خطبة جمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع التوفيق، في حارة التوفيق، تريم، 1 ذي القعدة 1442هـ بعنوان:
عمارة الأعمار كيف تكون، وماذا يترتب عليها؟
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله.. خلقَ السماواتِ والأرضَ وكان عليماً قديرا {وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}، وأشهد أن لَّا إلهَ إلا الله وحده لا شريك له، جامع الأولين والآخرين يومَ العرض عليه فَمُحَاسِبهم بما عملوا {وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعًا بَصِيرًا} وأشهد أنَّ سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدا عبده ورسوله أرسله الرحمن بشيراً ونذيراً {وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدك المصطفى سيدِنا محمدٍ القائمِ في محرابِ العبودية والشكرِ لك سِرَّاً وجهرا، والذي لا يُرَى إلا غاديَاً أو رائحا؛ ليس له التفاتٌ إلى الرَّاحةِ ولا إلى التأخُّرِ عمَّا شرعتَه على يده وندبته إليه باطنا وظاهرا، اللهم أدِم صلواتِك على الهادي إليك السراجِ المنير عبدِك المصطفى محمد، وعلى آله المطهَّرين وأصحابه الغُرِّ الميامين، وعلى مَن والاهم فيك واتبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين، وآلهم وصحبهم وتابعيهم، وملائكتِك المقربين وجميع عبادك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله.. تقوى الله التي لا يقبلُ غيرَها، ولا يرحمُ إلا أهلَها، ولا يثيبُ إلا عليها، وبها تُعمَرُ الأعمار من ساعات وأيام وليالي وأسابيع وأشهر وأعوام.
ألا: وإنَّ أعمارَنا معاشرَ الأمة المحمدية أقصَرُ أعمارِ الأمم. ألا وإنَّ الخطرَ في الأعمار التي يقضيها المُكَلَّفون على ظهرِ الأرض قائمة -عندنا وعند الأمم مِن قبلنا- إلَّا أننا معشر الأمة المحمدية يُسِّر لنا مِن ربِّنا السبيل لأن نتداركَ ونُحسِن لرَّبِّنا العمارَة للأعمار.
وأعمارُنا القصيرة إذا عمرناها بالخير وما هو أولى بنا في عبوديتنا لربِّنا نسبق بها الأممَ أهلَ الأعمار الطويلة.. مما عُمِّرَ سبعمائة عام على ظهر الأرض، وممن عُمِّر ألفَ عام على ظهر الأرض.. وأكثر مِن ذلك؛ نسبقهم في أعمارِنا القصيرة إذا أحسنَّا عمارتَها وأحسنَّا التصرفَ فيها وصرفَها فيما يرضي الله، وجنَّبناها في ساعاتنا وأيامنا وليالينا موجباتِ الخِزي والندامة وسببَ الإهدار لنعمةِ العمر العزيزة التي لا تستطيع أن تأتيَ بها مِن عند غير ربِّك، والتي وهبها لك إلهُك لتتذكر وتشكر {جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا}.
يَخلِف الليلُ النهارَ والنهارُ الليلَ بتدبيره وتقديره، لا يشاركه في ذلك مَلَكٌ ولا إنسيٌّ ولا جنيٌّ، لا فرد ولا جماعات ولا شركات ولا هيئات ولا حكومات.. كلهم يمشون تحت تقليب الليل ولنهار فمَن يقلبهما؟ كلهم يمشون تحت مضي الليل والنهار فمن يمضيهما؟ وهل تملك قوَّة على ظهر الأرض أن تُقَدَّم أو تُؤخَر؟
في هذا الكوكب الأرضي ما رتَّب المُكَوِّنُ والخالق الباريء جلَّ جلاله وتعالى في علاه {وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ آيَتَيْنِ}.
