على حقيقةٍ تأخذها مِن قصةِ مولدِ النبي محمد ؛ لقد ولد في أحلكِ الظروف في العالم ؛ الظلم منتشر ، الفساد منتشر ، الطغيان منتشر ، الحضارات الكبرى الموجودة في ذلك العالم باسطةٌ يدَ ظُلمِها على الناس وما كانت تعد أصنافا -ومنهم العرب في هذه البلدة- إلا كالعبيد المستسخرين، لا قدرَ لهم ، وبينهم البين المرأة في غاية الظلم والامتهان، والضعيف -امرأةً أو رجلا- في غاية الذِّلَّةِ والاحتقار، مأخوذةٌ أموالُهُ، مأخوذةٌ حقوقُهُ، في شرق الأرض وغربها. وما بقي إلا أفرادٌ وحُثالاتٌ وبعض أعرافٍ تَمُتُّ إلى الفطرةِ السليمةِ بصلةٍ أو بقايا آثارِ الأنبياء؛ لكن الأمر السائد مِن الفسادِ والظلم والطغيانِ والشَرِّ والعُدوانِ هو الذي كان عليه وجهُ العالَمِ وقتَ ولادةِ محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ، فما كان لما هو أشد في حالةِ الأرض إلا أن يأتيَ الأجود إلا أن يأتيَ الأمجد إلا أن يأتي الأعظم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، فكان لأشدِّ ما وقع في الأرض مِن فسادٍ وطغيانٍ قال الله عنه في كتابه (وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ)

سقطت القِيَم، وسقطت الأخلاقُ عند عامةِ خلق الله تبارك وتعالى في شرقِ الأرض وغربِها في تلك الأيام، فجاء خيرُ الأنام بالنور والإيمان واليقين، وجاء خيرُ الأنامِ بالعدلِ والبِرِّ والإنصافِ، وجاء خيرُ الأنامِ بالإنقاذِ والعلاجِ، وإخراج الناسِ من الظلماتِ إلى النور صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلَّم، فأشرق نورُ الله وشعشع في أرض الله ، وشيئا فشيئا حتى عمَّ نواحي في المشارق والمغرب ، ولم يزل يَمتَدُّ مِن ذلك اليوم إلى أيامِنا هذه ، ولن تمرَّ الأيامُ حتى لا يبقى بيتٌ على ظهر الأرضِ إلا دخلَه دين هذا النبيِّ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

        فتتعلَّم من هذا المَوْلِدِ : أن لا يأسَ ولا قُنوطَ، وأن تكون ذا قوةٍ أمام الشدائدِ وأمام الانهيار في أوضاعِ الناس أو أحوالهم كائنةً ما كانت، وأنَّك بالإيمان وأنَّك باليقين وأنَّك بالصدق مع أقدر القادرين تُحَوَّل لك الأحوال.  فأمَّا في ذاتِكَ ونفسِك وفي أسرتك وما حواليك فالأمر قريبٌ وسهلٌ ويسيرٌ، وأما عند طغيانِ الفِتَنِ فيما يكون في شأن العامَّةِ من الأمة فقد أُمِرتَ ببيانٍ نبويٍّ واضحٍ : { دَع عنك أمرَ العامَّة، وعليك بخاصَّةِ نفسك}.  ومعنى خاصَّة نفسك : كل ما تمكَّنت أن تُقيمَه على الوجه المرضيِّ في نفسِك أو أهلِك أو ولدك أو أصحابك أو سفرك أو تجارتك أو زراعتك أو معاملتك وما إلى ذلك، ومنه العناية بما تحتاج إليه استعانةً على القيامِ بأمرِ الله، مِن زرعٍ أو تربيةِ مواشٍ وما إلى ذلك.  ويقول في النَّصِّ عند انتشار الفتن بين الناس: { فمن كان له أرض فليلحَق بأرضه وليَزرعها ومَن كان له غنمٌ فليَلحق بغنمِه}.

 وهكذا يبين صلى الله عليه وسلم أنَّ شغلَ الإنسان بالخاصة وخروجه من معمَعة بلايا العامة التي يتحوَّلُ فيها إلى سوءٍ من الأسواء ومشكلةٍ من مشكلات الواقع محسوباً على فئةٍ ضِدَّ فئةٍ ومع جماعة ضد جماعة وما إلى ذلك، فيصير الواحد من جملة المشاكل بين الناس وربما استثمر ذلك العدوُّ، وربما استثمر ذلك البعيد ؛ فلذلك أرشدَ إلى هذا السَّدادِ صلى الله عليه وسلم.  فإذا قمتَ به على الوجه المرضي أصلح الله شأنَك وأهلَك وأسرتَك مهما كانت الظروف في أي زمان كنت، في أي قرنٍ كنت، بل في أي مكانٍ كنت .. إذا أحسنتَ النظرَ فيما أُمِرتَ من قِبَل الحقِّ ورسوله صلى الله عليه وسلم.

ولقد ضرب الله مثلا للذين آمنوا امرأتين، وذكر مكانين وموطنين ؛ ذكر مكاناً هو بيت المقدس ومحيط وبيئة الأنبياء والصديقين والصالحين، وآخر هو قصر فرعون ومحل الطغيان ومحل الكفر، ولكن الإيمان نشأ هناك كما نشأ هناك (وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ).  فهذه بين أيدي الأنبياء وفي بيت المقدس وهذه في قصرِ فرعون الطاغية المتجرِّي، ولكن قلب هذه وقلب هذه مع الربِّ مُقَلِّبِ القلوب، فَصَحَّ لهم الإيمان، وكانوا مضربَ المثل في القرآن للذين آمنوا. فكذلك أنت أيها المؤمن إذا صدقتَ مع الإله الحق تكون على المنهج السَّوَى والهدى في أي زمان كنت وأمام أيِّ فتنٍ كنت ؛ فإن الصادق مع الرحمن ينجيه من الفتن ما ظهر منها وما بطن، وهو القائل صلى الله عليه وسلم { مَن استشرفَ لها استشرفَت له} ومَن نأى عنها كان في حفظِ الله تعالى وعنايته.

       اللهم أدِم لنا الأمن والطمأنينة وزدنا إيماناً ويقينا، وأصلح شؤوننا سرا وعلنا، وانظر إلى المؤمنين نظرةً تدفع بها البلايا والرزايا عنهم ظاهراً وباطناً يا حيُّ يا قيوم. وفي ذكرى ميلادِ نبيِّك اجعل اللهم توالدَ الأنوار في قلوبِ المؤمنين تتزايد بمعاني إنابةٍ إليك وخشيةٍ منك وتعظيمٍ لأمرِك وثقةٍ بك وبقُدرتك يا أقدرَ القادرين ويا أرحم الراحمين.

     والله يقول وقولُه الحقُّ المبين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ)

     وقال تبارك وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاءٌ لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ *  قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ )

(قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَٰلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِّمَّا يَجْمَعُونَ)

( يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءَكُم بُرْهَانٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَأَنزَلْنَا إِلَيْكُمْ نُورًا مُّبِينًا * فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَاعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِّنْهُ وَفَضْلٍ وَيَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِرَاطًا مُّسْتَقِيمًا )

       بارَكَ الله لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيِه وعذابِه الأليم.

       أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفرُوه إنه هو الغَفورُ الرَّحيم.

 

الخطبة الثانية

          الحمدُ للهِ القادرِ على كُلِّ شيءٍ العليمِ بكُلِّ شيءٍ (الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ)، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له (يَعْلَمُ مَا تُسِرُّونَ وَمَا تُعْلِنُونَ ) له الملك وله الحمدُ يُحيي ويميت وهو حيٌّ لا يموت، بيده الخير وهو على كل شيء قدير (إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَن يَقُولَ لَهُ كُن فَيَكُونُ)

 وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا وقرة أعينَنا ونور قلوبنا محمداً عبدُه ورسوله الأمين المأمون. اللهم صَلِّ وسلم وبارك وكرِّم على عبدك المجتبى المصطفى سيدِنا محمد الذي بعثتَه رحمةً للعالمين، وعلى آله الطاهرين وأصحابه الغُرِّ المَيَامين، وعلى مَن تَبِعَهم بالصدق والإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وصحبهم أجمعين، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.

       أما بعد عباد الله : فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى .. فاتقوا اللهَ يا عبادَ الله، وأحسِنوا يرحمكم الله (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).

      إنَّ من تقوى الله أن تتذكرَ في كل جمعةٍ أنَّ في مثلِها تقوم الساعة وأنه يأتي يوم الجَمْع وأنك لاقٍ ربك، وبذلك كان يقرأ صلى الله عليه وسلم في صبح الجمعة "ألم السجدة" ويقرأ (هَلْ أَتَىٰ عَلَى الْإِنسَانِ حِينٌ مِّنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُن شَيْئًا مَّذْكُورًا). وقد ذكَّرنا صلى الله عليه وسلم فيما جاء في حديثِه أنَّ يومَ الجمعة يومٌ خُلِقَ فيه آدم؛  فجعل لنا من الذُّكْرِيَاتِ في يوم الجمعة أن نتذكَّرَ خلقَ أبنيا آدم على أبينا وعليه أفضل الصلاة والسلام. وإنَّ في مثل هذا الشهر وفي يوم الإثنين ولد سيدُ المرسلين وسيد بني آدم "محمد بن عبد الله" صلى الله عليه وسلم . ألا إنَّ مِن تقوى الله أن نقابلَ هذه الذِّكرى بانبعاثِ تعظيمٍ لله ولرسوله وزيادةِ محبةٍ وحرصٍ على الاقتداء والاهتداء والانتهاج في نهج من بُعِثَ بالهدى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

     أيها المؤمنون بالله: فلنَعلَم عظمةَ هذه البعثة وما جاء في هذا المولدِ والنشأة، كما نتذكرُ أنَّ قال الرحمنَ لنا في وقت انتشار ظلمٍ كثيرٍ في الناس واستضعاف في بعض الخلق قال عنه تعالى (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءَهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءَهُمْ ۚ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ * وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الْوَارِثِينَ * وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ)  فما الذي حصل؟ ما قامت معسكرات ولا أُعِدَّت خِطَطاً عسكرية (وَأَوْحَيْنَا إِلَىٰ أُمِّ مُوسَىٰ أَنْ أَرْضِعِيهِ ۖ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي ۖ إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ) وما مرَّت السنواتُ حتى كان هذا الرضيعُ الذي تربَّى في قصرِ فرعون رسولٌ مِن عند الرحمن يَهُزُّ عرش الطغيان، ويَدُكُّ عرشَ الظلمِ بأمرِ الحقِّ تبارك وتعالى (قَالَ لَا تَخَافَا ۖ إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَىٰ *  فَأْتِيَاهُ فَقُولَا إِنَّا رَسُولَا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنَا بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَا تُعَذِّبْهُمْ ۖ قَدْ جِئْنَاكَ بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكَ ۖ وَالسَّلَامُ عَلَىٰ مَنِ اتَّبَعَ الْهُدَىٰ).

      كذلك كان ميلادُ محمدٍ، فأشرقت الأنوار ونحن فيها إلى اليوم ، إن قال العباس عمُّه فيها: 

وأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أشرَقَتِ ** الأَرْضُ ونَارَت بِنُورِكَ الأُفُقُ

فَنَحْنُ في ذلك الضِّيَاءِ وذلك ** النُّوِر وَسُبل الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ

صَدَقتَ يا عبَّاس، ونحن بعد الألف وأربع مائة سنة نقول قولَك هذا ؛ أنت قلت هذا القول في السنة التاسعة من الهجرة وهاكَ إيَّاه مُرَدَّدَاً ومُصَدَّقَاً كما قلتَه بعد مرور ألفٍ وأربع مائةٍ واحدى وثلاثين سنة على قولك هذا .. قلتَه في السنة التاسعة ونقوله في السنة الأربعين بعد الأربع مائة والألف .. نقولُ :

وأَنْتَ لَمَّا وُلِدْتَ أشرَقَتِ ** الأَرْضُ ونَارَت بِنُورِكَ الأُفُقُ

فَنَحْنُ في ذلك الضِّيَاءِ وذلك ** النُّوِر وَسُبل الرَّشَادِ نَخْتَرِقُ

حَوَّلَ الرُّعَاعَ وحوَّل المُتقاتلين المُتدابرين إلى صادقين في الأخوة مضربَ مثَلٍ في التقوى والأدب والمحبة، وتحوَّلوا إلى سادة وقادة وأئمة لعباد الله في الشرق والغرب على يدِ محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم .

       اهتدِ بهديِه ترقَى ، وتنالوا حقائق تلك المحبة.

       وخَصَّ سادتنا الأنصار بنظرِه وتربيتِه، حتى جاءنا في الصحيح عنه أنهم في آخرِ عمره صلى الله عليه وسلم لما وَزَّعَ الغنائمَ التي أخذَها من حُنين على قبائلَ مِن العرب وعلى المؤلَّفة قلوبهم من المشركين، فقال بعض شباب الأنصار: سيوفنا تقطر من دمائهم ويعطيهم الغنائم ويدعُنا.. إن هذا لعجب.  ونمى سعد بن عبادة إلى رسول الله ما قال شبابهم ، قال: " وما تقول أنت؟": قال : أنا واحد من قومي يا رسول الله. قال: " فاجمعهم" . فجمَعهم وخرج إليهم صلى الله عليه وسلم : " أفيكم غيركم ؟" قالوا : لا، إلا ابن أخت لنا. قال : { ابن أخت القوم منهم .. يا معشر الأنصار ألم آتكم ضُلَّالاً فهداكم اللهُ بي ؟ ألم آتكم متفرِّقين فجمعكم اللهُ بي ؟ ألم آتِكم عالَة فأغناكم الله بي ؟} كل ذلك يقولون: نعم المَنُّ لله ولرسوله يا رسول الله .  قال : "أجيبوني؟". قالوا: بِمَ نُجِيب والمَنُّ لله ورسوله! قال :{ أما أنكم لو شئتم لقلتُم فصَدَقتُم وصُدِّقتُم .. جئتنا طريداً فآويناك، وجئتنا مخذولا فنصرناك، وجئتنا عائلا فأغنيناك ؟} . قالوا : لا يا رسول الله بل المنُّ لله ولرسوله. قال :{  يا معشر الأنصار .. إن قريشاً حديث عهدٍ بجاهليةٍ وشركٍ، وإني تألَّفتُهم بهذه اللُّعاعة ، أتحزنون على هذه الُّلعَاعة ؟! تألفتُ قلوب أقوام ووكلتُكم لِما أعلَم من إيمانِكم وصدقِكم؟!  يا معشرَ الأنصار أما ترضونَ أن يرجعَ الناسُ بالشاه والبعير إلى ديارهم وتنقلبون أنتم برسول الله إلى رحالِكم تحوزونَه إليكم ؟  فوالله لمَا تنقلبون إليه خيرٌ مما ينقلبون به.  معشر الأنصار: المحيا محياكم والممات مماتُكم، لو سَلَكَ الناس شِعْبَاً وسَلَكت الأنصار شِعْبَاً لسَلَكْتُ شِعْبَ الأنصار،  ولولا الهجرةُ لكنتُ اِمرءاً من الأنصار. اللهم اغفر وارحم الأنصار وأبناء الأنصار وأبناء أبناء الأنصار وموالِيَ الأنصار وقرابة الأنصار} . فبكوا حتى اخضلَّت لحاؤهم وقالوا : رضينا بالله ورسوله قسما . قال: { أما أنكم ستلقون بعدي أثرة شديدة فاصبروا حتى تلقوني على الحوض فإني منتظركم } صلى الله عليه وسلم.

وأكملَ تربية هؤلاء وهو يقول لهم { الناس دِثَار والأنصار شِعَار} { الأنصار شعاري والناس دِثَاري } الشِّعَار: الذي يلي الجسدَ مِن الثوب. والدِّثَار: الثوب فوق الثوب. أنتم أخصُّ الناس بي وأقربُ الناس إلي ، ونعم ما امتلأت تلك القلوب مِن المحبة والإيمان.

 رَبِّ أهلك وأبناءك على مثل هذا المعنى وشَوِّقهُم إلى القرب مِن هذا الجناب الأسنى.

      اللهم املأ قلوبَنا بالإيمان واليقين، واجعلنا في الهداة والمهتدين، واجعل لنا من تقواك في ذكرى ميلادِ نبيِّك ما نمتلأ به إيمانا ومحبةً وثقةً بك وبوعدِك واتباعاً لسيدِ الأحبة برحمتِك يا أرحم الراحمين.

وأكثِرُوا الصلاةَ والسلام عليه فإن أولاكم به يوم القيامة أكثرُكم عليه صلاة، وإن أكثركُم عليه صلاة أحاسنُكم أخلاقا، ولقد قال : {إنّ مِن أحبِّكم إليَّ وأقربِكم مني مجلساً يومَ القيامة أحاسنُكم أخلاقا ، وإن مِن أبغضِكم إليَّ مساوئكم أخلاقا الثرثارون والمتشدقون والمتفيهقون}. وقال في حديثه الآخر : { إنَّ مِن أحبِّكم إلى الله أحاسنُكم أخلاقا الموطَّؤون أكنافا الذين يألَفُونَ ويؤلَفُون، وإنَّ مِن أبغضِكم إلى الله جل جلاله الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفْسِدُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّةِ الْبَاغُونَ لِلْبُرَآءِ الْعَنَتَ } والعياذ بالله تعالى.

        الَّلهُمَّ ثَبِّتنا على دربِهِ واسلُك بنا في سبيلِهِ، وارزقنا كثرة الصلاة والسلام عليه ،فلقد أمرتَنا بأمرٍ بعد أن بدأتَ بنفسك وثَنَّيتَ بالملائكة وقلت مُخبراً وآمراً تكريما: ( إِنَّ اللَّهَ وَمَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا)

       اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المجتبى المختارِ سيدِنا محمدٍ، وعلى الخليفةِ مِن بعده المختار، وصاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤازِرِ رسولِ الله في حالَيِ السَّعةِ والضيق؛ خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكرٍ الصديق.

وعلى النَّاطِقِ بالصواب حليفِ المحراب، الذي نشر العدلَ في الآفاق فاشتهَر؛ أميرِ المؤمنين سيدِنا أبي حفصٍ الفاروقِ عمر.

وعلى النَّاصِحِ لله في السرِّ والإعلان، مَن استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، مُحيِي الليالي بِتلاوةِ القرآن؛ أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدنا عثمان بن عفَّان.

وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابن عمِّه، ووليِّه وبابِ مدينةِ علمِه، إمامِ أهلِ المشارقِ والمغارب؛ أمير المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب.

وعلى الحَسَنِ والحُسِينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنة في الجنة، وريحانتِي نبيِّك بِنصِّ السُّنة، وعلى أمِّهما الحوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضى، وعلى الحمزةِ والعباس وسائرِ أهل بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنَسِ والأرجاس، وعلى أهل بيعة العقبة وأهل بدرٍ وأهل أحدٍ وأهل بيعة الرضوان، وعلى سائرِ الصحبِ الأكرمين، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.

اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذِلَّ الشركَ والمشركين، اللهم اعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ الدين.

يا حي يا قيوم أحيِ قلوبَنا بأنوار الصدقِ معك في ذكرى ميلاد نبيك محمدٍ صلى الله عليه وسلم أحيِ القلوب بأنوار الإيمان وأدخِلنا في دوائر أهل الإحسان، وارفعنا إلى أعلى مكانٍ في الاستقامة على ما تحبه منا في السر والإعلان.

اللهم إنا نعوذ بك من أقوالٍ تسودُّ وجوهُ أصحابها يوم القيامة، ونعوذ بك من أفعالٍ تُخزي أربابَها يوم الطامة فـ (لَا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ) (يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ إلا من أتى الله بقلب سليم)

اللهم اصرِفنا مِن جمعتِنا ونحن في أهلِ الوفاءِ بعهدِك، وأهل الظَّفرِ بمحبَّتِك وودِّك، وأهل حُسن مُتابعتِك لعبدِك وحبيبك. اللهم اجعل لنا مِن ذكرى ميلادِه نيلاً لكريمِ وشريفِ محبَّتِه ووِدادِه، اللهم أسعِدنا بإسعادِه وأَمِدَّنا بإمدادِه، وثبِّتنا على دربِه، واسقِنا مِن شُربِه يا أرحم الراحمين، واملأ قلوبَ أهالينا وأولادِنا بمحبَّتِك ومحبتِه حتى تكونَ ورسولُك أحبَّ إلينا مما سِواكما، أحيِنا على ذلك وتوفَّنا على ذلك، وأعِذنا من جميعِ الآفاتِ والمهالكِ، يا حيُّ يا قيومُ يا ملكَ الممالك يا رب العامين.

وأدمِ الأمنَ والاستقرارَ والخيرَ في هذه البلادِ وبلاد المسلمين، وادفع السوءَ عنهم ظاهراً وباطناً برحمتك يا أرحم الراحمين. وخُذ بيدِ سلطان هذه البلاد إلى كل ما تحبُّ وترضى وإلى كلِّ ما فيه الخيرُ للقاصي والداني والقريب والبعيد، وأمدَّه في ذلك بعَونٍ وتوفيقٍ وعنايةٍ ورعايةٍ وصحةٍ وإنابةٍ وعطايا وافرةٍ منك يا أكرمَ الأكرمِين.

اللهم وأصلِح شؤونَنا والأمة، واكشفِ الغُمَّة، وأجلِ الظلمة، وادفعِ النِّقمة، وعامِل بمحضِ الجودِ والرَّحمة، واجعلها منابرَ هدى ونورٍ، ومساجدَ حضورٍ وخشوعٍ وإنابةٍ وتقوى، وأصلِح لنا وللأمةِ السرَّ والنجوى، وادفع عنا وعنهم كُلَّ بلوى، واجمع شملَهم بعد الشتات، وبارِك في المصلحين بين العباد والمُقرِّبين والدافعين للأسواء عن المؤمنين، واجعلنا مفاتيحَ للخيرِ مغاليقَ للشر، وأصلِح لنا ما بطنَ وأصلِح لنا ما ظهر.

إلهَنا بما نوَّرتَ به قلوبَ الرعيل الأول مِن محبَّتك ومحبةِ هذا الحبيب وكمالِ الإيمان فانظر إلى قلوبِنا ونوِّرها من ذلك النور، وأدخِلنا في دوائرِ أهلِ ذلك العملِ المَبرور والسَّعيِ المَشكور. يا أكرمَ الأكرمين، اغفر لنا ولوالدينا وذوي الحقوق علينا يا خيرَ غفور، وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحياهم وموتاهم إلى يومِ البَعثِ والنشور، برحمتِك يا أرحم الراحمين. أصلِح لنا دينَنا الذي هو عصمةُ أمرِنا، وأصلِح لنا دنيانا التي فيها معاشُنا، وأصلِح لنا آخرتَنا التي إليها معادُنا، واجعل الحياةَ زيادةً لنا في كلِّ خير، واجعل الموتَ راحةً مِن كلِّ شر، برحمتك يا أرحم الراحمين.

       عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث: ( إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنْ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

        فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكم، واشكرُوه على نعمهِ يزِدْكم.. ولذكرُ الله أكبر.

 

للاستماع إلى الخطبة