01-2021
06

خطبة مكتوبة بعنوان: ضبط اللسان ومكانته في التقوى وأحوال المعاش والمعاد

خطبَة الجُمعَة للعَلَّامَةِ الحَبِيب عُمَر بن محمد بن حَفِيظ فِي جَامِعِ الإيْمَانِ بِمَدِينَة تَرِيم 12 رَبِيع الثَّانِي 1442هـ بِعِنْوَان:

ضَبط اللِّسَان وَمَكانَته فِي التَّقْوَى وَأَحوَال المَعَاش وَالمَعَاد                        

السَّلَامُ عَلَيْكُم وَرَحمَةُ اللَّه وَبَرَكَاتُهُ

الحمد لله رَبِّ الْعَالَمِينَ، عَالِمِ السِّرِّ وَالنَّجْوَى، وَأشهَدُ أَن لَّا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحدَهُ لَا شَرِيكَ لَه، مِنهُ الخَوفُ وفِيه الرَّجوى، وَأَشهَدُ أنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَقُرَّةَ أَعيُنِنَا وَنورَ قُلُوبِنَا مُحَمَّداً عَبْدُه وَرَسُولُه، سَيِّدُ أَهل المُرَاقَبَةِ لِلحَقِّ وَالتَّقْوَى، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَارِك وَكَرِّم عَلَى عَبدِك المُصطَفَى سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ هادينا إلَى الطَّرِيقِ الأَقوَمِ الأَقوَى، وَعَلَى آلِهِ وَأَصحَابِهِ وَمَنْ سَارَ فِي سَبِيلهم قاصداً وَجهكَ فِي السِّرِّ وفي النَّجْوَى، وَعَلَى آبَائهِ وَإِخوَانِهِ مِن الأَنْبِيَاءِ والمُرْسَلِين الَّذِين رقَّيتَهم أَعلَى المراقي، وَآلهم وَصَحْبِهِم الَّذِين سقيتَهم مِنْ خَيْرِ السَّوَاقِي، وَأتبَاعِهم إلَى يَوْمِ التَّلاقِي، وَمَلَائِكَتِكَ الْمُقَرَّبِين وَجَمِيعِ عِبَادِكَ الصَّالِحِينَ، وَعَلَيْنَا مَعَهُم وَفِيهِم بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

  أَمَّا بَعْدُ، عبادَ اللَّه: فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَنَفسِي بِتَقوَى اللَّه، تَقْوَى اللَّهِ الَّتِي لَا يَقْبَلُ غَيْرَهَا وَلَا يَرْحَمُ إلَّا أَهْلَهَا وَلَا يُثِيب إلَّا عَلَيْهَا.

 وَلَقَدْ قَالَ بَعضُ أَهلِ الْمَعْرِفَةِ مِن الصَّالِحِين: مَا رَأَيْتُ تَقْوَى إنْسَانٍ فِي لِسَانِه إلَّا رَأَيْتُ أَثَرَ ذَلِكَ عَلَى جَمِيعِ أَعْضَائِه. وَلَقَدْ قَالَ الأَتْقَى صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَسَلَّمَ: (مَا مِنْ يَوْم يُصْبِحُ ابْنُ آدَمَ إلَّا وأعضاؤه كُلُّهَا تُكَفِّر اللِّسَان، تَقُول لِلِّسَان اتَّقِ اللَّهَ فِينَا، فَإِنَّمَا نَحْنُ بِكَ إن اسْتَقَمْتَ اسْتَقَمْنَا وَإِن اعْوَجَجْتَ اعْوَجَجْنَا).

أَيُّهَا المُؤمِنُونَ بِاللَّهِ: تَقْوَى اللَّهِ الَّتِي أَصْلُهَا الإِيمَانُ وَالمَعْرِفَة، يَحِلُّ سِرُّهَا فِي الْقَلْبِ وَلَا مجالات لَهَا فِي الظاهر إلا هَذِهِ الأَعْضَاءِ، إلَّا هَذِهِ الْجَوَارِح الْمَوْهُوبَة لَهُ كَيْف يَسْتَعْمِلُهَا وَهُوَ الْإِنْسَان، مِنْ قِبَلِ وَاهِبٍ رَحْمَن وَهَبَهَا مِنْ غَيْرِ مُقَابِل، وَمَكَّنَهُ مِنَ التَّصَرُّفِ فِيهَا وَأتَمَنَه عَلَى هَذَا التَّصَرُّفِ والِاسْتِعْمَال، وَقَالَ لَهُ هَذَا مِنهاجي اصرِفْهَا فِي تَقوايَ وَسَبِيلِ رِضَاي، وَاحْذَر نَهْيِي فَإِنَّهُ سَبَبُ سَخَطِي وغضبِي وَلَا يُطِيقُ غَضَبِي شَيءٌ مِنْ خَلْقِي.

قَالَ اللَّهُ تَعَالَى وَقَدْ أَنْزَلَ أَبَانَا آدَمَ إلَى ظَهْرِ هَذِهِ الْأَرْضَ : (فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ)

وَضَبْطُ اللِّسَان وَبَقِيَّةُ الْجَوَارِحِ وَالِاسْتِمْسَاكُ بِالتَّقْوَى، مَصْدَرُه تَقْوَى الْقَلْبِ الَّتِي تَقُومُ عَلَى التَّبَعِيَّة لِلْعَبْدِ الأَتْقَى وهوَ رَسُولُ اللَّهِ مُحَمَّد.