يا مغترِّين بما سمَّيتموه العلم: هل لكم قدرةٌ على تقديمٍ أو تأخيرٍ في الليل والنهار؟ على تغيرٍ لشيء منهما؟ على إطالةِ واحد في بُقَعٍ أقصرَه الله الخالق أو تقصير واحد منهما في بقعة أطالهُ الله فيها الإله الخالق.. بعلِمكم الذي تدَّعون؟ أتستطيعون أن تعملوا شيئاً من ذلك؟!
إنكم عاجزون وأنتم متكبرون، إنكم عاجزون وأنتم معاندون، متطاولون على الجبار الأعلى جلَّ جلاله. وجعل بُقَعاً في الأرض لا تأتي الشمس إليها إلا بعض أشهر العام.. مَن الذي رتَّب ذلك؟ وهل يستطيع أحدٌ مِن هؤلاء الخلقِ تغيرَ ذلك؟
فليعلموا أنهم خَلْقٌ مملوكون يجب أن يستسلموا للإله المالك، ويتركوا أصنامَ الأهواء وأصنامَ الشهوات، والأصنام التي مِن عبادتها طغَى بعضُهم على بعض، وأخذ بعضُهم حقَّ بعض، واعتدَى بعضُهم على بعض، وسُيِّرَت إمكانيات وقوى كبيرة لإضرارِ الناس بعضهم بعضا، ولتفريقِ جمعِ الناس، ولأخذ ثروات الناس إلى أنواعِ الشرور القائمةِ على ظهر الأرض.. لمَّا عبدُوا المال، ولمَّا عبدوا الأهواء، ولمَّا عبدوا الشهوات؛ ولمَّا أقاموا أصنامَ التكبر بغير حقٍّ -والعياذ بالله تعالى- انتهوا إلى هذا الأمر..
كم يرفعون مِن شعارات لا مجالَ لها في الواقع، ولا تحقيقَ لها في المسارِ والحركة؛ شعارات تُرفَع من حقوق إنسانٍ ومِن حريات ثم تُكبَّلُ الشعوب بأصنافِها بأكبالِ الأنظمة الجائرة -في الضرائب وغيرها- مما يَفرِضون ومما يُلعَبُ به على هؤلاء الشعوب.. ثم تُقَادُ عمليات القتلِ للأطفال! وللنساء وللأبرياء! تحت مظلَّات هذه الشعارات! شعارات التقدم والتطور! وحقوق الإنسان والحرية!
ما قُتِلَ الأطفال في زمن مضى كما قُتِلوا في هذا الزمن الذي يتبجَّح المتبجِّحون فيه مِن صُنَّاع القرار في العالم! يصنعون القرارَ ثم تكون هكذا الآثار! ثم يَغتَرُّ المُغتَرُّ بهم وينسى شرعَ الله! وينسى شرعَ ربِّه تعالى في علاه! ويتبع فكرةً جاءته مِن عند شرقيٍّ أو غربيٍ! لا يملك لنفسِه نفعاً ولا ضُرَّاً ولا موتاً ولا حياةً ولا نشورا!
لكنها الفتنة تُعمِي وتُصِم! حتى صارت قُوَى الناس اليوم مُشَغَّلَةً لضربِ بعضِهم البعض، وإيذاءِ بعضِهم البعض، ولهدم كُلِّ ما يُبنَى من منافعَ وخيرات، وتحطيمِ البنية التحتيَّة -كما يَكثُر سماعكم لهذا الكلام..!
وصُنَّاع القرار في العالم يرعَون هذا؟ أو يحبون هذا؟ أو هم الفاعلون وراء هذا!
وأيُّ قرارات ستُصنع مِن عند مَن كفر بالخالق الذي خلقه! ولم يخَف مصيراً يَرجِعُ إليه! ماذا يُرجى من قراره؟ ماذا يتجنب مِن خداعٍ أو كذب أو غِشٍّ أو غِلٍّ؟
ولكنها الفتن أيها المؤمنون؛ حتى يعودَ الناسُ إلى حقيقةِ الدين ولأعمارِهم يعمرون؛ بالفقهِ في دين الله، بالعملِ بشرع الله. والله لا تُعمَرُ الأعمارُ بما ينادوننا إليه مِن السهرات الخليعة، والكلمات البذيئة، والأزياء الهابطة.. والله لا تُعمَرُ الأعمار بهذا، ولا يُكتَسَبُ من وراء ذلكم شرفا ولا عِزَّاً ولا راحةً ولا نعيماً في الدنيا ولا في الآخرة!
شغلونا بالمناظر الحرام، شغلونا بالأزياء الهابطة التي تهدم القيم، شغلونا ببغض بعضنا البعض، شغلونا بكراهةِ بعضنا البعض، شغلونا بتعظيم مصنوعاتهم، ولكن نحن كُنَّا رِخَاصَاً، مَن شغلَنا بأتفَهِ شيء اشتَغلنا به وصَفَّقنا وراءه! ولو استحكمَ الإيمانُ في قلوبنا وعمرنا الأعمار لأعزَّنا الله {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}؛ ولكن الأمر كما قال سيدنا عمرُ بن الخطاب عليه رضوان الله: "إنَّا قومٌ أعزَّنا اللهُ بالإسلام فإن ابتَغينا العزةَ في غيره أذلَّنا الله".
ابتغَوا العزةَ في غيرِ الإسلام.. فاقرأ سطورَ الذُّلِّ في مختلفِ صفحات الحياة لهذا ولهذا ولهذا.. يُلعَبُ بهم حتى تُعطَى المسؤوليات صورةً لا حقيقة لها؛ مقهورٌ صاحبها تحت نظام معيَّن وإملاءات من هنا وهناك، والشعوب تئن! والصبيان تُقتَل! والنساء تُرمَّل! والبُنَى التحتيَّة تُهد! والثروات تُنسَف! والأرواح تُزَهق!..
وهكذا جزاء من غَفِلَ عن الله ولم يعمر عمرَه بتقوى إلهه جلَّ جلاله.
إنما تُعمَرُ الأعمار بالفقه في الدين، وبامتثال أوامرِ خالقِ السماوات والأرضين ربِّ العالمين. نظامُه فوقَ كل نظام، وحكمُه فوقَ كلِّ حكم، وأمرُه فوقَ كلِّ أمر لمَن آمنَ به جل جلاله.
ألا فحقِّق إيمانَك..
استقبل مرورَ الأشهر بتحقيقِ الإيمان.. أَخْرَجَ عليك رمضان، ثم انقضى بك شوال.. وفي قلبِك تعظيمٌ لحقيرٍ عند "الله"؟! وفي قلبِك إعراضٌ عن سننِ "محمد بن عبدالله" ماتَت في شخصِك وماتت في بيتك! فنَدَرَ أن يُرَى في بعض البيوت تالِيَاً للقرآن أو قائماً آخرَ الليل أو مستغفراً بالأسحار -ولكن- البيوت فيها كثرةُ المتابعين للبرامج! فيها كثرةُ المتفرِّجين على الألعاب! فيها كثرةٌ مِن الناظرين إلى الحرام إمَّا واضحا ظاهرا تواطأ عليها الأب والأم والصغير والكبير وارتفع الحياء! وإما سرَّاً في جوال وآيبادٍ وغيره من الأجهزة يضمه هذا الولد وهذه البنت وربما كانت عذراء أو ذا أو ذاك.. وخَرِبَت البيوت بهذا السلوك! وتعطَّلَت الأعمار وصُرِفَت في غير مصرفها! وتهيَّأ أصحابُها للندامة! وبئست الندامة ندامة يوم القيامة!
أيها المؤمنون بالله: كفى بالله عِزَّاً لمن آمن به، فليُعَظِّم منهجَه شرعَه ودينَه ومِلَّته، وما أرسلَ به صفوتَه وخيرتَه ورسولَه المصطفى محمدا صلى الله عليه وسلم.
ولتستقبلوا الأشهر الحُرُم بإحرامٍ قلبيٍّ عن جميع الالتفات إلى ما حرَّم الحقُّ الحيُّ القيُّوم، والعمل بمخالفة شرعِه.. لا ينبغي للمؤمن أن يُقِرَّ نفسَه ولا أهلَه ولا أصحابَه على مكروه فكيف على حرام!
لا ينبغي له أن يُقِرَّ نفسه ويرضى لها بإضاعة سُنَّة فكيف بواجبٍ وفرضٍ!
أيها المؤمن: حقق إيمانَك، واغنم زمانَك، واعمُر عمرَك القصير، فوالله إنه خطيرٌ خطير.. أحوالك في القبر والبرزخ مرتبة على هذا الحال في عمرك القصير، أحوالك في القيامة {فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ} مرتبة على أحوالك وأقوالك وأفعالك ونيَّاتك في هذا العمر القصير! حياة الأبد في الجنة أو في النار، أو في النار أوَّلها ثم الانتقال إلى الجنة.. كُلُّه مرتب على أحوالك وشؤونك في هذا العمر القصير! هذه الأعمال التي تقوم بها، هذا المصير الذي تسيرُ فيه، هذا المسلك الذي تسلكه في هذه الحياة.. كُلُّ ذاك مرتبٌ عليه.. فعمرك خطير لو عَقَلت..
اُعمُر الأبد من خلال أيام قصيرة تصبر فيها عمَّا حرَّم الله، ولا تهوى ما زيَّنه لك أعداءُ الله من أزياء ولا مِن مجون ولا مِن سفور تَغُشُّ به نفسَك وأسرتَك وبيتَك وأهلَك وأنت عنهم مسؤولٌ يومَ الوقوف بين يدي الجبَّار في يوم الهَول المَهول.
اللهم بارك في أعمارنا وارزقنا صرفَها فيما يُرضيك، واجعلنا ممَّن يرجوك ويخافك ويخشاك ويتَّقيك، سِرْ بنا مسار مَن أردتَ إسعادَهم بأعلى الإسعاد، في الدنيا والبرزخ والآخرة يا ربَّ العباد.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وقال تباركَ وتعالى: (فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم)
أعوذ بالله مِن الشَّيطان الرَّجيم:
{تَبَارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُّنِيرًا * وَهُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ خِلْفَةً لِّمَنْ أَرَادَ أَن يَذَّكَّرَ أَوْ أَرَادَ شُكُورًا * وَعِبَادُ الرَّحْمَٰنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْنًا وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامًا * وَالَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّدًا وَقِيَامًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذَابَ جَهَنَّمَ ۖ إِنَّ عَذَابَهَا كَانَ غَرَامًا * إِنَّهَا سَاءَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَٰلِكَ قَوَامًا *وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ ۚ وَمَن يَفْعَلْ ذَٰلِكَ يَلْقَ أَثَامًا * يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ ۗ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَّحِيمًا * وَمَن تَابَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتَابًا * وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا * وَالَّذِينَ إِذَا ذُكِّرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْهَا صُمًّا وَعُمْيَانًا * وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَاجْعَلْنَا لِلْمُتَّقِينَ إِمَامًا * أُولَٰئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِمَا صَبَرُوا وَيُلَقَّوْنَ فِيهَا تَحِيَّةً وَسَلَامًا * خَالِدِينَ فِيهَا ۚ حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَمُقَامًا * قُلْ مَا يَعْبَأُ بِكُمْ رَبِّي لَوْلَا دُعَاؤُكُمْ ۖ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزَامًا}
باركَ الله لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا من خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد لله مُكَوِّرِ النهارِ في الليل والليل في النهار، وأشهدُ أن لَّا إله إلا الله وحدَه لا شريكَ له المُتَفَرِّدُ بالقدرةِ والإيجاد والاختراعِ والإنشاء للكون وعظيم الاقتدار، وأشهد أن سيِّدَنا ونبيَّنا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه ونبيُّه المصطفى المختار. اللهم صَلِّ وسلِّم على عبدِك المجتبى سيدنا محمد، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، ومَن والاهم فيك وعلى منهاجهم سار، ولم يستبدل بهم قدوةً من المنافقين ولا الكفار ولا الأشرار، وعلى آباء نبيِّك وإخوانه من النبيين والمرسلين وآلهم وأصحابهم ومتبعي الآثار، وعلى ملائكتك المقربين وجميع عبادك الصالحين يا كريمُ يا غفَّار، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين يا ذا الغيثِ المِدْرار.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإيَّايَ بتقوى الله.
فاتقوا اللهَ في الأيام والليالي تحظَوا بنُورِها المُتلالي، واعمروا أعمارَكم، تفقَّهوا في دينكم؛ فإنه لا يلقى اللهَ عبدٌ بعدَ الشرك بالله بذنبٍ أعظم مِن جهالةِ أهلِ بيتِه بأمورِ دينهم. تعلَّموا ما شئتم ما ينفع ولا يضر ولكن تحت علم الشريعة. قدِّموا علمَ الدين وعلمَ أحكام ربِّ العالمين على كُلِّ علم؛ فمنه ما هو "فرض عين" على الجميع فـ (طلبُ العلم فريضةٌ على كلِّ مسلم)، ومنه ما هو "فرض كفاية" ومنه ما هو" سنة".. فخذوا نصيبَكم.
أما من "فرض العين" أنت وزوجتك وبنتك وابنك لا عذر لكم قطُّ، ولا رخصة في ترك تعلُّم الواجب الفرضي العَيْنِي؛ فذلك فرضٌ فرضه الله علينا لنُحسِنَ القيامَ بعبادته على ظهر الأرض؛ وهي الخلافة التي من أجلها خُلقِنا والسبب الذي به نسعد في الأبد.
أيها المؤمنون بالله: تُعمَرُ الأعمارُ بتقوى اللهِ بحسن امتثالِ الأوامر، فكيف يعمر عمرَه من تشرقُ الشمس عليه وهو نائم، وزوجتُه نائمة، وأولاده نائمون لم يصلُّوا صلاةَ الصبح! ضيَّعوا العمرَ، ما عَمَرُوه! ما عرفوا قدرَه.. ما الذي أخَّركم؟ أَسَهَرٌ؟ وفي أيِّ شيء سهرتِم؟ ولو كان لكم سَهَرٌ.. فما مقدارُ فريضةِ الله عندكم؟ ولِمَ لم تقوموا مِن أجلها؟ والمنادي ينادي: "الله أكبر" فهل جوابك أنَّ نومي أكبر؟! والمنادي ينادي: "أشهد أن لَّا إله إلا الله" فهل تُشرِك معه شيئاً مِن راحَاتِك ونفسك؟! والمنادي ينادي: "أشهد أنَّ محمدا رسول الله" فهل استبدلتَ به قدوةً غيره؟! والمنادي ينادي: "حيَّ على الصلاة" فما الذي أخَّرك؟ ويقول لك: "الصلاة خير من النوم" ألم تصدقه؟ والأمر كذلك..
أين عمارةُ العمر عند مَن إذا مَن جاءت مناسبة في بيته جاء بالمكروهات والمحرمات وعملها وبالمايكرفونات كذلك -بمكبرات الصوت-! هذا يخرب بيته ويخرب أسرته ويظن أنه يفرح أو يُسَر! وميزان الفرح عندنا والسرور بما أباح المَلِكُ الغفور من غناءٍ مباح من حرة مباحة من غير اختلاط، من غير تبرُّج، من غير كلامٍ بذيءٍ هابطٍ!
فمن الذي زيَّن لهذه العقليات أنَّ السرور والفرح إنما يكون بالكلام البذيء الهابط الساقط؟ أو بالاختلاط؟ أو بآلات محرمة؟ مَن قال لهم ذلك؟ وكيف صدَّقوا ذلك!
إنها الفتنة، إنها الجهالة، إنها الغفلة، إنه الضلال!
أيها المؤمنون بالله: اعمروا أعمارَكم بتجنُّبِ ما حرَّم الله.. بل بما كَرِه، واعمروا أعمارَكم بإقامة الفرائض والنَّوافل. ولم تُعهَدُ على مدى القرونِ عامَّة بيوت أهل البلدة بل أهل الوادي إلا وفيها النصيب من القرآن والنصيب من قيام الليل.. حتى عند العامي منهم، ورجالا ونساءً ومستغفرين بالأسحار ومستغفرين قبل طلوع الشمس وقبل غروبها.. وغير ذلك، وأخلاق، وقِيَم، ومنهج ربَّاني تُعمَرُ به البيوت.. بهذا تُعمَرُ البيوت.
بهذا فاعمروا أعمارَكم، وتهيأوا لمصيركم الكبير من خلال عمارة هذه الأعمار، وليس يتَحَسَّر أهل الجنة في الجنة على شيء إلا على ساعة مرَّت بهم لم يذكروا الله فيها.. فكيف بساعة عصى فيها العاصي! تجرَّأ على الجبَّار جَلَّ جلاله وخالف أمره!
أيها المؤمنون: أحسنوا تربية أبنائكم وأولادكم وبناتكم وأهليكم ومَن وُلِّيتُم عليهم؛ فـ (كلكم راعٍ وكلكم مسؤول عن رعيته)، أن يكونوا لكم قُرَّة أعين يومَ يقوم الأشهاد، وهذا دعاء عباد الرحمن {وَالَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا هَبْ لَنَا مِنْ أَزْوَاجِنَا وَذُرِّيَّاتِنَا قُرَّةَ أَعْيُنٍ}.
أيها المؤمنون: واستقبلوا الأشهر الحُرُم -ذا القعدة، وذا الحجة، ومحرم- بإحرامٍ قلبيٍّ تقصدونَ به وجه الله وتُقبلون عليه وتتركون ما حرَّم، وأبشروا بخيراتٍ كبيرة. وفي ذلكم مفتاح الفرج للمسلمين والغياث للمسلمين. إنَّ الذي يَمُدُّ يده ليُغَاثَ من قِبَلِ الجَبْهَة الفلانية والدولة الفلانية كباسط كفَّيه إلى الماء ليبلغ فاه وما هو بالغه!
اطلبوا خلاصَكم من عند مَن بيدِه تقليبُ القلوب وتصريف الأمور مَلِكُ المُلْك، أطيعوه تُسعَدُوا {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَىٰ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِم بَرَكَاتٍ مِّنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَٰكِن كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُم بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}.
فلا تلجأوا إلا إليه، ولا تعتمدوا إلا عليه، وأصلحوا ما بينكم وبينه.. يُسَخِّر لكم الحُكَّام والكفار والفجار المؤسسات والهيئات والقريب والبعيد ويُذِلُّها تذليلا، وإلَّا تَسَلَّطَت عليكم ولَعِبَت بكم لَعِبَا؛ ثم لا تُدركون منها غاية إلَّا ما تسمعون بآذانكم وترون بأعينكم من واقع الأمة اليوم.
اكشف الغُمَّة يا ربّنا، وادفع البلايا يا إلهنا، وحوِّل الأحوال يا غوثنا إلى أحسن الأحوال، وارزقنا صدق الإقبال عليك يا كريم يا وال.
وأكثروا الصلاة والسلام على مفتاح باب الرحمة نبيِّ الأمة نبي الرحمة المنقذ من الغُمَّةِ والظُّلْمَة "محمد بن عبدالله" السِّراج المنير؛ فإنَّ ربَّ العرش يصلي على مَن صلَّى على نبيِّه محمد مرة واحدة عشر صلوات من رَبِّ العرش العظيم، وإنَّ أولى الناس به يوم القيامة أكثرهم عليه صلاة، واسمعوا ما قال ربكم جلَّ جلاله تعظيما وتكريما وأَمْرَاً لكم مُعَمَّماً تعميما: {إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ ۚ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
اللهم صلِّ وسلِّم على الرحمةِ المهداة والنِّعمَةِ المُسدَاةِ والسراجِ المنير عبدِك المصطفى سيِّدِنا محمدٍ، وعلى الخليفةِ مِن بعدهِ المُختار، وصاحبهِ وأنيسهِ في الغار، مؤازرِ رسول الله في حالَيِ السَّعةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيدِنا أبي بكر الصديق، وعلى الناطِقِ بالصواب، حليفِ المحراب، ناشرِ العدلِ في الآفاق على منهج الهدى والصَّوابِ، أميرِ المؤمنين سيدنا عمرِ بن الخطاب، وعلى مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، مَنِ استحيَت منهُ ملائكةُ الرَّحمن، مُنفِقِ الأموال في طَلَبِ الرِّضوان، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخِ النَّبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمام أهل المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيِّدنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنة، وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنة، وعلى أمِّهِما الحَوراءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى بنات نبيك الكريم وأزواجه الطاهرات أمهات المؤمنين، وعلى أهلِ بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ العقبَةِ وأهل بيعة الرِّضوان، وسائر الصَّحبِ الأكرمين وأهل البيت الطاهرين، وعلى مَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام وانصر المسلمين، اللهم أذِلَّ الشرك والمشركين، اللهم أعلِ كلمة المؤمنين، اللهم دَمِّر أعداء الدين، اللهم اجمع شمل المسلمين، اللهم ألِّف ذات بينهم وبارك لهم في أشهرهم هذه، وأنقذهم من سلطة الأعداء وعُضَالِ الدَّاء وكُلِّ بلاءٍ فيما خَفِيَ وفيما بدى، بيدك الأمر كلُّه فهيأ لهم توبةً ومسلكاً حسَنَاً ترضى به عنهم وترفع به وتدفع البلايا والآفات وتجمع شملهم بعد الشَّتات، وتُمِدُّهم بأتمِّ التوفيقات وإلى موجبات السَّعَادات في الظَّواهر والخفيَّات في الدنيا والآخِرَات، يا مالك الدنيا والآخرات يا ربَّ الدنيا والآخرات، يا منشيء الأرضين والسماوات، يا جامع الخلائق ليوم الميقات ثبِّتنا أكمل الثَّبَات، ثبِّتنا على الحقِّ فيما نقول وثبِّتنا على الحقِّ فيما نفعل وثبِّتنا على الحقِّ فيما نعتقد، واجعل كُلَّ واحدٍ مِنَّا مفتاحا للخير مغلاقا للشر سبباً لنشر الهداية والنور.
اللهم وادفع عنَّا وعن الأمة جميع الشرور وحوِّل الأحوال إلى أحسنها يا عزيزُ يا غفور.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
{رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
احفظ الحرمين الشريفين وبلادنا وبلاد المسلمين، وخَلِّص اللهم بيت المقدس وأولى القبلتين من اعتداء وظلم الظالمين، ورُدَّ كيدهم في نحورهم وادفع عن المسلمين جميع شرورهم وأصلح أحوال الأمة أجمَع يا من للدعاء يسمع.
يا ربُّ يا ربُّ يا ربُّ يا كريمُ ارفع جميع البلايا وادفع برحمتك يا أرحم الراحمين.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ الله أكبر.
للاستماع إلى الخطبة:
للمشاهدة: