خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع قسَم، بوادي حضرموت، 17 جمادى الثانية 1440هـ، بعنوان: الأمانة وحقيقة العزة.
الخطبة الأولى
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله القويِّ القاهر، العزيزِ القادرِ العليمِ الغافر، وأشهد أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جامعُ الأوَّلينَ والآخرِينَ لفَصلِ القضاءِ في اليومِ الآخِر، وأشهدُ أنَّ سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، وحبيبُه المجتبى المصطفى البدرُ المنيرُ الطاهر. اللهمَّ صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على عبدِك المجتبى المصطفى سيدِنا محمدٍ خاتمِ النبيِّين وسيدِ المرسلين وأكرمِ الأولينَ والآخَرِين عليكَ يا ربَّ العالمين، وعلى آلِه الطاهرِين، وأصحابهِ الغُرِّ الميامِين أهلِ الأمانةِ الذينَ أحسنُوا حملَها وأداءَها، وعلى مَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدينِ ممَّن فقهُوا خطابَك وخطابَ رسولِك وعظمةَ الرسالةِ وسناءَها، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين وآلهِم وصحبِهم أجمعين، وعلى الملائكةِ المقرَّبين، وجميعِ عبادِ اللهِ الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أما بعد عباد الله : فإني أوصيكُم ونفسيَ بتقوى الله، تقوى اللهِ التي لا يقبلُ غيرَها ولا يرحمُ إلا أهلَها ولا يثيبُ إلا عليها (إِنَّمَا يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ). واعلموا أنَّ مَن اتقَى اللهَ عاشَ قويّاً وسارَ في بلادِ اللهِ آمناً
ومَن ضيَّع التقوى وأهملَ أمرَها ** تغشَّتهُ في العقبَى فنونُ الندامةِ
ألا وإنَّ تقوى عالمِ السرِّ والباطنِ، عالمِ الخفاءِ والظاهرِ جل جلاله ترتكزُ على حُسنِ أداءِ الأمانةِ. وما أعظم ما اؤتُمِنَ عليه الإنسانُ من قِبَلِ خالقِه الرحمن (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنسَانَ مِن نُّطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَّبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا * إِنَّا هَدَيْنَاهُ السَّبِيلَ إِمَّا شَاكِرًا وَإِمَّا كَفُورًا)، روحٌ قذفها الله في الجسد فتحول إلى خلقا آخر ؛ من نطفة إلى علقة إلى مضغة إلى عظامٍ إلى أن تُكسَى العظامُ باللحمِ إلى نفخِ الروحِ (ثُمَّ أَنشَأْنَاهُ خَلْقًا آخَرَ ۚ فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ). وجعلَ في هذا الخلقِ سمعاً وبصراً وعقلاً وإدراكاً وتميِيزاً (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُم مِّن بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ ۙ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ) لعلَّكم تشكرونَ الذي وهبَكم هذه الروحَ وهذه الأعضاءَ، ومكَّنكُم أن تستمعُوا بها، وشرعَ لكم الحلالَ، وحرَّمَ عليكُم الحرامَ، فكانت الأسماعُ أمانةً، والأبصارُ أمانةً، وكانتِ الأفئدةُ والعقولُ أمانةً، وأيُّ أمانةٍ تتعلقُ بها كلُّ معنى الأمانةِ لِمَن عرفَ عظمةَ الدِّيانة، ولمَن آمنَ باللهِ فأيقَن أنَّ في المعصيةِ الذلَّةَ، وفي المعصيةِ الهلاكَ وفي المعصيةِ المهانةَ. ألا واللهِ ما أعزَّت العبادُ أنفسَها بمثلِ طاعةِ اللهِ، ولا أهانَت أنفسَها بمثلِ معصيةِ اللهِ.
أيها المؤمن: قوِّم إيمانَك، ليستِ الذلَّةُ أن يرفعَ أحدٌ عليكَ صوتَه أو أن يأخذَ عليكَ مالَك، لكن والله، الذلَّةُ كلُّ الذلَّةِ أن تخالفَ أمرَ جبارِ السماواتِ والأرضِ، وتتعرَّضَ أن يسوَدَّ وجهُك يومَ اللقاءِ، وأن تُسحَبَ على وجهِكَ إلى نارٍ موقدَةٍ. الذلَّةُ أن تهملَ أولادَك بلا تربيةٍ، الذلَّةُ أن تتركَ فريضةً وتُخرِجَها عن وقتِها، ما أذلَّ اللهُ الناسَ بمثلِ معاصِي اللهِ، ولا بمثلِ إضاعةِ الأمانةِ.
إنَّ الاعتباراتِ عند أفكارِ الناس بمعنى العزةِ والذلَّةِ هباءٌ منثورٌ، ويبقى العزَّةُ للهِ ولرسولهِ وللمؤمنين، لِمَن أطاعَ الله، ومَن لا فهو الذليلُ المُهانُ والعياذُ بالله.
وعمومُ الأمةِ تحدَّثَ النبيُّ صلى الله عليه وسلم عن أحوالِهم وقال: إذا تركُوا الأمرَ بالمعروف والنهيَ عن المنكر، واستهانُوا بأمر الله قال : { فلينزعنَّ اللهُ هيبتَكم مِن قلوبِ عدوِّكم وليَقذفِنَّ في قلوبِكم مهابةَ عَدوِّكُم وسلَّطَ اللهُ عليكم ذلّاً لا ينزعُه منكم حتى ترجِعُوا إلى دينِكم }.لا يرفعُ عنكم هذا الذلَّ حتى ترجعُوا إلى دينِكم، فإن أردتَ حقيقةَ العزةِ فشأنُك وحالُك مع دينِ اللهِ ومنهجِ الله. منهجُ اللهِ نزلَ مِن السماءِ، ما وضعتهُ حكومةٌ ولا دولةٌ ولا هيئةٌ ولا قبيلةٌ، ولا تتابُعكَ عليه مخابراتٌ ولا تتابعُكَ عليه جنودُ شرقٍ ولا جنودُ غربٍ ولا قبائل يتسلَّحون، ولكن يرقبُك الذي يعلمُ الظهورَ والبطونَ، والذي يقولُ للشيءِ كُن فيكُون، والذي مرجعُك إليه، وكل مَن عصاه فسوفَ يهُون ( وَمَن يُهِنِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِن مُّكْرِمٍ).
وأكثرُ الأفكارِ الفاسدةِ على ظهرِ الأرضِ مِن أفكارِ الكفارِ ومَن والاهُم يعيشونَ طالبينَ لعزَّةٍ أو راحةٍ أو سعادةٍ بشهواتٍ أو بمحرماتٍ بمخالفةٍ لمنهجِ ربِّهم جل جلاله وتعالى في علاه ( وَيَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّبَاتِكُمْ فِي حَيَاتِكُمُ الدُّنْيَا وَاسْتَمْتَعْتُم بِهَا فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ) اليومَ تذوقونَ المَهانةَ، وتعلمونَ أنَّكم المُهانُون الأذلَّةُ الصغارُ الحقراءُ بين عبادِ الله تبارك وتعالى ( الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذَابَ الْهُونِ بِمَا كُنتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَكُنتُمْ عَنْ آيَاتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ).
أيها المؤمنُ بالله: بيانٌ واضحٌ مِن عندِ ربِّك جل جلاله، إياكَ أن تصدِّقَ نفسَك الأمارةَ أو تصدِّقَ شياطينَ الإنسِ والجنِّ، أنَّ هناك عزَّةٌ بظُلمٍ، أو أنَّ هناكَ عزَّة بعُدوانٍ، أو أنَّ هناك عزة بمخالفةٍ لأمرِ الجبار، لا والله ثم لا والله ثم لا والله، لا عزَّةَ إلا بالخضوعِ لأمرِ الجبارِ الكبير، لا عزَّةَ إلا باتباعِ البشيرِ النذيرِ والسراجِ المنيرِ محمد صلى الله عليه وسلم. فاحفَظ هذه الأمانةَ في اعتقادِك وفي إيمانِك، ولا تخُن نفسَك في إيمانِك باللهِ وتظنُّ أنَّ العزةَ في غَيرِ طاعةِ اللهِ جل جلاله، وخُذ حقَّ هذه الأمانةَ، وكُن حافظاً لها مؤدِّياً لِحقِّها في كلِّ ما ائتمنَكَ اللهُ عليهِ مِن عينٍ ومِن أذنٍ ومِن لسانٍ ويدٍ وفرجٍ ورجلٍ وبطنٍ، فإنَّه سائلُك عنها. جعلَها سبعةَ أعضاء، وجعلَ للنارِ سبعةَ أبواب، ولا يدخلُ مِن أبوابِ النارِ السبعةِ إلا مَن عصى اللهَ بالأعضاءِ السبعةِ، قال تبارك وتعالى: ( وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ * لَهَا سَبْعَةُ أَبْوَابٍ لِّكُلِّ بَابٍ مِّنْهُمْ جُزْءٌ مَّقْسُومٌ).
فالعينُ إما بابٌ إلى الجنةِ أو النار، والأذنُ بابُك إلى الجنةِ أو إلى النارِ، وفرجُك بابُك إلى الجنةِ أو إلى النارِ، وبطنُك بابٌ إلى الجنةِ أو إلى النار، ويدَاك بابٌ إلى الجنةِ أو إلى النار، ورجلاكَ أين تمشِي بهما؟ وفي أي قصدٍ؟ وإلى أي مكانٍ؟ وعند مَن؟ إما بابٌ إلى الجنة وإما بابٌ إلى النار. ثم يزيدُ عند المؤمنِ قلبٌ وعَى عنِ الله، فجعلَ أبوابَ الجنةِ ثمانيةً، وجعلَ أبوابَ النارِ سبعة، فلا قلبَ لكافرٍ، ولا قلبَ للفاسق، وجعلَ للمؤمنِ القلبَ الذي به يفقهُ ( إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَذِكْرَىٰ لِمَن كَانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَهُوَ شَهِيدٌ)، كذلك قلوبُ المؤمنين هي القلوبُ التي فقهَت عنِ اللهِ تبارك وتعالى.
وإنَّه مَن كانَ مِن أهلِ الصلاةِ دُعِيَ مِن بابِ الصلاةِ، ومَن كانَ مِن بابِ الصدقةِ دُعيَ مِن بابِ الصدقة، ومن كان من باب الصوم – أي المُكثِريِن منه- دُعِي مِن بابِ الريان، ومَن كان مِن أهلِ الجهادِ دُعيَ مِن بابِ الجهاد، ومَن كان مِن أهلِ الضحى – أي صلاة الضحى كل يوم- دُعِيَ مِن بابِ الضحى أحد أبواب الجنة الثمانية. قالَ سيدُنا أبوبكرِ الصدِّيق للمصطفى محمدٍ:" فهل على مَن دُعِيَ مِن تلك الأبوابِ كلِّها مِن حرج؟" . قال: " لا ، وأرجو أن تكونَ منهم يا أبا بكر". يُدعَى مِن الأبوابِ الثمانيةِ كلِّها يدخل مِن أيِّها شاء، لأنه صدقَ اللهَ بأعضائه كلِّها وبقلبِه، صدقَ اللهَ بأحوالِه كلِّها، وراقبَ اللهَ في سرِّه ونجواه، ففُتِحت له أبوابُ الجنةِ الثمانيةِ يدخلُ مِن أيِّها شاء.
إنها الأمانةُ أيُّها المؤمنون التي ائتَمنَنا عليها مولانا الذي إليه مرجعُنا ومآلُنا تعالى في علاه، الذي يطَّلع على خفاياكَ وضميرِك وسَريرتِك كما يطَّلِعُ على ظاهرِك وصُورتِك، لا تخفَى عليه خافيةٌ ( إِنَّ اللَّهَ لَا يَخْفَىٰ عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الْأَرْضِ وَلَا فِي السَّمَاءِ * هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحَامِ كَيْفَ يَشَاءُ ۚ لَا إِلَٰهَ إِلَّا هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ).
وفي مراقبةِ هذا الإلهِ في التعاملِ بينَ الناس وضعَ النبيُّ لنا صورةً وقصَّ لنا قصةً كما جاء في حديثه الصحيح : { أنَّ رجلاً مِن قريةٍ بعيدةٍ دخلَ عند تاجر في المدينة يقول له أنه يحتاجُ إلى دنانير كثيرة، ومبلغٍ مِن دنانير الذهب، فقال له: فأينَ الكفيلُ؟ قال: كفَى باللهِ كفيلاً. قال: صدقتَ. قال: فأين الشاهدُ؟ قال: كفَى باللهِ شاهداً. قال: صدقتَ. فأعطاه الألفَ الدرهم أو الدينارَ ودفعَها إليه، فذهبَ ولم يكتبْ عليه شاهد ولم يكن له كفيلٌ وضامنٌ لدى ذلك الرجلِ المؤمنِ. وذهبَ إلى قريتِه، وبينَه وبين هذه القريةِ نهرٌ عميقٌ لا يُمشَى عليه إلا بالسُّفُن، وكان وعدُه أن يسلِّمَه ويردَّ عليه أمانتَه في اليومِ الفلاني – بعد أيامٍ معدودةٍ- فجاء في اليومِ الذي وعدَ صاحبَه أن يؤديَ فيهِ الدينَ وأحضرَ معه الدنانيرَ، فلم يجِدْ سفينةً تمشِي، فلما يئسَ جاء بخشبةٍ فحفرَ فيها ووضعَ الدنانيرَ فيها وكتبَ كتاباً " اللهمَّ هذهِ أمانةُ فلانِ ابن فلان ، إنه طلبَ مني كفيلاً وقلتُ كفى بالله كفيلاً فرضيَ بكَ كفيلاً، وطلبَ منِّي شاهداً فقلتُ، كفى بالله شاهداً فرضِيَ بك شاهداً، فأدِّ هذه الأمانةَ إليه، مِن فلان". ووضعَها وسطَ الخشبة وسَمَّرَ عليها خشبةً أخرى ورمَاها في ذلك البحر أو النهرِ العميق، ورجعَ إلى بيتِه. ولم يَكتفِ بذلك بل استعدَّ بجَمعِ الدراهمِ وإحضارِ مبلغٍ آخرَ مثلَه، حتى وجد سفينةً في يومٍ بعد ذلك فمَشى إلى صاحبه. والحق تبارك وتعالى يرقبُ قلوبَهم الصادقةَ المخلصةَ وأماناتِهم. خرج الرجلُ صاحبُ الدَّينِ إلى البحر ينتظرُ مجيءَ صاحبِه، لا سفينة ولا مركب أقبلَ عليه، وجد خشبةً تعلُو الماءَ فقال: ما في هذه الخشبةِ، أمرُها عجيب! ، فبقيَ حتى قربَت منه فتناولَها وإذا بها خشبتين مسمَّرة ، ف فتحَها فوجدَ الدنانير ووجدَ الكتابَ مِنَ الرجلِ كما كتبَها، فتعجَّبَ أنَّ اللهَ حفظَ له مالَه وأدَّاه عنه لصِدقِهِ مع الله. وهذا اكتفَى باللهِ شهيداً، واكتفى باللهِ سبحانه وتعالى وكيلاً وضامناً . فلما وصلَ الرجلُ بعد ذلك وجاءَ بالدنانير قال: يا هذا قد أدَّى اللهُ عنكَ دنانيرَك، ألم ترسلْ لي في خشبةٍ هذه الدنانيرَ؟ هذه الدنانيرُ وهذه ورقتُك محفوظةٌ، ما امتحَى منها حرفٌ واحد، سارت في البحر حتى وصلَت إليَّ سالمة} إنَّك وثقتَ بالقويِّ المتينِ فأدَّى عنك كاملاً. فسبحانَ الله، وما أعجبَ هذه القلوبَ المؤمنةَ بالإلَه، وصلَّى اللهُ على مرشدِنا محمدِ بنِ عبدِ الله.
اللهم ارزُقنا كمالَ الإيمانِ واليقينِ، وألحِقنا بعبادِك الصالحين، وارزُقنا كمالَ التقوى يا أرحمَ الراحمين.
واللهُ يقولُ وقولُه الحقُّ المبينُ: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ} وقال تبارك وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
(إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَن تُؤَدُّوا الْأَمَانَاتِ إِلَىٰ أَهْلِهَا وَإِذَا حَكَمْتُم بَيْنَ النَّاسِ أَن تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ ۚ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُم بِهِ ۗ إِنَّ اللَّهَ كَانَ سَمِيعًا بَصِيرًا ) [النساء: 58].
(إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ ۖ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا) [الأحزاب:72].
(وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ فَلَا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئًا ۖ وَإِن كَانَ مِثْقَالَ حَبَّةٍ مِّنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنَا بِهَا ۗ وَكَفَىٰ بِنَا حَاسِبِينَ) [الأحزاب: 47].
باركَ اللهُ لي ولكم في القرآنِ العظيم، ونفَعنا بما فيهِ مِن الآياتِ والذِّكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيمِ، وأجارَنا من خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقولُ قولي هذا، وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم، ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين، فاستغفرُوه إنه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمدُ للهِ اللطيفِ الخَبيرِ، السميعِ البصير، العليِّ القَدير، وأشهدُ أن لا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له منهُ المبتدأ وإليهِ المرجعُ والمصيرُ، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، ونبيُّه المجتبى الأمينُ البشيرُ النذير. اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك السراجِ المنيرِ سيدِنا محمدٍ وعلى آلِه الأطهارِ وأصحابِه الأخيارِ، ومَن على منهاجِهم سار على ممَرِّ الأعصار، وعلى وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين معادنِ الأنوار، وعلى آلِهم وصحبِهم والملائكةِ المقرَّبين، وجميعِ عبادِك الصالحِين الأخيار، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا كريمُ يا غفَّار.
أما بعدُ عبادَ الله : فإني أوصيكُم وإياي بتقوى الله، فاتَّقوا اللهَ عبادَ الله وأحسِنُوا يرحمْكُمُ الله (إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ).
أيها المؤمنون بالله: وفي الإشارةِ إلى عمومِ الأماناتِ وخُصوصِها جعل اللهُ تبارك وتعالى أطولَ آيةٍ في كتابِهِ المُنْزَل آيةَ الدَّين، آيةَ المُدَاينة. آية أن يستدينَ المسلمُ مِن أخيهِ المسلمِ قليلاً أو كثيراً. فجعلَها أطولَ آيةٍ، وأكَّد فيها على تَوثيقِ ذلك الدَّينِ وحفظِه وكتابتِه؛ رحمةً منه بعبادِه، لئلَّا يعتدِي بعضُهم على حقِّ بعض ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ ۚ وَلْيَكْتُب بَّيْنَكُمْ كَاتِبٌ بِالْعَدْلِ ۚ وَلَا يَأْبَ كَاتِبٌ أَن يَكْتُبَ كَمَا عَلَّمَهُ اللَّهُ ۚ فَلْيَكْتُبْ وَلْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَلْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَلَا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئًا ۚ فَإِن كَانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهًا أَوْ ضَعِيفًا أَوْ لَا يَسْتَطِيعُ أَن يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ ۚ وَاسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِن رِّجَالِكُمْ ۖ فَإِن لَّمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّن تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ أَن تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَىٰ ۚ وَلَا يَأْبَ الشُّهَدَاءُ إِذَا مَا دُعُوا ۚ وَلَا تَسْأَمُوا أَن تَكْتُبُوهُ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا إِلَىٰ أَجَلِهِ ۚ ذَٰلِكُمْ أَقْسَطُ عِندَ اللَّهِ وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَىٰ أَلَّا تَرْتَابُوا..) أطولُ آيةٍ في كتابِ اللهِ تبارك وتعالى ليرعَى اللهُ حقوقَ الخلقِ ويبيِّنَ لنا خطرَها لئلَّا يعرِّضَ أحدٌ نفسَه لأن يسودَّ وجهُه يومَ القيامةِ على متاعٍ مِن الدنيا يسيرٍ على أمرٍ من الدنيا حقير ( يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذَابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ * وَصَاحِبَتِهِ وَأَخِيهِ * وَفَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ * وَمَن فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ يُنجِيهِ * كَلَّا) (لَوْ أَنَّ لَهُم مَّا فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ)
فانظُر شؤونَ هذه الأماناتِ وارعَها في أعضائك وفي قلبِك وفي قيامِك بأسرتِك، واعلم أنَّه ما أسرعَ ما تنقضِي بك الحياةُ والعمرُ، وتُرِدُ إلى عالمِ السرِّ والجهرِ، وتوضعُ في قبرٍ إما روضة من رياضِ الجنة وإما حفرة مِن حفرِ النار، ولن يُعفيَك مِن ذلك أنك كنتَ صاحبَ قوةٍ أو بطشٍ أو سُمعةٍ أو مكانةٍ أو سلاحٍ وما إلى ذلك، المرجعُ واحدٌ للكل، المرجعُ واحدٌ للصغيرِ والكبيرِ والأميرِ والمأمورِ والأولِ والآخِر (يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجَادِلُ عَن نَّفْسِهَا ) (إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَٰنِ عَبْدًا * لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا * وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا).
فأفلحَ مَنِ اتَّقَى اللهَ وأخذَ العزةَ بالإيمانِ وعملِ الصالحات، فأنعِم به مِن عزٍّ يعزُّ اللهُ به خلقَه ويعزُّ به عبادَه، الإيمانُ به وطاعتُه، والعملُ بشريعةِ نبيِّهِ المصطفى محمدٍ صلى الله عليه وآله وسلم. وقد نادى سيدُنا عمرُ بن الخطاب وقال:" إنَّا قومٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلامِ، فإن ابتَغَينا العِزَّةَ في غيرِه أذلَّنا اللهُ" . فابتَغِ العِزَّةَ بقيامِك بأمرِ اللهِ في قلبِك وجوارِحك وبيتِك وأسرتِك، وأحسِنِ التربيةَ لأولادِك وهيِّئهم للقاءِ ربِّك جل جلاله، واحضُر في الجمعةِ بقلبٍ يجتمعُ على الإلهِ الذي خلق، ويفقهُ ما بلَّغَ رسولُه الذي صدَق، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وأكثرُوا الصلاةَ والسلامَ على خيرِ الأنامِ، فإنَّها عدَّةٌ لكم وخيرةٌ في يومِ القيامِ، وهو القائل : { إنَّ أولى الناس بي يوم القيامة أكثرُهم عليَّ صلاة }. وإنَّ اللهَ أمرَكم بأمرٍ بدأ فيه بنفسِه، وثنَّى بملائكته، وأيَّهَ بالمؤمنين مِن عباده تعميماً، فقال مخبراً وآمراً لهم تكريماً: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً) .
اللهمَّ صلِّ وسلِّم على عبدِك الأمينِ الهادِي إليكَ سيدِنا محمد، وعلى آلهِ الأطهارِ، وأصحابِه الأخيار، خصوصاً صاحبِه وأنيسِه في الغار، مُؤازرِ رسولِ الله في حاليِ السعةِ والضِّيق، خليفةِ رسول الله سيدنا أبي بكر الصديق، والناطق بالحقِّ والصواب أميرِ المؤمنين ناشرِ العدلِ في الآفاقِ سيدِنا عمرَ بنِ الخطاب، وعلى الناصح لله في السرِّ والإعلان، مَن استحيَت منه ملائكةُ الرحمن، مُحيِي الليالي بتلاوة القرآن أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان، وعلى أخِي النبيِّ المصطفى وابن عمه ووليِّه وبابِ مدينِة علمه، إمامِ أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيدِنا علي بن أبي طالب، وعلى الحسن والحسين سيدَي شبابِ أهلِ الجنة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بنصِّ السنة، وعلى أمِّهما الحوراءِ فاطمةَ البتولِ الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى، وعائشةَ الرضى، وأمهاتِ المؤمنين، وعلى الحمزة والعباس، وأهلِ بيتِ نبيِّك الذين طهَّرتَهم مِن الدنسِ والأرجاس، وعلى وأهلِ بدر وأهل أحُد وأهل بيعةِ الرضوان وعلى أهل بيعةِ العقبة، وجميعِ أصحابِ نبيِّك الكريمِ، ومَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، اللهم أذلَّ الشركَ والمشركين، اللهمَّ أعلِ كلمةَ المؤمنين، اللهم دمِّر أعداءَ المؤمنين، أعزِّنا بِكَ وبطاعتِك والإقبالِ عليك، وارزقنا الوفاءَ بعَهدِك الذي عاهدتَنا عليه.
اللهم ارزُقنا حُسْنَ أداءِ الأمانة، وارفَع لنا الشأنَ فيمَن رفعتَ شأنَه، وجنِّبنا جميعَ الذلِّ والخِزيِ والمهانَة، ولا تُخزِنا يوم يُبعثُون ( يَوْمَ لَا يَنفَعُ مَالٌ وَلَا بَنُونَ * إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ) . ارزُقنا كمالَ الإيمانِ واليقينِ وألحِقنا بعبادِك المتَّقين. وارحمِ المتقدِّمِينَ في جوامِعِنا هذه ومنازلِنا وديارِنا واجمَعنا بهم في دارِ الكرامةِ وأنتَ راضٍ عنا، اغفِر لنا ولهم جميعَ الذنوبِ والأوزارِ، يا أكرمَ غفَّار. اللهم اغفِر لنا ما مضَى واحفَظنا فيما بقِي، ثبِّتنا على الحقِّ فيما نقولُ وثبِّتنا على الحقِّ فيما نفعل، وثبِّتنا على الحقِّ فيما نعتقدُ، واختِم لنا بأكملِ الحسنى، واجعل آخرَ كلامِ كلِّ واحدٍ منا مِن هذه الدنيا " لا إلهَ إلا الله" متحقِّقاً بحقائقِها وأنتَ راضٍ عنه برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
اللهم انظر إلى الأمَّة، واكشفِ الغمة، وأجلِ الظلمة، وأبعدِ النِّقمَة، وعامِل بمحضِ الجودِ والرحمَة، وارفع الكروبَ والحروبَ والبلايا والآفاتِ والرزايا والعاهاتِ في الظواهرِ والخفيَّات، وحوِّل أحوالَ المسلمين لأحسنِ حال، وعافِنا مِن أحوالِ الضلالِ وفِعلِ الجهَّال، واختِم لنا بأكملِ الحسنى وأنت راضٍ عنا.
نسألكَ لنا وللأمةِ ممَّا سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مِن شرِّ ما استعاذكَ به عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنتَ المستعانُ وعليكَ البلاغُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيمِ.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إِنَّ الله يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ }
فاذكرُوا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكرُوه على نِعَمِه يَزدْكم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
للاستماع إلى الخطبة
لمشاهدة الخطبة