(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ) اتِّبَاعُ هدَى اللَّه هو الْأَسَاسُ فِي الصَّلَاحِ وَالْفَلَاحِ وَالنَّجَاحِ وَالْفَوْزِ وَالسَّعَادَةِ، جسداً وقلباً وروحاً وَدُنْيَا وبرزخاً وَآخِرة.

(فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) صَدَق رَبِّي، وَكُلُّ مَنِ ادَّعَى تسليمَنا مِنْ شَقَاءٍ فِي مَالٍ أَو في مَتَاعٍ أَو فِي حَيَاةٍ أَوْ فِي أَيِّ مظْهرٍ مِنْ مَظَاهِرِ الشَّقَاء، وَأن يُجنِّبَنا الضَّلالَ بِأَيِّ شيءٍ طَرحَه مُخالفاً لِمَا جَاءَ عَن اللَّهِ وَرَسُولِه فَذَلِك كَاذِبٌ دجَّال، والأعجبُ والأغربُ مَا أَكْثَرَ أتبَاعَ الْكَذَبَةِ الدَّجاجلةِ مِنْ بَيْنِ وَسَط الْمُسْلِمِين الْقَاصِرِين الناقصِين الْمُقَصِّرِينَ فِي اتِّبَاعِ الأَتْقَى الْمُؤْتَمَن خَاتَمِ النَّبِيِّين، فَيَتَّبِعُونَ أَرْبَابَ الضَّلَال وَأَرْبَابَ الشَّقَاء وَأَرْبَابَ الْغَفْلَة، غَفَلَة عَنِ اللهِ، منَ الكَذَّابيْن الدّجَاجِلَة وَمَا أَكْثَرَ مَظَاهِرَ الدَّجل وَالْكَذب، وَإِنْ كَانَ لَهُمْ رَأْسٌ مِن الرُّؤُوسِ هُوَ أَشَدُّ الْفِتَنِ عَلَى هَذِهِ الْأُمَّةِ، يَتْبَعُه ملايين مِن النَّاسِ فِي أَيَّام قَلَائِل يُوردُهم جَهَنَّم، وَهِيَ أَشَدُّ فِتْنَةً حَذَّرَ الْأَنْبِيَاءُ مِنْهَا أُمَمَهم، وحذَّرنا سَيِّدُ المُرْسَلِينَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم وزادَنا بياناً لَم تُبَيِّنْه الْأَنْبِيَاءُ مِنْ قَبل لِأُمَمِهِم، لِأَنَّ تِلْكَ الْفِتْنَةَ فِينَا تَظْهَر وَفِينَا تَقُوم.

وَفِي هَذَا التَّحْذِيرِ عَلَى أَلْسُنِ الْأَنْبِيَاء مِن الْفِتَنِ بَيَانٌ وَاضِحٌ، لِأَنَّ نَجَاةَ النَّاسِ وَهَلَاكَهم مُترتِّبةٌ عَلَى تَبَعِيَّة، وأَنَّ الْفِتَنَ الَّتِي تستتبعُ أَهْلَ الْغَفْلَةِ وَأَهْلَ الِانْقِطَاعِ عَن اللَّهِ وَمَنْ لَمْ يَتَشَبَّعْ ذوقاً وفكراً وإحساساً بِوَحْيِ اللَّه وبلاغِ رَسُولِهِ مِنْ قَلِيلي الذِّكرِ وَقَلِيلي التَّذَكُّرِ حَتَّى يَحْضُرَ الْجُمعَةَ غَيْرُ ذَاكِر وَلَا مُتَذَكِّر، يَسْمَع الْحَقَّ يَقُولُ لَهُ:  (فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ) ، وَهو يَجِيء إلَى الْجُمعَةِ لِأَدَاء صُورَةٍ مِنَ الصُّوَرِ غَيْرَ ذَاكِرِ الْقَلْب، يَدْخُلُ الْمَسْجِدَ وَقَلْبُه مُفَكِّرٌ فِي مَتَاعِهِ أَوْ مَالِهِ أَو أَولَادِهِ أَو أَصدِقائِه أَو أَصحَابِهِ، أَو شَيْءٍ يَشْتَغِلُ بِهِ بَعدَ الْجُمعَةِ وَيَخْرُجُ مِنَ الْجُمُعَةِ كَذَلِكَ، فَلَا سَعَى إلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَلَا خَرَجَ يُكْثِرُ ذِكْرَ اللَّه، وَالْحَقُّ يَقُول: (إِذَا نُودِيَ لِلصَّلَاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَىٰ ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ) إنَّمَا يَذْكُرُ اللَّهَ مَن يَسْتَشْعِرُ أَنَّهُ جَاءَ إلَى أَدَاءِ فَرِيضَةٍ وَشَعِيرة، يَهَابُ الدُّخُولَ إلَى المَسْجِدِ وَيَدْخُل خَائِفًا وَجِلاً خاشعاً، وَيُصَلِّي بِحُضُورِ قَلْبٍ وَيَسْتَمِعُ إلَى الْخُطْبَةِ بِكُلِّيَّتِه حاملاً كُلَّ ما فيها عَلَى نَفْسِهِ وَأَهْلِهِ وأسرتِه وَأَحْوَالِه وحالاتِه، قَائِمًا إلَى الصَّلَاةِ مُكبِّراً معظِّماً مقدِّساً مسبِّحاً مُنَزِّهًا، راكعاً ساجداً خَاضِعا، ثُمَّ يَنْصَرِفُ مُذكِّراً لِأَولَادِه وَلأهلِه، مُتذاكِراً مَعَ أَصْحَابِهِ فِي مَا دَارَ وَمَا جَرَى فِي الْخُطْبَةِ وَسِرِّ الْجُمعَة، هَذَا الَّذِي سَعَى إلَى ذِكْرِ اللَّهِ.

