محاضرة العلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، بدار المصطفى، ليلة الجمعة 26 ذي القعدة 1441هـ بعنوان:
عظيم الفوارق بين الفوز بسعادة الشهادتين وخسران البشرية بتبعيَّة الضالين
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ مُكرِمِنا بالشَّهادتَين المُورِثَةِ للحُسنَيَينِ وللسعادةِ والحسنى وزيادة، والتي لا يُوازيها مقدارٌ ولا مثقالُ ولا قيمةُ الأرضِ والسماوات (ولو وُضِعتِ السماواتُ السبعُ والأرضون السبعُ في كِفَّة ووُضِعت "لا إلهَ إلا الله" في كِفَّة لرجَحت بهنَّ لا إلهَ إلا الله)، وهي التي قال عنها خاتمُ الرسالة: (أفضلُ ما قلتُ أنا والنبيون مِن قبلي: لا إلهَ إلا الله).
حضرةُ النبوَّة والرسالة قولُهم خيرُ القَول، وميزانُهم أرجحُ الموازين.. قال نحنُ الذين جعلنا اللهُ في الرُّتبةِ العُليا في الخلقِ لا نقول شيئاً أفضلَ من هذه الكلمة (أفضل ما قلتُ أنا والنبيون من قبلي: لا إله إلا الله). حَقَّقنَا الله بحقائقها ورزقنا معرفةَ قدرِها، ونَوَّرَنا بنُورها، ورزقنا العملَ بمقتضاها والتَّحَقُّقَ بها.. اللهم آمين، آمين، آمين.
فهي سبيلُ السعادةِ الكبرى والفوزِ في الدنيا وفي الأخرى. ومَن مات وفي قلبِه مِن معناها ولو مثقالُ ذَرَّة فلابدَّ له مِن دخولِ الجنة ولو بعدَ العذاب في النار، ومَن عَدِمَ قلبُه نورها وأدنى ذَرَّة من حقيقتِها فلا يَشُمُّ رائحةَ الجنة (وإنَّ الجنة يُشَمُّ ريحُها مِن مسيرةِ خمس مائة عام) مِن مسيرةِ خمس مائة سنة تجد ريحَ الجنة. جعلنا اللهُ ممَّن يشمُّه، وممَّن يدخلُ إلى أعاليها في الدرجاتِ العُلا في فَراديسها.. آمين يا رب برحمتِك يا أرحمَ الراحمين.
أنظرتَ قيمة هذه الكلمة؟ لا يدخلُ الجنةَ مَن ليس في قلبِه شيءٌ منها، ولابدَّ أن يدخلَها مَن مات وفي قلبِه ولو مثقالُ ذرَّةٍ مِن معنى "لا إلهَ إلا الله". فهل تجد كلمةً مثلَ هذه الكلمة؟ أو تَقرُب مِن قدرِ هذه الكلمة؟ أو عظمةِ هذه الكلمة؟
وهي الفاصلُ بين أهل الجنة والنار، وجعلها الله مكتوبةً على أبوابِ الجِنَان وقوائمِ العرش مشفوعةً بـ "محمد رسول الله"، "لا إلهَ إلا الله محمدٌ رسول الله". عليها يا ربَّنا نحيا، وعليها نموت، وعليها نُبعَث إن شاء الله.
تلكم الكنوزُ التي لا يمكنُ أن يقاربَها ولا أن يُنسبَ إليها في فضلِهَا مُلْك الأرضِ بما فيها ومُلْكِ جميع ملوكِها ومُلْكُ جميعِ كنوزِها مِن أول ما خُلِقَت الأرضُ إلى النَّفخِ في الصور، جميعُ مُلكِها وما فيها لا يساوي ذرَّةً من سِرِّ كلمةِ "لا إله إلا الله".
وسمعتم قولَه صلى الله عليه وسلم: لموضعُ صوتِ أحدكم -موضع الصوت- ( لموضع صوت أحدِكم في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها)، واسمعه يقول وهو الصادق مأمون الخالق. ويذكر سيدَنا سعدَ بن معاذ عليه رضوان الله: (لمناديلُ سعدٍ في الجنة خيرٌ من الدنيا وما فيها). منديل سَعْد الذي يمسح به وجهَه في الجنة! والوجه في الجنة له رشح، وهو عرقٌ أطيبُ مِن ريحِ المسك، لن يخرجَ مِن أبدانهم غيرُ هذا؛ لا يخرجُ مِن أبدانِهم بُصَاقٌ ولا نخَامَةٌ فضلاً عن بولٍ أو أذى ولا يخرج إلا رشحُ عرقٍ أطيب مِن رائحةِ المسكِ الزَّكِي. هكذا تركيبتُهم في جنَّة الله، وهكذا إنشاءُ خلقِهم في دارِ ضيافةِ الرحمن تعالى في علاه. هذا هو الحقُّ الذي حدَّثنا عنه نبيُّ الحقِّ الناطقِ بالصدقِ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
فلا تأخُذنا عنه أقاويلُ أهلِ الأباطيل والأضاليل. هذا القولُ الحق، واحسُب حسابَك له، وأعد عدَّتك لتنالَ عظيمَ ما فيه مِن جُود الباري؛ وفوق ذلك {وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللَّهِ أَكْبَرُ}.
إنَّ ممَّن على ظهرِ الأرض اليوم لمَن يَسعَدُ بمرافقةِ النبيِّين والصِّدِّيقين والشهداءِ والصالحين في دارِ الكرامة.. فمَن أسعد منهم على ظهرِ الأرض؟ هم السعداء على الحقيقة. كثَّرَهم اللهُ فينا وألحقَنا الله بهم.
وعلى ظهرِ الأرض اليوم ألوف، بل مئات الألوف بل ألوف الألوف لا يرَون في الآخرةِ وجهَ نبي، ولا وجه صِدِّيقٍ مُقَرَّب، ولا يشمُّون رائحةَ الجنة.. فمن أشقَى منهم؟ مَن كان منهم رئيس مَن أشقى منه؟ مَن كان منهم قائدَ حزب مَن أشقى منه؟ مَن كان منهم صاحبَ وزارةٍ مَن أشقَى منه؟ مَن كان منهم صاحبَ مُلْكِ أراضي أو مزارعَ كثيرة مَن أشقَى منه وهو لا يرى وجوهَ الأنبياءِ في القيامة، ولا يشُم رائحةَ الجنة مَن أشقى منه؟! هم الأشقياء ولكن الستارةُ ستُكشَف عن حقائقِ السعادة والشقاوةِ في يومٍ قال اللهُ عنه: {وَمَا نُؤَخِّرُهُ إِلَّا لِأَجَلٍ مَّعْدُودٍ * يَوْمَ يَأْتِ لَا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلَّا بِإِذْنِهِ ۚ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ} عندها يُعرَف الحق مَن السُّعَدَاء ومَن الأشقياء.
والله لا سعيدَ غيرُ الأنبياء وأتباعُ الأنبياءِ مِن بني آدم مِن أيام آدمَ إلى يومِ النَّفخِ في الصور؛ لا سعيدَ إلا الأنبياء ومَن أحسنَ اتباعَ الأنبياء ودخلَ في دوائرهم، والله العظيم هم وحدَهم السعداء. ولا الشقاوة إلا لمن كَفَر؛ لا لمن مَرِض، ولا لِمَن جاع، ولا لِمَن نازلَته كارثة؛ الشقاوة لمَن مات على الكفر، الشقاوة لمَن لَقيَ جبَّار السماوات والأرض وهو جَحُودٌ، وهو مُنكِر وهو مُعانِد لِجَبَّار السماوات والأرض ومَلِك السماوات والأرض؛ حيث يجد أنَّ نتيجةَ جميعِ أفكارِه وجميعِ تصوُّراتِه في هذا العالم هباءً منثوراً.. ويا ليتَها مجرد هباء منثور بل موجباتُ تَصليةٍ بنارِ الجحيم! وموجباتُ حجابٍ عن الإلهِ العظيم! {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ * ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ) مَن هم؟ الذين يعيشون معنا في الدنيا يُكذِّبون بيومِ الدين، بيومِ الحسابِ والجزاء، وهو حَقٌّ وصدقٌ، الدلالاتُ عليه واضحةٌ مِن عظمةِ مُكَوِّنِهم ومكوِّن جميع ما حواليهم مِن هذا الوجود جَلَّ جلاله.
{الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} وهؤلاء الذين أحدُهم مِن حينِ الموت وروحُه مقرُّها سِجِّين {وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ * كِتَابٌ مَّرْقُومٌ * وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِّلْمُكَذِّبِينَ * الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ} يومَ الجزاءِ والحسابِ الذي المُلْكُ فيه يَتَبَيَّن حقيقته: أنَّ جميعَ ما مَلَكَ الخَلْقُ مَجَازٌ وصورةٌ مؤقتَةٌ لا حقيقةَ لها والمُلْكُ مُلْكُ الله {مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ} جَلَّ جلاله.
قال تعالى: {وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * ثُمَّ مَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ * يَوْمَ لَا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِّنَفْسٍ شَيْئًا ۖ وَالْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِّلَّهِ} يعني تظهرُ حقيقةُ أنَّه لا تملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئا؛ هذه الحقيقةُ المُغَيَّبةُ عن أذهانِ جميعِ الكفارِ، وعن الذين حجبَتهم الأوهامُ والذنوبُ والسيئاتُ وظلماتُ الخطايا مِن المسلمين.. غائبةٌ عنهم هذه الحقيقة، يظنون -بل يتركز في أذهانِهم- أنه يُغنِي بعضُهم عن بعض، وأنه ينفعُ بعضُهم بعضاً، وأنَّ فيهم مَن يَرفَع ويَخفِض دونَ الله، وأنَّ فيهم مَن يُعِز ويُذِلُّ دونَ الله، وأنَّ فيهم مَن يُسعِد ويُشقي دونَ الله! كَذِبٌ ووَهمٌ باطل.
تبدُو هذه الحقيقة: أنه لا تَملكُ نفسٌ لنفسٍ شيئا، وأنَّ ما كانَ في الدنيا ممَّا يُجريهِ اللهُ مِن الأسبابِ مُنطَوٍ مندرجٌ تحتَ قهرِه وقدرتِه وإرادتِه وتدبيرِه جَلَّ جلاله، وكانوا في ستاراتِ التصوُّرات الكاذبةِ في أيام الدنيا فتَنكَشِفُ عنهم، وإذا قيل: {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ}؟ لم يقدِر أحدٌ مِن أهلِ المُلْكِ المجازي ولا ممَّن مَلَك في الأرضِ مائتي سنة ولا ثلاثَ مائة مِن ملوكِ أهلِ الأرضِ الذين مضَوا من قبلِ هذه الأمةِ أن يقولَ لي؟ لا مُلْكَ لهم، لا أحدَ منهم مَلِك، لا أحد منهم له مُلْك {لِّمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ۖ لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ}.
{الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ* وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ..} بعدَ وصولِ الرسالةِ إليه والدلالة {إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ} فمَن كذَّبَ بلقاء اللهِ والاجتماعِ في يومِ الدين تحتَ حُكمِ الله والوقوفِ بين يديِ الله بعد وصولِ رسالةِ محمدٍ له فهو مُعتَدٍ أَثِيمٍ {وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ * إِذَا تُتْلَىٰ عَلَيْهِ آيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ * كَلَّا..} "حقاًّ" {ۖ بَلْ ۜ رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم..} مغطَّى عنهم الحقائق وقنِعوا بالأوهامِ في دارِ الظلام {مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} مِن الكفرِ والسيئاتِ غطَّى عليهم {رَانَ عَلَىٰ قُلُوبِهِم مَّا كَانُوا يَكْسِبُونَ} فما مستقبلُهم ونهايتُهم وعاقبتُهم يا رب؟ {كَلَّا إِنَّهُمْ عَن رَّبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَّمَحْجُوبُونَ}.
وواحد محجوبٌ عن الربِّ مَن له؟! مَن يُسعِده؟ مَن ينصُره؟ مَن يُنعِم عليه؟!. حُجِب عن رَبِّ السماوات والأرض؛ لا ينظر إليه، لا يُزِكِّيه، لا يُكَلِّمُه.. فمَن له؟! أيُتَنَادَى بأحزابٍ في موقفِ القيامة؟ أَيُتَنَادَى بدولٍ في موقفِ القيامة؟ {بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ}، {إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا..} كلُّ أتباعِ الكفرِ والفسوقِ على ظهرِ الأرضِ ممَّن رضيَ باتِّباع أحدٍ على حسابِ معصيةِ الله أن يَعصِيَ الله أو يُخالِف شرعَه أو يؤذي المسلمين مِن عبادِ الله يقولون لِمَتبوعيهم: {لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا} لو توجد رجعة ثاني مرة إلى الدنيا لن نمشيَ وراءهم، ولا يضحكون علينا بِكذبِهم، ورَّطونا في الورطة هذه، ولا لنا مخرج اليوم {وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً..} – أي رجعة إلى الدنيا- {فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا ۗ كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ} هم كانوا يفتخرون بأعمالِهم صارت حسرات، هم كانوا يتبجَّحُون بها صارت حسرات {كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُم بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ}.
