محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ ضمن سلسلة إرشادات السلوك بدار المصطفى، ليلة الجمعة 22 ربيع أول 1440هـ بعنوان: أحوال القلوب والأرواح تجاه خطاب الإله الفتاح ونتائج ذلك في الدارين.
الحمدُ للهِ الذي يُرَوِّحُ أرواحَكم ، ويُؤنِسُ قلوبَكم ، ويُنَازِلُ مِن فَيْضِ فضلِهِ أسرارَكم ما يَحدُوكم إلى القُربِ منه، وما يَجمعُكم عليه، وما يَرفعُكم به في مراتبِ الإيمانِ به أو مراتبِ القُربِ منه أو مراتبِ المحبةِ منه أو مراتبِ المحبةِ له، أو مراتب الاتصالِ بأكرمِ خَلْقِهِ عليه وأفضلِ عِباده لديه نبيِّكم المصطفى الهادي مُبلِّغِكم عن الله أسراراً لوحي الله ولخطاب الله.
لقد سَعِدَت العقولُ والقلوبُ والأرواحُ بأسرار خطاب إلَهِهَا الملكِ الفتاح، وجميعُ سعاداتها على وجه الحقيقة: بِوَعيها لذلك الخطاب، وقيامِها بِحَقِّهِ وعَمَلِها بمقتضاه، ونتائج السَّمَاعِ للخطاب مع القيام بالعمل به وأداء مقتضاه : {مالا عين رأت ، ولا أذنٌ سمعت ، ولا خطر على قلب بشر} ، (فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ) ، (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا لَّا يَسْتَوُونَ)، اللهم حقِّقنا بحقائقِ الإيمان، وارفعنا أعلى مراتبِه يا رحمن، خُصَّ الحاضرين والسامعين بنظرةٍ مِن نظراتِكَ يَقَوَى بها الإيمانُ في قلوبِهم في كل لمحةٍ ونفسٍ فيغنمون أسنى ما يُغنَم مِن هذه الحياة، ويَظفَرون بأعلى المغانمِ مما يجدُه مَن هو على ظهرِ هذه الأرض مِن أوَّلِهِم إلى آخرِهِم يا حيُّ يا قيوم.
فما نَزَل مِن السماء إلى الأرض أشرفُ مِن اليقين، يَخُصُّ اللهُ به قلوبَ مَن يشاء مِن عبادِه (أَفَمَن كَانَ مُؤْمِنًا كَمَن كَانَ فَاسِقًا..) خارِجَاً عن فِطرتِهِ، خارجِاً عن واجبِهِ ، خارجاً عن مقتضى خَلْقِيَّتِهِ وعبوديَّته، مُنكِرَاً لربوبية ربِّهِ، وإلهية إلهه، وعظمةِ موجدِه وصانعِه؛ فهو فاسقٌ خارجٌ عن كُلِّ هذا المسلك الطيِّبِ الحَسَنِ المستقيم (.. لَّا يَسْتَوُونَ * أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، اللهم اجعلنا منهم، اللهم اجعلنا فيهم، وألحِقنا بأوائلهم وأفاضلِهم يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين، يا أرحم الراحمين.
سَمِعنا أن مَلَكَاً مِن الملائكة ينادي عبدك إذا نادى "يا أرحم الراحمين" ثلاثاً يقول: "إن أرحم الراحمين أقبل عليك فَسَل"، فنسألكَ يا أرحم الراحمينَ يا أرحم الراحمينَ يا أرحم الراحمينَ أن تملأ قلوبَنا باليقين، وأن ترفعَنا أعلى مراتبِ أهل إيمانِ المُوقنين، في علم اليقينِ وعَيْنِ اليقينِ وحَقِّ اليقينِ، يا أكرم الأكرمين ويا أرحم الراحمين.
فقد أجلستَنا بين يدَيك وأوفَدتَنا عليك، وأوردتَنا إلى موائدِ كرمِك وإحسانِك وجعلتَنا تحت أمطارِ صيِّبِ فضلِك وامتناتِك ، لك الحمد .. لك الحمد .. لك الحمد شكرا، ولك المَنُّ فضلا، آثارٌ مِن آثارِ دعوةِ مَنِ اصْطَفَيْتَ واَجْتَبَيْتَ ورَفْعْتَ وأَعْلَيْتَ وتَخَيَّرتَهُ مِن بينِ البَرِيَّة فجعلتَه خاتمَ النبوة، وسيِّدَ أهلِ الرسالة، وإمامِ أهل الدلالة؛ بَيَّنَ فأحسَنَ البيان، وآتيتَنا به وعلى يدِه القرآن مُهيمناً على كُلِّ كتابٍ أنزلتَه، فكان لنا به وفيه عظيمُ الشأن، فلك الحمدُ يا رحمن، فَاسْقِ هذه القلوبَ مِن سُقيَا ذلك المَنِّ الواسع يا مَنَّان يا الله.. يا الله.
يا كلَّ قلبٍ حاضرٍ وسامعٍ: أنت في حضرةِ رحمةِ مُقَلِّبِ هذه القلوب، وإذا نظرَ وشاء قلَّبَ قلبَكَ في مراتبِ المحبُوبِيَّةِ مع كُلِّ محبوب، وصَبَّ عليك غيثَ جُودِهِ السَّكُوب، وربطكَ بحبيبِه المحبوب محمدٍ نورِ القلوبِ، الهادي إلى خيرِ الدُّروب، يا ربَّنا صلِّ عليه منك عنَّا أفضلَ الصَّلوات وسَلِّم عليه منك عنَّا أفضلَ التسلميات في جميعِ الآناءِ والأوقاتِ، وعلى آلِه وصحبِه وأهلِ محبَّتِه وقُربِهِ، وآبائه وإخوانِه مِن النبيِّين والمرسلين وآلهم وصحبهم والملائكة المقرَّبين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم عدد ما أحاطَ به علمُك وما وسعَه علمُك، يا حيُّ يا قيوم كلُّ صلاةٍ مِن تلك تُنَقِّي بها قلوبَنا وتُطَهِّرُهَا وتُنَوِّرُها وتُقَلِّبُها في مراتبِ المعرفةِ الخاصَّةِ والمحبةِ الخالصة، سألناك يا خيرَ مسؤول، وأمَّلناكَ يا أكرمَ مأمول، يا حيُّ يا قيوم يا الله.
على الأرضِ قلوبٌ هديتَها لشهادةِ أن لا إله إلا الله وأن محمداً عبدُك ورسولُك، فمنها مستجيبٌ مُنيبٌ مُلَبِّي، يُنَازِلُهُ في اللحظاتِ والأنفاسِ مِن عجائبِ فضلِك ما به يَزِيد نَقاؤه، ويَكمُل صفاؤه، ويَعظُم عطاؤه. إلهنا وفيهم قلوبٌ مَرِضَت وأعرضت وتَوَلَّت وغَفِلَت وخُدِعَت، ودُعِيَت إلى السُّفْلِ فأجابت مَن دَعَاها إلى أسفل، فأنقِذ هذه القلوبَ في هذه الأمةِ إنقاذاً سريعاً يا مُغيث، وإنك بجُودك تَبُثُّ مِن أنوارِ محبَّتِك ورسولِك مِن قلوبٍ لم تُؤمِن بعد فتؤمن ويطيب لها الإيمانُ ويَحْسُن إسلامُها وإيمانُها وترتقي، فبارِك في هذه القلوب وكَثِّرها فينا وفي زمنِنا في مشارقِ الأرض ومغاربها، يا ربَّ الأرض، يا ربَّ مشارقِها، يا ربَّ مغاربِها، يا مَلِك مشارقِها يا مَلِك مغاربِها، يا خالقَ مشارقِها يا خالقَ مغاربِها، يا حاكمَ مشارقِها، يا حاكمَ مغاربها، يا ربَّ المشارقِ والمغارِب يا قادر (فَلَا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ إِنَّا لَقَادِرُونَ * عَلَىٰ أَن نُّبَدِّلَ خَيْرًا مِّنْهُمْ)، لا إله إلا أنتَ وحدَك لا شريكَ لك، لا تَخذِلنا ولا تقطعنا ولا تُعَرِّضنا لخديعةٍ ولا لسُقوط، يا بَرُّ يا رحيم، يا منَّانُ يا كريم قَلِّب هذه القلوبَ في مراتبِ القُرْبِ والمحبة والمعرفة، يا ربنا يا الله.
كم أحييتَ مِن قلبٍ كان غافلاً.. كان ذاهلاً.. كان مُعرِضَاً.. كان مُكَبِّيَّاً.. كان مُظلِمَاً.. كان مُكَدَّراً، فأصبح: صَافِياً.. نَقِيّاً.. مُقبِلاً.. مُتَوَجِّهاً.. مُتَنَبِّهاً، صَبَّابَة عليه سحائبُ مَنِّك الواسِعِ، طابت له المناجاةُ وذاقَ لذَّتَها وهو في هذه الحياة، فلا والله يصفُ لذَّتَه أنكحة، ولا أطعمة، ولا أشربة، ولا سُلُطَات، ولا رئاسات، لا لدولٍ صغيرة ولا لدولٍ كبيرة؛ وكلُّها في عقيدتِنا عند لذَّةِ القُرب منكَ: صغيرة.. صغيرة.. صغيرة.
ولا نعتقدُ أن أهلَ الدولِ الكبيرة إلا مَن جمعتَهم في أقدسِ الحظيرة؛ هم رجال الدولة، وهم أهلُ المراتبِ الكبرى، وهم أهلُ الشرفِ الأفخم، ومعهم يا ربِّ اجعلنا، وفي زمرتِهم فاحشرنا، يوم يُرَى موضع كلِّ واحدٍ منهم موصوفاً بوصفِك: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)، صدقتَ وكذبتِ الأنفسُ التي تُسَمِّي شيئاً مِن مُلكِ الأرض كبيراً كذبَت وصدقت أنت، وكذبت الشياطين التي تُسَمِّي شيئاً مِن مُلكِ الأرضِ كذبت وصدقت أنت.
الملكُ الكبير لمن دخلَ جنَّتك، مَن لم تُدخِله جنَّتك فَأيُّ مُلْكٍ يُسَمَّى مُلْكُهُ؟ هو هُلْكُهُ، وهو ضياعُه وفسادُه، وهو سوؤه وشرُّه وهو ندمُه، أَمُلْكٌ نهايتُه أن تُغَلَّ اليَدَانِ إلى الرقبةِ في القيامة مُلْك! يُسَمَّى مُلْك؟ أيُّ مُلْكٍ هذا؟ هو الهُلْك، المُلْكُ لمن طابَت لهم مناجاةُ المَلِك، ورضِيَهم مَلكُ الملوك للقُرْبِ مِن حضرته العليَّة، وجعل مواطنهم: (وَإِذَا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيمًا وَمُلْكًا كَبِيرًا)، (.. فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوَىٰ نُزُلًا بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَن يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُم بِهِ تُكَذِّبُونَ).
ومُجريات الأحداث في الحياة تَحْمِلُ التذكرةَ والعِبرةَ بمختلفِ أصنافِها وأنواعِها (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) لِيَتَذَكَّر مَن يَتَذَكَّر، كم مِن قلوبٍ لولا الحروبُ وشدَّتُهَا ما أحسَنَت الذِكر، ولا صفَا لها الفكر، ولا اُنْتُزِعَت مِن سَكْرَةِ غفلتِها في زُخرفِ القول وزُخرفِ الحياةِ الدنيا (يَهْدِي مَن يَشَاءُ)، ومع ذلك فهناك قلوبٌ لا تنتفعُ بشيء والعياذ بالله، ونعوذ بالله أن يَخذُلَ شيئاً مِن قلوبِنا وقلوبِ أهلينا وأحبابِنا، يا مُقَلِّبَ القلوب والأبصار ثَبِّت قلوبَنا على دينِك.
قال عن أولئك القوم: (فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا..) لكن ما تضرَّعُوا، ما التجأوا؛ يزدادون لِيَاذاً بغيره، ورُكُوناً على سِوَاه، وهو يُذَكِّرُهُم بحوادثَ ومشاغلَ وأتعابٍ وأنكادٍ ليرجعُوا إليه فيزدادونَ تَوَلُّعاً بغيره! وارتِمَاءً على مَن سِوَاه! (.. وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ)، يقول تعالى: (فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُم بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَٰكِن قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ)، فإلى أين يصير هؤلاء؟ إلى أين الممشى؟ المَسَار إلى أين؟ (فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ) غروراً وزوراً بشيءٍ مِن المُتَعِ الزائلةِ الحقيرةِ (حَتَّىٰ إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا ..) لا بالله ولا برحمته ولا برسوله (بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُم بَغْتَةً فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ * فَقُطِعَ دَابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا) قُطِع دابرهم: لن يبقى لهم أثر (وَالْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ) جل جلاله.
(قُلْ أَرَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَأَبْصَارَكُمْ وَخَتَمَ عَلَىٰ قُلُوبِكُم مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ)، ولكنَّه يعطيكم البصرَ فتعصونه به! ويعطيكم السمعَ فتعصونه به!، وتتكبَّرون تُعَادُون أنبياءَه ومناهِجَهَه التي أنزلها من السماء!، وتَرسمون خططاً بالأسماع والأبصار التي أعطاكم إياها مِن عنده غروراً وكِبْراً واعتماداً على ما سواه، تُضَادُّون بها وَحْيَه وأنبياءه وأولياءه!، أتظنُّون أنه مات؟! أو تظنُّونَ أنه يفوتُه شيء؟! أو تظنُّون أنكم تخرجون عن قبضتِه ؟! (مَّنْ إِلَٰهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُم بِهِ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآيَاتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ * قُلْ أَرَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتَاكُمْ عَذَابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ).
أربابُ العلاقةِ معه إن جاء العذابُ بغتةً أو جهرة، أو نزلتِ الشدائدُ أو جاء الرَّخاءُ لا يخسرُ منهم أحد، لا يهلك منهم أحد، ما بين تعجيلِ مِنَنٍ في الدنيا، وما بين إعطاءِ شهادة أو رفعِ درجات في العُقبى ولا خاسرَ منهم، لكن (هَلْ يُهْلَكُ إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ) مَن ظلم نفسَه وظلم عبادَ الله هم الهالكون، هم الخاسرون، والعياذ بالله تبارك وتعالى.
(وَمَا نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَأَصْلَحَ فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ)، بِحَقِّ عبدِك محمدٍ اجعل قلوبَنا وقلوبَ الحاضرين والسامعين ممَّن آمن وأصلح.. ممَّن آمنَ وأصلح.. ممَّن آمن وأصلح، (فَلَا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلَا هُمْ يَحْزَنُونَ) آمين.. آمين.. آمين.
ولئن كان ذكرُ الحقِّ ورسولِه أقوى الأسباب لانسِيابِ الغَيثِ مِن رَبِّ الأربابِ، والرحمةِ الواسعةِ مِن غير حساب، والجودِ الواسِعِ مِن ذي الجلال والإكرام والطَّوْلِ والإنعام؛ فإن مِن أعظمِ مواسمِها: ذكرى بُرُوزِ الرَّحمَةِ المُهدَاة والنِّعمَةِ المُسدَاة، ذكرى بروزِ ابنِ آمنة، الذي لا تكونُ قلوبُ مُحِبِّيِهِ في الدنيا والبرزخ والآخرة إلا آمنة، بروزُ ابنِ عبدِ الله بنِ عبد المطلب الأكرم الأعظَم الأرحَم الأجمَع الأسطَع الأرفَع، ولا مرفوعَ في الخلائق مثله، ولا عاليَ في الوُجُودَاتِ مثلُ عُلُوِّه؛ محمد بن عبد الله.
وأنتَ لَمَّا وُلِدتَ أشرَقَتِ الأرضُ وضَاءَت بنورك الأُفُقُ
ونحنُ في ذلك الضيَاءِ وذلك النُّورِ وسُبُلَ الرَّشَادِ نختَرِقُ
لك الحمد يا رب.
ويأتيهم الشهرُ الكريم فيعملَون على استنزالِ رحمةِ اللهِ بتذَكُّرِهِ وذكرِ أخباره وآثاره: عِلْمَاً وتعليماً وعَمَلاً، ومخاطبةً للنفوسِ للارتقاء في الاتباعِ، وبَذلِ المستطاعِ في التراحُم، والتناصُحِ، والتَّزَاورِ، وحُسن التجاور، إلى غير ذلك مِن كريمِ ما بُعِثَ به، وقد بُعِثَ ليُتمِّم مكارمَ الأخلاق.
جاءت في مثل هذه البلدة والوادي إذا أقبلَ الناسُ على خاتمةِ الشهر الذي فيه ذكرى بروزِ البدرِ صلى الله عليه وسلم استجمعُوا الهِمَمَ في تفادي ما فاتَ وحُسن التوديعِ لشهرِ الخيراتِ والرحماتِ وجَمَعُوا الجُمُوعات، بسرائرَ وقلوبٍ وأرواحٍ تطرقُ بابَ كرمِ الكريم، وتسترحمُ الرحمنَ الرحيم، وتنادي وتُلِحُّ وتصيحُ على ربِّها جلَّ جلاله خاضعةً خاشعةً متذلِّلةً بالمجامع الكبرى، ثم يقولون:
"في آخر ربيع أول المشهور تحيا الجُدُوب
ويعقدون تلك المجامع وكم فيها مِن منافع.
وقد واجهكُم ذلكم الأسبوع بنورِه الساطع، خاتمةِ شهر ذكرى ميلادِ حبيب الله الذي هو لكلِّ خيرٍ جامع "محمد" .. "محمد" .. "محمد"، وستعرف قدرَ هذا الاسم .. تعرف منه شيئاً عظيماً، أما الإحاطة به فمِن الذي سمَّاهُ وحده ستعرف، ومهما عرفتَ مِن عظمة هذا الاسم عظمةً، فبعد انكشافِ الحُجُب وخروجك إلى عالمٍ هيأه الله سمَّاه: "عالم البرزخ" سينكشف لك مِن عَظَمَةِ هذا الاسم فضلاً عن عظمة المُسَمَّى ما تدرك به أنَّ كلَّ ما عرفتَه مِن العظمةِ في أيامِ الحياةِ الدنيا قليل، وستدركُ ما تدركُ في البرزخ، ثم يُنفَخ في الصور النفخة الأولى والنفخة الثانية، ثم ستقوم مع مَن يقوم (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ)، وستعرف أنت والكلُّ ممَّن آمنَ وممن كفر، ممَّن تواضعَ وممن استكبر، ممن صَدَق وممن كَذَب ممن اهتدى وممن ضَلَّ وغَوى؛ سيعلم الكل عظمة هذا الاسم، بل يعلمون مِن عظمتِه وعظمةِ المُسَمَّى ما يوقنون أن ما عَلِمُوه من العظمة في أيام البرزخ قليلة بالنسبة لهذا (عَسَىٰ أَن يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقَامًا مَّحْمُودًا).
أيها الحاضرون وأيها السامعون: وقت المقام المحمود قريبٌ منه خَوَاصٌّ مِن أمَّتِه، فعسى تكون من المقربين.
يا ربِّ اجعلنا منه قريباً، نسمع حمدَه لك بمحامد ما حَمِدَك بها قبلَه مَلَكٌ ولا نبيٌّ ولا إنسيٌّ ولا جنيٌّ ولا كائنٌ مِن الكائنات، تفتح عليه بها وتُعَلِّمُهُ إياها في ذلك المقام.. سبحانك، ثم تناديه: {يا محمد ارفع رأسَك}، أسمِعنا ما يحمدُك به، وأسمِعنا نداءك له، فما كان أطيبَ ذلك وما أعذبَه وما أعجبَه من نعيمٍ وتكريمٍ، {ارفع رأسك، وسَل تُعطَ، وقُل يُسمَع لقولِك، واشفع تُشَفَّع}، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
هذا الذي تعرفه مِن عظمة هذا الاسم، ومَن كان في الدنيا أعظم معرفة بقدر هذا الاسم وصاحبه فهو في البرزخ كذلك أعظم وهو في القيامة أعظم، ثم يدخل المؤمنون الجنة والكفار النار، والمؤمنون في الجنة يعرفون مِن عظمة هذا الاسم فضلا عن المُسَمَّى أمراً يدركون أنَّ ما عرفوه في القيامة قليلٌ بالنسبة لهذا المقام، وهو فوقَ كلِّ رأس مكتوبٌ على كُلِّ باب من أبواب الجنة مع اسمِ الإله الحي القيوم: " لا إله إلا الله محمدٌ رسول الله".
والوسيلة له وحده فوق الكل وأشرفُ الكل، فيعرفون مِن عظمته ما لم يكونوا يعرفون، وعلى قدر معرفة هذه العظمة معرفتهم بعظمة مُصْطَفِيِهِ ومُجْتَبِيهِ ومُختَارِه ومُنتَقِيِه سبحانه، وعلى قدرِ معرفتِهم بالله لذَّتُهم ساعة النظر إلى وجهه الكريم، وهناك الخيرُ العظيمُ الكبيرُ الفخيمُ الجسيمُ، اللهم ارزقنا لذةَ النظر ِإلى وجهِك الكريم يا الله.
يا الله بارك في ترويحِ هذه الأرواح بفتحٍ منك يا فتَّاح، واجعلنا ممن آمنَ وأصلحَ فارتقى في الإيمان ومسلك أهل الصلاح، حتى أدركَ الفوزَ والنجاح، وتبوأ ذُرَى السعادة والفلاح، يا أكرمَ الأكرمين، ويا أرحم الراحمين.
وبارِك لنا في خاتمةِ شهرِنا، واجعله مِن أبركِ الأشهُرِ علينا، وحوَّل أحوالَ أمةِ هذه الحبيبِ إلى خير حال، وبارِك في إقبالِ أهلِ الإقبال من المؤمنين الذين تزيدهم إقبالاً، ومِن عُصَاتِهِم الذين تُبدِّل حالهم إلى أحسن، ومِن الكافرين الذين تهديهم إلى الدين، بارك لنا في ذلك، ووفِّر لنا خير ذلك، وضاعف لنا نظرك بالرحمة إلى أهل ذلك، يا كريمُ يا مالك، يا مَلِك الممالك، يا مَن بيده الأمرُ كله هنا وهنالك .. يا الله ..يا الله ..يا الله
يا الله رحمةً لأهل المشارق والمغارب بمَن أرسلتَه إلى أهل المشارق والمغارب يا ربَّ المشارق والمغارب يا الله، وكرماً وجوداً ومَنَّاً وعفوا وإصلاحاً وإحساناً، يا أكرمَ الأكرمين يا أرحم الراحمين.
نحن بين يديك، وأنت أعلمُ بنا مِن أنفسِنا، ولا يَخفى عليك شيءٌ مِن أمرنا، ووفقتَنا أن نستمطر سحائبَ جودك فَجُد يا جواد، وأصلحِ القلب والفؤاد، والخافيَ والباد، والدنيا والبرزخ ويوم التناد، واجمعنا في الدرجاتِ العلى في الجنة يا كريمُ يا جواد، يا ربَّ العباد، يا كاشفَ البلايا، يا دافعَ الرَّزَايَا، يا مُطَّلِعَاً على الضمائر والسرائر والنوايا، يا مَن بيدِه الأمرُ كلُّه وإليه يرجع الأمرُ كلُّه يا الله.. يا الله.
يا الله دعوناكَ كما أمرتَنا فاستجِب لنا كما وعدتَنا، وزِدنا مِن فضلِك ما أنت أهلُه ظاهراً وباطنا برحمتك يا أرحم الراحمين، وثبِّتنا على الاستقامةِ وحُسنِ الخدمةِ للشرع والدين الذي جاء به إمامُ أهل الإمامة، وسيِّدُ أهل الكرامة صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ولا تُفَرِّق بيننا وبينه في الدنيا وعند الموت وفي البرزخ ويوم القيامة وفي دار الكرامة، يا مجيبَ الدعوات يا قاضيَ الحاجات يا ربَّ الأرضين والسماوات، يا مَن لا إلهَ إلا هو وحده لا شريكَ له.. يا أرحم الراحمين.
للاستماع إلى المحاضرة
لمشاهدة المحاضرة