(فَإِذَا قُضِيَتِ الصَّلَاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ) ذَكرَ اللَّه تَبَارَكَ وَتَعَالَى بَعْدَ خُرُوجِهِ كَمَا سَعَى إلَى ذِكْرِ اللَّهِ عِنْدَ مَجِيئِه، فَهَؤُلَاء لَا تَنْطَوِي عَلَيْهِم الْحِيَل، وَلَا يُسَلَّط الدجاجلةُ عَلَى اللَّعِبِ بأفكارِهم وَلَا اللَّعِب بوجهاتِهم وتصوُّراتِهم، وَلَا اللَّعِب بسلوكِهم وأخلاقيَّاتِهم.

لَكِن كَم مِن رِجَالِ المُسْلِمِين وَنِسَاءِ المُسْلِمِين ضُحِكَ عَلَيْهِم ولُعِبَ بأفكارِهم، ولُعِبَ بسلوكِهم وَأَخْلَاقِهِم، لِضَعْفِ صِلَتِهم بِالْحَقّ، لِقِلَّةِ تذكُّرِهم، لِقِلَّة ذِكْرِهِم لِلَّهِ جَلَّ جَلَاله، فَصَار الْغِشُّ يُؤَثِّرُ فِيهِم، وَالْخَدِيعَةُ تَلْعَبُ بِهِم ويُضحكُ عَلَيْهِم، وَهَكَذَا يَتَبَيَّنُ لَهُم الْحَقِيقَة (إذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبَابُ)، وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبعوا مِن الَّذِينَ اغْتَرُّوا بإطروحات الْغَافِلِين والفاجرين وَالْكَافِرِين، وَقَال: عِش حَيَاتك.. عِش زَمَانك.. تطَوَّر.. اخْرُج مِن قيودِك وكَبتِك، اسْتعْمِل الأزياءَ الْخَبِيثَةَ الخليعة، وَاسْتَعْملِ الْآلَاتِ الْمُحَرَّمَةَ، وَاسْتَعْملِ الْكَلِمَاتِ الماجنَة، وَاحْتَقر أهْلَ الدِّينِ وَاحْتَقر سَلَفَ الْأُمَّة وَاحْتَقر وَحْيَ رَبِّك، وَتَعَال إلَى تَعْظِيمِ خمَّاراتِنا وبرامجِنا وَمَا عِنْدَنَا!

وَهَذَا التَّابِعُ التَّافِهُ السَّاقِطُ يتبرَّأ منهُ الْمَتْبُوعُ فِي ذَلِكَ الْيَوْم فَيَقُول (الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا) هَذِهِ النَّتِيجَة.. (كَذَٰلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ ۖ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنَ النَّارِ * يَا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلَالًا طَيِّبًا) وَاتَّقُوا اللَّه، فَهُوَ خَالِق الْأَرْض لَكُم وَالرِّزْق فِيهَا، خَالِق الرِّزْق فِيهَا وَاَلَّذِي شَرَعَ لَكُم تقْوَى (فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ) مُتَّبِع الْهُدَى يحْسُب حِسَابَه لِلْكَلِمَة إذَا أَرَادَ أَنْ يُخْرِجَهَا مِنْ بَيْن شَفَتَيْهِ وَصَاحِب الرِّسَالَة قَدْ بَيَّنَ لَهُ الْمَثل، لِيُدْرِك الْخَطبَ الأجل وَيعْتَبرَ ويدّكرَ ويعلمَ حَقِيقَةَ الْأَمْرِ الأجَلّ.

يَقُول صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (وَرَأَيْتُ لَيْلَة أُسري بِي ثوراً كبيراً يَخْرُجُ مِنْ ثَقْبٍ صَغِير ثُمَّ يُرِيدُ أَن يعودَ من حَيْثُ خَرَجَ فَلَا يَسْتَطِيع، قُلْت: مَا هَذَا يَا جِبْرِيل؟ قَالَ: الرَّجُلُ مِنْ أُمَّتِكَ يَتَكَلَّم الْكَلِمَةَ، ثُمّ يَنْدَمُ عَلَيْهَا فَلَا يَسْتَطِيعُ أَنْ يرُدَّها)

وَهَكَذَا تَكَلَّم صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَتحَدّثَ عَنِ الْوَاحِدِ مِن هَذِهِ الْأُمَّةِ يَكْذِبُ الْكَذْبَةَ فَتُحْمَل عَنْهُ فِي الْآفَاقِ، وَالْحَمْلُ فِي الْآفَاقِ فِي الْأَزْمِنَةِ السَّابِقَة صَعبٌ وَعَبرَ التناقل مِنْ وَاحِد إلَى وَاحِد.. وَأَسْفَار تَأتِي عَلَى دَوَابٍّ وَعَلَى أَرْجُل وَمَتَى يصلُ الِانْتِقَال، وَتَسَهَّلَت وجاءتكم أَسْبَابُ الإذاعاتُ وَالتَّلْفَزَةُ وَأَسْبَابُ وَسَائلِ التَّوَاصُل كَمَا سَمَّوْهَا الاجْتِمَاعِيّ، ويَكْذِب الْكَذْبَةَ فَتُحْمَل عَنْهُ فِي الْآفَاق، ويحملُها هذا المَوْقِعُ وذاك، وَهَؤُلَاء الَّذِينَ وَصَفَهُم النبيُّ صَلى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّمَ وَوَصَف شِدَّةَ الْعَذَابِ لَهُم، لَا يَدْرُونَ كَيْفَ يَأتُون بِنفاذِ مَا قَالُوا، قومٌ لَم يحسِبوا حِسَابَهم لِلْكَلِمَاتِ الَّتِي تَخْرُجُ مِنْهُم.

ألا وَإِنَّك بِاللِّسَان يَا أَيُّهَا الْمُؤْمِن تَسْتَطِيعُ كَسبَ الْأَرْبَاحِ الْكَثِيرَةِ الْوَاسِعَةِ الْعَظِيمَةِ الدَّائِمَة، أَمرٌ بِصَدَقَة، أَمرٌ بمَعْرُوف، أَمرٌ بِإِصْلَاحِ بَيْنَ النَّاسِ.. (وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا) .

وَإِنَّ الرَّجُل لَيَتَكَلَّم بِالْكَلِمَة مِنْ رِضْوَانِ اللَّهِ لَا يظنُّ أَن تَبْلُغَ بِهِ مَا بَلَغَت يُرفع بِهَا فِي الْجَنَّةِ دَرَجَات، وَيَكْتُب اللَّه لَهُ رِضْوَانَهُ أَبَدًا.. يَرْضَى عَنْهُ أبداً بِكَلِمَة.

أَنْتَ تَسْتَطِيعُ أَنْ تَكْسَب بِاللِّسَانِ فلم تَخْسَر! أَنْت تَسْتَطِيع أَنْ تَرْبَحَ فَلِم تَهْلك؟! أَنْت تَسْتَطِيعُ أَنْ تُرفعَ فَلِم تَخْفِض نَفْسَك؟! وَتَخْتَار الْكَلِمَاتِ السَّيِّئَةَ الْقَبِيحَةَ الَّتِي يَتَلَقَّفُها أطفالُنا الصِّغَارُ مِن البَرامِج، بَلْ مِن الشَّوَارِع، بَلْ مِن الْمَدَارِس، وَنَخْشَى أَنْ يتلقَّوا بَعْضَهَا مِن الْمَسَاجِدِ وَالْعِيَاذُ بِاللَّهِ، ألفاظاً خَبِيثَةً تُبعِدُ الْعَبْدَ عَنْ رَبِّهِ، وَتُبْعِدُ الْعَبْدَ عَنْ نَبِيِّهِ، وَتُهَيِّئُه لِطُولِ الْمَسَاءَلَة يَوْمَ الْقِيَامَة (إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيَانِ عَنِ الْيَمِينِ وَعَنِ الشِّمَالِ قَعِيدٌ * مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ).

 ألَا فلنُقِمْ أَسَاسَ تَقْوَى اللَّهِ فِي قُلُوبِنَا، ولنَكسَبْ بألسِنَتِنا رِضْوَاناً وقُرباً وأُجُوراً وخَيراً بِضَبطِ هَذِه اللِّسَان، وَصَرْفِهَا فِيمَا يُحِبُّ الرَّحْمَنُ تَعَالَى فِي عُلَاه، إنَّهُ أَكْرَمُ الْأَكْرَمِينَ وَأَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ.

وَاللَّهُ يَقُولُ وَقَوْلهُ الْحَقُّ الْمُبِين: (وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) وَقَال تَبَارَكَ وَتَعَالَى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ)

 أَعُوذُ بِاَللَّهِ مِن الشَّيْطَانِ الرَّجِيم: (وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا * وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا * وَمَنْ تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا).

بَارَكَ اللَّهُ لِي وَلَكُمْ فِي الْقُرْآنِ الْعَظِيمِ، ونَفَعنَا بِمَا فِيهِ مِن الْآيَاتِ وَالذِّكْر الْحَكِيم، ثَبّتنَا عَلَى الصِّرَاطِ الْمُسْتَقِيمِ، وَأَجَارَنَا مِنْ خزيه وَعَذَابِه الْأَلِيم، أقول قَوْلِي هَذَا وَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ الْعَظِيم لِي وَلَكُمْ وَلِوَالِديْنَا وَلِجَمِيعِ الْمُسْلِمِينَ، فاستغفروه إنَّهُ هُوَ الغَفُور الرَحِيم.

الخطبة الثانية

الحمدُ لله مُحْصِي أَلْفَاظ الْقَوْل كَلِمَةً كَلِمَةً وحرفاً حَرْفًا، وَأَشْهَدُ أَن لَّا إلَهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَهُ لَا شَرِيكَ لَهُ يعْلَم السِّرَّ وَأَخْفَى، وَأَشْهَدُ أَنَّ سَيِّدَنَا وَنَبِيَّنَا وَقُرَّة أَعْيُنِنَا وَنورَ قُلُوبِنَا مُحَمَّداً عَبْدُه وَرَسُولُه، أرْفَعُ الْخَلَائِق قدراً وَأَعْلَاهُم شَرَفًا، اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ وَبَاركَ وَكَرِّمَ عَلَى عَبْدِك الَّذِي أَشَارَ إلَى لِسَانِهِ الطَّاهِر الأعذبِ الَّذِي زكَّيتَهُ، وَقَال لِلصَّحَابِيِّ: (اكْتُبْ، فَوَ الَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مَا خَرَجَ مِنْهُ إلَّا الْحَقّ)، وَالَّذِي زكَّيتَ نُطْقَه بِقَوْلِكَ: (وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَىٰ * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَىٰ) .

صَلِّ مَعَهُ يَا رَبَّنَا عَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ، وَمَن ودَّه وَسَارَ فِي درْبِه، وَعَلَى آبَائِهِ وَإِخْوَانِهِ مِن أَنْبِيَائِكَ وَرُسُلِك وآلِهِم وَصَحْبِهِم وتابعِيهِم، ومَلَائِكَتِكَ الْمُقَرَّبِينَ وعِبادِك الصَّالِحِين أَجْمَعِين، وَعَلَيْنَا معهم وَفِيهِم بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

أَمَّا بَعْدُ عبادَ اللَّه.. فَإِنِّي أُوصِيكُمْ وَإِيَّايَ بِتَقْوَى اللَّه.

 فَاذْكُرُوا وتذكَّروا، تَتَبَصَّرُوا وتتَنَوَّرُوا، وتَضبِطُوا أَلْسِنَتَكُم فِي أعمارِكُم لَا تُوقِفُكُم مَوَاقِفَ الخِزْي يَوْم الْقِيَامَة، ألَا وَكَمْ مِنْ لَاعبٍ بِلِسَانِهِ لَا تُبْقِ لَه لِسَانُه رَكْعَةً وَلَا سَجْدَةً وَلَا تَسْبِيحَةً وَلَا صَوْمًا وَلَا صَدَقَة إلَّا أَخَذَتُهَا، وحَوَّلَتُهَا إلَى صَحَائِفِ غَيْرِهِ وَهُوَ يتفرَّجُ لَا يَقْدِرُ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَب، أضَاعَهُ بِلِسَانِه الَّذي لَعبَ بِهِ ليلاً أَو نهاراً، واستسهَلَ أَن يَغْتَابَ جَارَه واستسهلَ أَن يَغْتَابَ قَرِيبَه، واستسهلَ أَن يَغْتَابَ حياً وأَن يَغْتَابَ مَيِّتاً، وظنَّ أَنَّه لَا يُحَاسَب.. ثَكِلَتْهُ أُمُّه، وَهَلْ يَكُبُّ النَّاسَ في النارِ عَلَى مَنَاخِرِهِم إلَّا حَصَائِدُ أَلْسِنَتِهم.

هَؤُلَاء عِبَادُ الرَّحْمَن، وَصَفَهُم الرَّحْمَن وَأَخْبَرَنَا مِن ضَبْطهِم الْأَقْوَال في أولِ الآياتِ قَالَ جَلَّ جَلَالُهُ: (وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا)، لا يَخْرُجُ مِنْ قَوْلِهِمْ إلَّا السَّلَام، لا تَنْطِق أَلْسِنَتُهُم إلَّا بِالسَّلَام، الْجَاهِلُون يَسُبُّون، الْجَاهِلُون يستفزُّون، الْجَاهِلُون يَشْتُمُون.. وَهَؤُلَاء يَقُولُون: سَلَام، وقَالُوا: (سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ) ، (وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَقَالُوا لَنَا أَعْمَالُنَا وَلَكُمْ أَعْمَالُكُمْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ لَا نَبْتَغِي الْجَاهِلِينَ).

 ثُمَّ قَالَ عَنْهُمْ فِي هَذَا الصَّددِ أنهم يكفُّونَ أَلْسِنَتُهم وَلَا يَخُوضُونَ مَعَ أَهْلِ الْبَاطِل، (وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا).

فبماذا يَنْطِقُون؟ وَكَيْف يَسْتَعْمِلُون أَلْسِنَتَهم؟ قَالَ: يَقُولُون: (رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ) هَذَا نُطقُ اللِّسَانِ الرَّابح، الَّذِي يُصْبِحُ بِه الْمِيزَانُ رَاجِح، يستعيذونَ بِاللَّهِ مِن النَّارِ وَيسْأَلُون أَن يَكْفِيَهم مِن النَّار (يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا) ووَصَفَهم الرَّحْمَن بِأَنَّهُم أَيْضًا يَقُولُون: (رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا) يَدْعُون الرَّحْمَنَ وَيَسْأَلُونَه.

 قَالَ صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّم: (كَلِمَتَان خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثقيلتان فِي الْمِيزَانِ، حبيبتان إلَى الرَّحْمَن، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيم) أَنْت مُؤْمِن مُسْلِم، وَنَبِيُّك يَقُولُ هَذَا الْكَلَام، قُلْ لِي كَمْ يوماً لكَ مَا قُلْتَ هَذِهِ الْكَلِمَة، حَتَّى يَوم الْجُمعَة، لَا وردَ لَك فِي الصَّبَاحِ وَلَا فِي الْمَسَاءِ، كَثِيرٌ مِن الْمُوَفَّقِين المسلمين قَالُوهَا وَلَكِنْ أَنْتَ مَا قلتَها، ورَسُولك يَقُول لَك: (خَفِيفَتَانِ عَلَى اللِّسَانِ ثقيلتان فِي الْمِيزَانِ)، أمَا تُرِيدُ أن يَثْقُلَ مِيزَانُك؟  (ثقيلتان فِي الْمِيزَانِ حبيبتَان إلَى الرَّحْمَنِ، سُبْحَانَ اللَّهِ وَبِحَمْدِهِ سُبْحَانَ اللَّهِ الْعَظِيمِ).. لَا فِي يَوْمِ الْجُمعَة أَكْثَرْتَ مِنْهَا وَلَا فِي غَيْرِ يَوْمِ الْجُمعَةِ.. ولِم؟ وَمَعَك لِسَان في ماذا تَتَكَلَّم؟ كَيْف تَسْتَعْمِله؟ وَهَبَهُ لَكَ رَبُّك! ما وَهَبَهُ لَكَ أهلُ وَسَائِل التَّوَاصُلِ الاجْتِمَاعِيِّ يا هذا! مَا وَهَبَهُ لَكَ أَهْلُ الْمُخَاطَبَة بِالسُّوء.. اللَّه الَّذِي أَعْطَاك إيَّاهَا، وأمكنَكَ أَن تَتَحَدَّثَ بِهَا، اسْتَعْمِلهَا فِي ذِكْرِهِ، يَقُولُ صلى الله عليه وسلم (أَحَبُّ الْكَلَامِ إلَى اللَّهِ أربع : سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلا اللَّهُ وَاللَّهُ أَكْبَر) وَلَأَنْ أَقُول (سُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ وَلَا إلَهَ إلا اللَّهُ وَاَللَّهُ أَكْبَرُ أَحَبُّ إلَيَّ مِمَّا طَلَعَتْ عَلَيْهِ الشَّمْس) صَلّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَعَلَى آلِهِ وَصَحْبِهِ وَسَلَّم.

ألا فلتَعلمُوا وَحْيَ اللَّه وَخطابَه إِيَّاكُم فِي ضَبْطِ هَذِهِ الْأَلْسُن، وَضَبْطِ الْكَلَامِ بِهَا، وَمُحَاسَبَةِ أَنْفُسِكم عَلَى مَا يَصْدُرُ مِنْهَا، اسْتَعْملُوهَا فِيمَا يُربِحُكم ويُريحُكم وَيَرْفَعُ دَرَجَاتِكُم عِنْدَ اللَّه، فَكَمَا أَنَّهُ بِالْكَلِمَةِ تُرْفَعُ الدَّرَجَاتُ وَيُكْتبُ الرضْوَانُ إِلَى الأبَد فَمِنَ الْكَلِمَاتِ مَا يَهْوِي بِهَا فِي النَّارِ وَيَكْتُبُ اللَّهُ عَلَيْهِ سَخَطَهُ إلَى الأبَدِ، وَالْعِيَاذُ بِاَللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى.

فَاحْذَرُوا وَأَحْسِنُوا الْحَدِيثَ، وَلَا تُصغُوا لِأَقْوَالِ الْمُغْتَابِين والسَّبَّابين والشَّاتمين والمُفرِّقين بَيْنَ الْأَحِبَّة، أُولَئِكَ شِرَارُ النَّاس، بَلْ أَشَارَ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ إيمَانَهُمْ صُورِيٌّ ظَاهِرِيٌّ لَا حَقِيقَةَ لَهُ، وَقَالَ مِنْ عَلَى مِنْبَرِهِ الشَّرِيف: (يَا مَعْشَرَ مَنْ آمَنَ بِلِسَانِهِ وَلَمْ يُفْضِ الْإِيمَانُ إلَى قَلْبِهِ، لَا تُؤْذُوا الْمُسْلِمِينَ وَلَا تَتَّبِعُوا عَوْرَاتِهِمْ، فَإِنَّهُ مَنْ يَتَتَبَّعْ عَوْرَةَ أَخِيهِ الْمُسْلِمِ يَتَتَبَّعِ اللَّهُ عَوْرَتَه، وَمَنْ تَتَبَّعَ اللَّهُ عَوْرَتَهُ فَضَحَهُ ولو فِي جَوْفِ بَيْتِهِ).

وَقَالَ عَنْ شِرَارِ هَذِهِ الْأُمَّة: (الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ، المُفرِّقون بَيْنَ الْأَحِبَّةِ) شِرَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.. أَخْبَثُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.. أَسْوَأ هَذِهِ الْأُمَّةِ.. أسقَطُ هَذِهِ الْأُمَّةِ.. أَبْعَدُ هَذِهِ الْأُمَّة عَنْ رَبِّهَا.. هَؤُلَاء المُتفيهِقون، هَؤُلَاء الْمُتَنَطِّعُون، هَؤُلَاء الْمُكْثِري الْكَلَام السَّيِّء، شِرَارُ هَذِهِ الْأُمَّةِ، الْمَشَّاءُونَ بِالنَّمِيمَةِ الْمُفَرِّقُونَ بَيْنَ الْأَحِبَّة.

ألا فاضبِطُوا الْأَقْوَالَ واضبِطوا الْأَلْفَاظَ، وَخُذُوا نَصِيبَكُم مِن الِاتِّعَاظِ وَتَهَيَّأوا لِيَوْم الْمُلَاقَاة، وَلَقَدْ قَالَ الحقّ جَلَّ جَلَالُهُ: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَىٰهُم ۚ بَلَىٰ وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ).

مَلَأَ اللَّهُ قُلُوبَنَا إيماناً ويقيناً، وَرَزقَنَا حُسنَ التَّزكِيَةِ وَالتّرْبِية لِمَا ربَّانا بِهِ عَلَى يَدِ رَسُولِهِ المصطفى مُحَمَّد، وَحَفِظَنَا مِنْ تَسْلِيمِ الزِّمَام لِشِرَارِ الْأَنَام، فَيَلْعَبوا بِالْكَلَام مِنَّا وَيلْعَبوا بِالْأَخْلَاق مِنَّا، وَيلْعَبوا بِالْفِكْر وَالتَّصَوُّر مِنَّا.

اللّهُمّ لَا تسَلِّط عَلَيْنَا كُفَّاراً وَلَا فَجَاراً وَلَا أَعْدَاءً لَك وَلِرَسُولِك، وَاجْعَل هَوَانَا تبعاً لِمَا جاء به حبيبُك الْمُصْطَفَى.

 اسْتَعْمَلُوا الألْسُنَ فِي كَثْرَةِ الصَّلَاةِ عَلَى نَبِيِّكُمْ، فَإِنَّهُ يُصَلِّي بِذَلِك عَلَيْكُم رَبُّ الْعَرْش، عَشْرَ صَلَوَاتٍ عَلَى الصَّلَاةِ الْوَاحِدَة عَلَى نَبِيِّه مُحَمَّد، وَأَنَّه الْقَائِل: (إنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِي يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَكْثَرُهُمْ عَلَيَّ صَلَاة).

وَلَمَّا أَرَادَ رَبُّنَا أنْ نَسْتَعْمِلَ الألْسُنَ فِي هَذَا الْخَيْرِ الْعَظِيمِ ابْتَدَأ بِنَفْسِه، وثنَّى بِالْمَلَائِكَة، وَأيَّهَ بِالْمُؤْمِنِين فَقَال تعظيماً وتكريماً وتفخيماً: (إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا).

 اللَّهُمَّ صَلِّ وَسَلِّمْ عَلَى عَبْدِكَ الأَتْقَى وحبيبِك الأَنْقَى، سَيِّدِنَا مُحَمَّدٍ الَّذِي لَا يَقُولُ إلَّا حقّاً، وَعَلَى الْخَلِيفَةِ مِنْ بَعْدِهِ الْمُخْتَار، صَاحِب اللَّآلِئ مِن الْكَلِمَاتِ الَّتِي تَحَدَّثَ بِهَا فِي أَوَّلِ الْخِلافَة فِي تَبَعِيَّةِ الْمُخْتَار، وَقَامَ بِهَا الْحِفْظُ لِلْأَمَّةِ مِن الانْهِيَار والانحِدار، وَصَاحِبه فِي الْغَارِ، مُؤازِرِ رَسُولِ اللَّهِ فِي حَاليِ السَّعَةِ وَالضِّيقِ، خَلِيفَةِ رَسُولِ اللَّهِ سَيِّدِنَا أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ.

 وَعَلَى النَّاطِق بِالصَّوَاب حَلِيفِ المحراب، نَاشِر الْعَدْلِ فِي الْآفَاقِ أَمِير الْمُؤْمِنِينَ سَيِّدِنَا عُمَرَ بنِ الْخَطَّابِ.

 وَعَلَى مُحْيِي اللَّيَالِي بِتِلاوَةِ الْقُرْآنِ، الذَّاكِر لِلرَّحْمَن، مَنِ اسْتَحَيْت مِنْه مَلَائِكَةُ الإلَه المنّان، ذي النُّورَيْن أَمِير الْمُؤْمِنِينَ سَيِّدنَا عُثْمَان بنِ عَفَّان.

 وَعَلَى مَنْ كَانَ مِن نبيِّكَ بِمَنْزِلَةِ هَارُونَ مِنْ مُوسَى، الْمُقتَدِي بِه قولاً وفعلاً ظاهراً وَخَفَاء، مَن جَعَلْتَهُ ابْنَ عَمِّهِ وَبَابَ مَدِينَة عِلْمِه، إمَام أَهْلِ الْمَشَارِقِ وَالْمَغَارِبِ، أَمِير المؤمنين سَيِّدِنَا عَلِيّ بن أَبِي طَالِب.

 وَعَلَى الْحَسَنِ وَالْحُسَيْنِ سَيِّدِي شَبَابِ أَهْلِ الْجَنَّةِ فِي الْجَنَّة، وَرَيْحَانتي نبيِّك بِنَصِّ السُّنَّةِ، وَعَلَى أمِّهم الحَوْراءِ فَاطِمَةَ البتولِ الزَّهْرَاء، وَبَنَاتِ الْمُصْطَفَى وَأَزْوَاجِه أُمَّهَاتِ الْمُؤْمِنِينَ، وَعَلَى آلِ بَدْرٍ وَآل بَيْعَةِ الْعَقَبَةِ وَأَهْل أُحدٍ وَأَهْلِ بَيْعَةِ الرِّضْوَان، وَعَلَى الحمزة وَالْعَبَّاسِ وَسَائِرِ أَهْلِ بَيْتِ نَبِيِّك الَّذِين طَهَّرْتَهُمْ مِنَ الدَّنَسِ وَالْأَرجَاس، وَعَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ وَالتَّابِعِينَ وَتَابِعِيهِمْ بِإِحْسَانٍ إلَى يَوْمِ الدِّين، وَعَلَيْنَا مَعَهُم وَفِيهِم بِرَحْمَتِكَ يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمّ اصرِفنا مِنْ هَذِهِ الْجُمعَةِ ونورُ تقواكَ يُلألِئ فِي قُلُوبِنَا، مُنْتَشِر إلَى جَمِيعِ أعضائنا وجوارحِنا، فنراقبُك ونضبطُ نظراتِنا وكلماتِنا واستِماعاتِنا وحركاتِنا وسكَناتِنا حَذراً مِمَّا يُغْضِبُك، وطَلباً لِمَا يُرْضِيكَ حَتَّى نلقاكَ وَأَنْت رَاضٍ عنا.

(رَبَّنَا لَا تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً ۚ إِنَّكَ أَنتَ ٱلْوَهَّابُ)

(ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ)

(رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ).

إلَهَ السَّمَاء رَبَّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ اشْمُل بِالْمَغْفِرَةِ الْوَاسِعَةِ في يَوْمِنَا هَذَا جَمِيعَ ذُنُوبِنَا، وَذُنُوبِ آبَائِنَا وأمَّهاتِنا وأجدادِنا وجدَّاتنا، وَذَوِي الْحُقُوق عَلَيْنَا وَمَشَائخِنَا فِي دِينِك، وقراباتِنا وجيرانِنا والحاضرين وَأَهْلِ دِيَارِهِم، وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَات، يَا غَافِرَ الذُّنُوب والخطيئات، يَا مُكَفِّرَ الزَّلَلِ وَالسَّيِّئَات، يَا مَنْ يَعْفُو عَن الذَّنْبِ وَيَتَجَاوَزُ عَن السَّيِّئَاتِ، يَا مُجِيبَ الدَّعَوَات، يَا قَاضِي الْحَاجَات يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِين.

 اللَّهُمّ انْظُر إِلَى أُمَّةِ حَبِيبِك مُحَمَّدٍ الَّتِي مَزَّق شَملَهَا الْأَهْوَاءُ وَاتِّبَاعُ أَعْدَائك مِنْ إِبْلِيسَ وَجُنْدِه، وَضَرَبُوا بَعْضَهمْ بِبَعْضٍ وأغرَوهُم بِالْفَسَاد، وأغرَوهم بِالْإِعْرَاضِ عَنْك وبالإقبالِ عَلَى مَا يُحَطِّمُ سعادتَهم عَلَى الْحَقِيقَةِ فِي الدَّارَيْنِ.

اللَّهُمّ خَلِّص الْمُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْضَةِ أَعْدَاءَ الدِّين، اللَّهُمَّ رُدَّهُم إلَيْك مَردّاً جميلاً يَا قَوِيُّ يَا مَتِين.

اللَّهُمَّ حَوِّل حَالَهُمْ إلَى أَحْسَنِ الْأَحْوَال، وَاسْتَعْمل أَلْسِنَتَهم فِي نُصرتِك وَنُصرَةِ حَبِيبِك مُحَمَّد، وحَمدِكَ وَذِكْرِك وشُكْرِكَ وَمَا يُوجِبُ الفوزَ يومَ لِقَائك يَا كَبِيرُ يَا مُتَعَالِ يَا بَرُّ يَا وَال.

 اللَّهُمَّ لَا تَصرِفْنَا مِن الْجُمعَةِ إلَّا وَنورُ التَّقْوَى يُشعشِعُ فِي قُلُوبِنَا، وَيَثْبُتُ فِي أفئدتِنا وَيَزْدَادُ فِي ضَمَائِرِنَا، حَتَّى لَا يَصْدُرَ مِنَّا إلَّا مَا تُحِبّ، وحَتَّى تَجْعَلَنَا عِنْدَك مِنَ التَّوَّابِينَ وَتَجْعَلَنَا مِنْ عِبَادِكَ الصَّالِحِين. اللَّهُمَّ أَعِنَّا عَلَى ذِكْرِكَ وَشُكْرِكَ وَحُسْنِ عِبَادَتِك يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

اللَّهُمّ فَرِّج كرُوبَ الْأُمَّة، وَاكْشِف عَنْهُم الْغُمَّة، واجلِ عَنْهُم الظُّلمَة، وَادْفَع عَنْهُم النِّقْمَة، وَابْسط لَهُم بِسَاطَ الرَّحْمَة، وَكُنْ لَنَا بِمَا أَنْتَ أَهْلُه فِي كُلِّ مُهِمَّة، وَزِدْنَا مِن ألطافِك وَجُودِك وَفَرِّج عَنِ الْأُمَّةِ أَجْمَعِين بِفَضْلِك وَمَنِّك يَا أَكْرَمَ الْأَكْرَمِينَ، يَا أَرْحَمَ الرَّاحِمِينَ.

 عِبَادَ اللَّهِ.. إنَّ اللَّهَ أَمرَ بِثَلَاثٍ وَنَهَى عَنْ ثَلَاث:

 (إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِۚ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ)

فَاذْكُرُوا اللَّهَ الْعَظِيم يَذْكُرْكُم، واشكُرُوه عَلَى نِعَمِهِ يَزِدْكُم، وَلذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَر.   

للاستماعِ إلى الخطبة

لمشاهدة الخطبة