فطريقُ النجاةِ والسعادة: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ} يرسم لكم رسماً بِخُطَاه؛ أي: يجتذِبكم إلى الشَّرِّ خطوة خطوة؛ لأنَّ مَن عنده منكم إيمان ومعرفة بصدقِ المُرسَلِ مِن الرحمن وعظمةِ القرآن يَصعُبُ على إبليس أن يأخذَه دفعةً واحدة ويقول له كَذِّب واكفر؛ ولكن يبدأ له مِن الأمورِ اليسيرة البسيطةِ التي يراها يسيرةً أو حقيرة.. خطوة خطوة وخطوة وأدخلَه بعد ذلك! {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تُطِيعُوا فَرِيقًا مِّنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ يَرُدُّوكُم بَعْدَ إِيمَانِكُمْ كَافِرِينَ} قال ربي: {وَكَيْفَ تَكْفُرُونَ وَأَنتُمْ تُتْلَىٰ عَلَيْكُمْ آيَاتُ اللَّهِ وَفِيكُمْ رَسُولُهُ ۗ وَمَن يَعْتَصِم بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}، {كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا وَلَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ ۚ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُّبِينٌ * إِنَّمَا يَأْمُرُكُم بِالسُّوءِ وَالْفَحْشَاءِ وَأَن تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ} تَجَرِّئ على الجَبَّار.. ذا يقول الخلق كذا! وهذا يقول أصل الخلق كذا!.. مِن أين جئت بهذا؟ {وَجَعَلُوا الْمَلَائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبَادُ الرَّحْمَٰنِ إِنَاثًا ۚ أَشَهِدُوا خَلْقَهُمْ}؟ {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}.
{مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ} مَن مِنهم حضرَ وقتَ تحويلِ نُطفتِه إلى علَقة؟ هو حتى خَلْقِ نفسِه ما هو حاضرٌ عنده! ومَن حضر وقتَ نفخِ الروح في بطنِ أمه وهو بعد الهيكل العظمي مكسو لحماً؟
أولهم آدم مَن حضر مِنهم؟ لَمَّا خلقت أنا آدم وخلقت منه زوجته وبثثتُ منهما رجالاً كثيراً ونساء؟ .. فيجيء هذا ليقول: أصل الإنسان قرد! مَن حضَر؟ هات لنا أثرةً مِن عِلم؟ هات لنا توثيقاً؟! بَيَّتت تحلم في ليلك وأصبحتَ إماماً لخلقِ الله! تُفكِّر أفكاراً مِن نفسِك ومِن الشيطان وتجيبها وتقول أصل الخلق كذا؟ هات لنا الصورة .. هات التوثيق حقك؟ هات المصدر حقك؟ هات المرجع؟
أنت أول أمس كنت نطفة ومضغة، والحين تقول لنا بداية خلق الخلق كذا! مِن أين جئتَ به؟!
يبيِّتون يحلمون بأفكارِ غريبة ويصبحون عِلْمِيين، اتَّبعونا نحن نقول لكم أصل الخلق!! {مَّا أَشْهَدتُّهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنفُسِهِمْ وَمَا كُنتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُدًا}، {نَحْنُ خَلَقْنَاكُمْ فَلَوْلَا تُصَدِّقُونَ} جَلَّ جلاله وتعالى في علاه.
وهكذا أكرَمنا بهذا الدينِ وبهذه الرسالةِ وأبقى فينا هذه الخيرات، والله ينظر إلى الأمة بنَظرةٍ ينشرُ بها الهدايةَ في العالمِ إنَّه أكرمُ الأكرمين.
لأنَّ إخواننا من بني آدم المُعَرَّضين بدخول جهنم بل المعرضين للخلود فيها غُشُّوا وخُدِعُوا! مَرَّت عليهم فترات لَعِب عليهم قاداتُهم نحو الأديان والتَّصَوُّر عن الأكوان فألقَوا إليهم إلقاءً وأوحوا إليهم وحياً رأسُه إبليس، وأوحوا إليهم التَّنَكُّرَ للأديان! ومع أنَّ الفطرةَ تُراجعَ أحدَهم أنكَ مخلوقٌ ولكَ خالقٌ، ولا يمكن أن يُخلقَ الكَونُ عَبَثا ولا لعبا؛ الفطرةُ تراجعهم في هذا! ويَرجِع مَن يَرجع، ولكن العامَّة منهم صار هو آدمي ولكن مسكين صار همَّتُه ونهمتُه في فرج وبطن وأكل وشرب!!
أهذه قيمتك؟ أهذه غايتك؟! ما له غاية، ولا يفكر إلَّا فيها! حيوان بهيمة يُسَبِّح بحمدِ ربِّه أحسن منه! بينما هذا يأكلُ ويشربُ مِن رزقِ الله ولا يُسَبِّح بحمدِ الله ولا يؤمِن بالله! ونهمتُه أن يجمع المال، يمشي وراء المحرمات!! أهذه آدميَّة؟ أهذه إنسانيَّة؟؟ أهذا أمرٌ لائقٌ بعقلِ العاقل؟! بصاحبِ السمع والبصر؟! {أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ} فصاروا ضحايا لِقَادَةٍ ما صَدَقُوا ولا نصحوا! أتباع ومتبوعين، فصارت عقلياتُ الشعوب عندهم بهذه الصورة!
ومع ذلك كما سمعتم فيهم الذي يتنبَّه والذي يحسُّ أنه لابدَّ مِن نور، لابد مِن هداية لابدَّ مِن إلهٍ لهذا الكون؛ كيف يسيرُ وحدَه؟ كيف ينتظمُ مِن غيرِ مُنَظِّم، كيف يوجد مِن غير مُوجِد..
يدركون ذلك، ومحتاجون إلى أن يعرفوا عن ربِّهم وعن مأمونِ ربِّهم الذي أُرسِل إليهم، وما وجدوا مَن وصل إليهم مِن المؤمنين يُوصِلُ إليهم نورَ الله ويُوصِل إليهم أوصافَ محمدِ بن عبد الله!
سمعتم هذا الذي سَمِع عن الإسلام أطرافاً ودخل فيه لكنه ما ذاقَه ولا عرفَ حقيقتَه، ولَمَّا قرأ هذا الكتاب لأحد علماء سوريا الصالحين ( الشيخ عبد الله سراج الدين ) عليه رحمةُ الله "محمد رسول الله" قرأه مترجما؛ رأى نموذجاً لسراجٍ منيرٍ بشيرٍ نذير، كلُّه رحمة، كلُّه حكمة، كلُّه هدى، كلُّه قسط وبر وعدل! هذا الدين، هذا الإسلام.. بدأ يذوقُ الإسلام..
وما الذي يمنعُنا أن نوصلَ أوصافَ نبيِّنا إليهم؟! تَخَبَّر المسلمين.. تجدهم مشغولين بقتالِ بعضِهم البعض! مشغولين بالتَّنازع على الكراسي وعلى الشهوات! مشغولين بتقليدِ أهلِ الحَيْرَة مِن أهلِ الغرب الذين يريدون مَن ينقذهم! مشتغلين بتقليد الغَرقَى، يقلِّدون الغرقى الغرقانين في حياتهم! فما حمَلوا هَمَّ تبليغِ الرسالة، ولا يُرَى جمالُ الإسلام لا في قولِ أحدِهم ولا في صورتِه ولا في معاملتِه!
تمتلئ السجون في بلاد الكفر بشباب مسلمين مدمنين على مخدِّرات وعلى جرائمَ قاموا بها!!
أهذه صورة الإسلام؟! أم هذه أوصافُ خيرِ الأنام؟! هذا حالُ المؤمنين!؟
{وَلَوْلَا رِجَالٌ مُّؤْمِنُونَ وَنِسَاءٌ مُّؤْمِنَاتٌ} ولولا بقيةٌ مِن أربابِ الصدقِ والإخلاص لكان الحالُ غيرَ الحال ولنزلَ العذابُ على الكل؛ ولكنَّا في ألطافٍ مِن الله تبارك وتعالى وفي دفعِ الحق تعالى الناسَ بعضهم ببعض. قلوب لا زالت صادقةً مع الله مخلصةً، لها عيون تبكي في الليالي، بهم يرحمُ اللهُ الأمة. لو أنَّ باكياً مِن خشيةِ الله بكى في أمَّة لرحمَ اللهُ الأمة، ويرحم القومَ كلَّهم بواحدٍ فيهم يبكي مِن خشيةِ الله تبارك وتعالى. فلولا وجودُ هؤلاءِ في شرقِ الأرضِ وغربِها لكان الحالُ غيرَ الحال..
ولكن لابدَّ أن يُظهِرَ اللهُ هذا الدين، إلا أنه يختارُ له مِن الأمَّةِ مَن يَصدُق، مَن يُؤثِرُ الحقَّ على ما سواه. الله ينظر إلينا وإلى الأمة، ويُعَجِّل بكمالِ الفرجِ وكشفِ الضيقِ والحرج.
ستقدمُ علينا في الأسبوع القادم ليالي العشر المُقسَمُ بها في القرآن {وَالْفَجْرِ* وَلَيَالٍ عَشْرٍ} وقال صلى الله عليه وسلم (ما مِن أيامٍ العملُ الصالحُ فيهنَّ أحبُّ إلى اللهِ مِن أيام العشر) قالوا: ولا الجهادُ في سبيل الله؟. قال: (ولا الجهاد في سبيل الله، إلا رجلاً خرج يخاطرُ بمالِه ونفسِه ولم يرجِعْ مِن ذلك بشيء، يعدل صيامُ كلُّ يومٍ منها صيامَ سنة، ويعدلُ قيامُ كلِّ ليلةٍ منها قيامَ ليلةِ القدر) ويعدل صيامُ يوم عرفة بصيامِ عشرة آلاف يوم، ويكفر ذنوبَ سنتين؛ السنة التي قبلَه والسنة التي بعدَه.
الله يبلِّغنا إياها ونحن في معرفة، ونحن في قُربٍ من ربِّنا، ونحن في صدقٍ مع إلَهِنا جَلَّ جلاله وفي عفوٍ وعافية إن شاء الله. وصلاحٍ لأحوالِ الأمة. ولا يُرينا في مثلِ هذا الموسم بعد عامنا نَقْصاً ولا قِلَّةً في الوافدينَ إلى بيتِ الله وإلى رحابِ حبيبِه ومصطفاه، يا كاشفَ الكُرَب عَجِّل بالفرجِ يا رب، وعَوِّضْنا عمَّا حَصَل في عامِنا هذا عِوَضاً منكَ وللأمة أجمع عظيماً كبيراً واسعاً تَقِرُّ به عينُ المصطفى وكلُّ مؤمِن.. اللهم آمين.
يا مُفَرِّج فَرِّج واجعل ليالي العشرِ تدخل علينا بنورٍ وصلاحٍ للأمور وشرحٍ للصدور وكفايةٍ ودفعٍ للشرور وأهلِ الشرور، يا بَرُّ يا غفور يا الله.
ولا تجعل قلباً في الحاضرين والسامعين إلا ملأتَه بنورِ الصدقِ معك، وهيَّأتَه لكريمِ لقائك وأنتَ راضٍ عنه يا ربَّ الأرضِ والسماء، واجعلنا في يومِ الدينِ مِن الفائزين بعَفوِك وغُفرانِك ورحمتِك ومرافقةِ حبيبِك المصطفى، واجعل عيونَنا مُشَرَّفَة برؤيةِ وجهِه، ووجهِ آدم وإدريسٍ ونوحٍ وهودٍ وصالحٍ ومَن بينهم مِن أنبيائك، وموسى وعيسى ومَن بينهم مِن أنبيائك ورُسلِك صلواتُك عليهم أجمعين، وارزقنا مرافقتَهم في دارِ الكرامة، واجعلنا في أمنِك يومَ القيامة، وأجِرنا مِن أهوالِ يومِ الطامة، وارحَم موتانا وأحيانَا بالرحمةِ الواسعةِ يا واسعَ الرحمة.. والحمد لله ربِّ العالمين.
للاستماع إلى المحاضرة: