محاضرة العلامة الحبيب عمر بن حفيظ، ضمن سلسلة إرشادات السلوك، ليلة الجمعة 8 ذو القعدة 1442هـ في دار المصطفى بتريم، بعنوان:
ممر الحياة ومسارات أهلها والعواقب العظيمة
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيم
الحمد للهِ ربِّ العالمين، يكتبُ في الأعمارِ القصيرة لأهل التوفيق حيازةَ المواهب الكبيرة والمنن الوفيرة، والسعادة الكبرى، سعادة الأبد والدوام، ومرافقة خير الأنام، وعطايا من الله عِظَام، عُرِضَت على العقول وعلى القلوب من الحقِّ سبحانه وتعالى علَّام الغيوب بواسطة الأنبياء والمرسلين..
وجعل اللهُ للاختبار على ظهر هذه الأرض إبليس وجنده ومعه من النفوس والأهواء وزُخرفِ الحياة الدنيا ما يَصُدُّ وما يقطعُ العبادَ عن إدراكِ حقيقةِ نداءِ إلههم ومقصودِ خَلقهِم ووجودِهم على ظهر هذه الأرض.. ومنهم مَن يَغتَر بمادَّة، ومنهم مَن يَغتَر بظهورٍ وشهرة، ومنهم مَن يَغتَر بصورة، ومنهم مَن يغترُّ بشهوات، ومنهم مَن يغتر بأسلحةٍ وقوة عسكرية، ومنهم مَن يغتر بشيءٍ مِن شؤون الزراعة والأرض أو شؤون البحار أو غيرها مما تَوَزَّعَ الناس فيه مما ظنوا أنه الغاية -وأكثرهم كما قال الحق فيمن جاء بعد الأنبياء مُتَنَكِّبَاً عن طريق الحق: {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ ۖ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا * جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمَٰنُ عِبَادَهُ بِالْغَيْبِ ۚ إِنَّهُ كَانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا * لَّا يَسْمَعُونَ فِيهَا لَغْوًا إِلَّا سَلَامًا ۖ وَلَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيهَا بُكْرَةً وَعَشِيًّا * تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبَادِنَا مَن كَانَ تَقِيًّا}
ألحِقنا بأهل التُّقَى يا رب، وإن صَدَرَت مِنَّا المخالفاتُ والمعاصي والسيئات نتوبُ إليك منها ونستغفركَ منها فاغفرها لنا.. فاغفرها لنا وتجاوز عنَّا، واجعلنا ممَّن تاب وآمنَ وعمل صالحاً فبدَّلتَ سيئاتِهم حسنات، يا مجيبَ الدعوات يا الله..
فما اجتمعنا إلا إيماناً بك، وتصديقاً بكتابك، ووفاءً بعهدِك، واتباعاً لسنةِ نبيك، واستعداداً للقائك فاقبَلنا على ما فينا وأقبِل بوجهِك الكريم علينا يا ربَّ.. يا أكرمَ الأكرمين.
ولم تَزل دعوتُه تعالى على أَلْسُنِ أنبيائه، ثُمَّ مَن حملَها من خلفائهم مِن بعدهم.. تَسْرِي لها بإذنه وبقدرته سِرَايَاتٌ إلى القلوب والعقول؛ فيَهدِي بها ذا ويُقَرِّب بها ذا ويُسعِد بها ذا، ولم تزل الظلماتُ عند أهِلها والضلالات. وأخفَى الله على الخلقِ الخواتيمَ ليدوموا على خشيتِه وعلى الرَّغبَةِ فيما عنده ويطلبوا الثَّبات على الصراط المستقيم.. حتى يأتي لأحدهم الحِمَام.. ومنهم الذي يُختَم له بحسن الختام؛ فله السلام ودار السلام ومرافقةُ خير الأنام والقوم الكرام، ومنهم مَن يزيغ ويزل، ومنهم من لا يطرق باب الهدايةَ أصلا ولم يَقرُب منها طولَ عمره..
وتنقضي الأعمارُ على هذه الأحوال بهؤلاء الناسِ على ظهر الأرض، ثم تظهر الحقيقةُ للجميع مِن أوَّلهم وآخرهم، وسيضمُّهم برزخٌ لا مكان فيه للإلحاد، لا مكان فيه للجحود، لا مكانَ فيه لنصرانية بعد أن بُعِثَ محمدٌ صلى الله عليه وسلم، ولا ليهودية ولا لبوذيَّة، ولا لشيء من هذه الأفكار الدائرة بين الناس؛ ويَتَبَيَّن أنها كلَّها ضلالٌ، كلها شر كلها ظلمة؛ وأنَّ الحقَّ والنورَ في ما أوحى اللهُ إلى بدر البدور: {قَدْ جَاءَكُم مِّنَ اللَّهِ نُورٌ وَكِتَابٌ مُّبِينٌ * يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلَامِ وَيُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَيَهْدِيهِمْ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ}
أخرِجنا مِن الظلماتِ إلى النورِ بإذنك يا رب، واهدِنا الصراطَ المستقيم يا رب.. الظلمات التي تحومُ على الأفكارِ أخرِجنا منها، والظلمات التي تُنَازِلُ القلوبَ أخرِجنا منها، والظلمات التي تكون في المعاملة أخرِجنا منها، وظلماتِ الديار والمنازل والمقابلاتِ والنِّيَّات والمقاصد أخرِجنا منها إلى النورِ المشرقِ المبين المضيء، واجعلنا مِن خَوَاصِّ مَن به يستضيء، وثبِّتنا على الصراط المستقيم يا عليُّ يا عظيمُ، يا منَّانُ يا كريم، يا رحمنُ يا رحيمُ يا الله.. يا الله.. يا الله..
وتُحَدَّثون عن آثارِ هذا النور، وتُدعَوْنَ إلى أن تُدرِكُوا في العمرِ القصير سعادةَ الأبد؛ بحسن المسير، وصفاء الباطن، وتقديم شرعِ الله وأمرِه على الأهواء والشهوات والأنفس؛ لتنجحوا في هذا الاختبار {خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ۚ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ}.
وتسمعون عن مثل هذه الآثار -ليست عَبَث- وعن تَحَرُّكَات هذه القلوب.. وبأيِّ الدواعي.. وأن يأتي واحد قبل ثلاث سنوات مِن عيشة كانت مرَّت به حياتُه في مثل (كندا) ثم يجد من النور ما يُعَلِّق قلبَه بشيءٍ أسمَى من الزُّخرف وأسمى من المظهر وأسمَى من أن يُغترَّ بشيء من هذه المادَّة التي ربما قلوبُ كثير من المسلمين مُعَظِّمة لها على غير بيِّنة، على غيرِ بصيرة، على غير هدى.. متلفتة إليها على غير هدى، أو تهواها! وما أدركت هوايةَ القُربِ من رَبِّ العالمين!
وأعلى ما يُذاق في شأنِ هذه القلوب على ظهرِ الأرض حُبٌّ في الله وبغضٌ في الله؛ به يتصفَّى العبادُ من درَنِ الاستعبادِ لغيرِ الله تبارك وتعالى أن يستعبدَهم شيءٌ من الكائنات.. أفكار أو ألعاب أو مادة أو شهوات أو سلطات.. وإلى غير ذلك؛ يتحررون عنها فيبقى حبه "لله" وبغضه "لله" (مَن أحبَّ للَّهِ وأبغضَ للَّهِ وأعطى للَّهِ ومَنَعَ للَّهِ فقدِ استَكْملَ الإيمانَ)
(فقدِ استَكْملَ الإيمانَ) تَحرَّر من الأدران، تَحرَّر مِن قبضة العدو الذي قال {لَآتِيَنَّهُم مِّن بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَمِنْ خَلْفِهِمْ وَعَنْ أَيْمَانِهِمْ وَعَن شَمَائِلِهِمْ ۖ وَلَا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شَاكِرِينَ * قَالَ اخْرُجْ مِنْهَا مَذْءُومًا مَّدْحُورًا ۖ لَّمَن تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنكُمْ أَجْمَعِينَ * وَيَا آدَمُ اسْكُنْ أَنتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ..} وجاب قصتنا مِن بدايتها وما أكرَمنا الله به من تعليم أبينا آدم وأمرِ الملائكة بالسجود له وإدخاله الجنة وخلق زوجته حواء.. ثم ما أهبطه إلى الأرض {..فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُم مِّنِّي هُدًى فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلَا يَضِلُّ وَلَا يَشْقَىٰ * وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَىٰ * قَالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمَىٰ وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا * قَالَ كَذَٰلِكَ أَتَتْكَ آيَاتُنَا فَنَسِيتَهَا ۖ وَكَذَٰلِكَ الْيَوْمَ تُنسَىٰ}
ليس البصر ما آتيتُك من ظَاهِرِهِ الجَسَدَانِيّ في عالم الدنيا تُبصِرُ به الصورَ والألوانَ والأشكال والأجسام؛ البصر الحقيقي: أن تسمعَ آياتي بالتَّصديق وتعمل بمقتضاها فلا تنساها؛ فلا ننساك هذا اليوم مِن رأفتِنا ورحمتِنا وعفوِنا وتجاوزِنا وإنعامِنا.. لكنك نسيتَ الآيات، أي: فأنت الأعمى من قبل، وإن كنت مغترَّاً بظاهر البصر {وَقَدْ كُنتُ بَصِيرًا} أي: ظاهر البصر أي: ما عندك بصر {وَمَن كَانَ فِي هَٰذِهِ أَعْمَىٰ فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمَىٰ وَأَضَلُّ سَبِيلًا}.
أعِذنا اللهم مِن عمَى القلوب، يقول ربنا جلَّ جلاله: {فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَٰكِن تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ}.
ومِن آثار هذه الدعوةِ نُصِبَت لنا هذه الموائد، وكانت معنا هذه التَّرِكَة وهذه الخلافة لمحمد صلى الله عليه وسلم، وأعلاها وأعظمها فيما خلَّف لنا القرآن الكريم والسنة الغرَّاء، وترجمتها ومعناها في صحابة وآل بيت وصالحين وتابعين من العلماء العاملين في كُلِّ قرنٍ وزمنٍ لا يُخلِي اللهُ منهم الأزمانَ -فضلا منه- قرآن وترجمته، سنة وترجمتها؛ بقلوب، بأذواق، بأحوال، بأرواح.. هم أهل ترجمة القرآن. وإلا كُلَّاً يعرف يقرأ القرآن.. مؤمن وكافر، صادق وكذاب، مخلص لله ومرائي يلعب بكتاب الله تعالى (ورُبَّ تالٍ للقرآن والقرآن يلعنه).. لكن الله ما ترك لنا القرآنَ وحدَه؛ حفظ لنا القرآنَ ولحفظِ القرآن حَفِظَ لنا القلوبَ التي فيها نورُ القرآن، وحَفِظ لنا الأرواحَ المتنوِّرَةَ بنور القرآن، وحَفِظ لنا الترجمةَ للعمل بما في القرآنِ في الصالحين مِن الهُدَاةِ المهتدين الذين أشار إليهم سيِّدُ المرسلين: (لا تزال طائفةٌ من أمتي ظاهرين على الحق) وأشار إليهم بقوله: (يحمل هذا العلمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عدولُه..) وتكلَّم عما يتعرَّض له هذا العلم وهذا الهدى، قال: (.. ينفون عنه تحريفَ الغالين وانتحالَ المبطلين وتأويلَ الجاهلين) تحريف وانتحال وتأويل باطل يحصل للكتاب وللسنة؛ ولكن هذا الصنف من الناس هم الذين يحمُون الأمةَ مِن هذا الزيغ، هم الذين يحمون الأمةَ مِن هذا اللعب بآياتِ الله وبسنةِ رسوله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم ومِن التلبيس فيها والتدليس بها، (فلا تزال طائفة من أمتي) نعمة مِن نعمِ الله جل جلاله..
وكان أوائلهم الصحابة وآل البيت الطاهر، ثم مَن اصطفاهم الله في الأماكنِ والعصور والقرون واحدا بعد واحد، ومنهم مِن عترتِه الطاهرة أخيار أبرار لا يزالون مقترنين بالقرآن كما أخبر في حديثِه الصحيح: (.. لن يتفرَّقا حتى يَردا عليَّ الحوضَ يومَ القيامة) -أدخلنا الله وإياكم فيهم وجعلنا معهم نَرِد على هذا الحوض المورود- ..
قُرَنَاء للقرآن لن يتفرَّقا ** حتى يكونا أولَ الوُرَّادِ
أول الواردين على الحوضِ المورود في يوم القيامة، و: (مَن شرب منه شربةً لا يظمأ بعدها أبدا)
الله يطيِّب لنا ولكم الورودَ على هذا الذكر وهذا التذكير وهذه المجالس المؤسَّسة بتأسيسِه صلى الله عليه وسلم، وما تناولتها مِن بعده إلا قلوب وأيادي أُمنَاء فُطنَاء أتقياء أقاموها على النَّهَج، وأقاموها على المَسْلَك.. عليهم رضوان الله تبارك وتعالى
فبالحقِّ فلنأخذ عُلُومَ طَرِيقِهِم ** يَدَاً بِيَدٍ حتى مقام النُّبُوَّةِ
فالحمد لله على وجودِها وبقائها.. ويُحسِن اللهُ ورودَنا عليها ليَحسُن الورودُ في ذاكم اليوم على الحوض المورود..
فهذه أحواضُه المعنوية في الدنيا.. يَرِد عليها مَن يَرِد ويَفِد عليها مَن يَفِد، ويُسقَى بها مَن يُسقَى منها ويَشرَب بها مَن يَشرَب. وهناك تكون ترجمة الشرب وترجمة السُّقيَا من اليد الشريفة الكريمة ويأمر -كما جاءنا في الأحاديث الصحيحة- سيدنا علي بن أبي طالب يَسقِي بيده أعداداً من هذه الأمة ومن هؤلاء المؤمنين يَغرِف لهم من الحوض المورود.. والأكواب منهم من يشرب بنفسه.. -وهم درجات- وأول وفد وثاني وثالث وألوف.. مسيرته (ما بين صنعاء وإيِلْيَاء) كما بين صنعاء وإلى مكة، و (من صنعاء إلى إيلياء) يعني إلى بيت المقدس.. وعرضه عُرْض مسيرة شهرين حوض المصطفى صلى الله عليه وعلى آله صحبه وسلم يَرِد عليه الصالحون مِن أمَّته..
اللهم اجعلنا في أوائلِ الواردين على حوضِ حبيبك الأمين..
يا ربِّ وطيِّب لقلوبِهم وأرواحِهم -الحاضرين والسامعين- الورودَ على هذه الأحواض الفيَّاضة بالخير وبالنور وبالدلالة وبالصِّلَةِ وبالروابط يَسعَد بها مَن يَسعَد ويفوز بها مَن يفوز ولخَيرها يحوز. ذا هنا وذا هنا وذا هنا.. والمحروم محروم سواء كان من حيث المكان قريب ولَّا بعيد. الله لا يجعل فينا محروم، ولا في ديارنا محروم، ولا في آبائنا وأهلنا محروم.. يا حي يا قيوم لا تَحرِمنا خيرَ ما عندك لشَرِّ ما عندنا فضلاً وإحسانا يا أكرمَ الأكرمين ويا أرحمَ الراحمين.
ولِتعرف أنَّ أمثالَ هذه المجالس فيما يَسقِي اللهُ القلوب ويُنَوِّرُها به ويُقَرِّبُ العباد إليه ويربطُهم بشريفِ المواقف في القيامة؛ أنَّها رأسٌ في ذلك وأساس؛ تقرأ الآية الشريفة فيما أوحى إلى أكرم خلقِه وأقربِهم إليه وأعرفِهم به: {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم..} اذهب عندهم واجلس معهم {وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ..} "يريدون وجهَه" هذا مظهر التَّحَرُّر الأكبر والحرية العُظمَى؛ ما لهم إرادة لغير وجه رَبِّ العباد القوي المتين الحيِّ القيوم الذي لا يموت.. نِعْمَ القوم المتحررين.. نِعْمَ القوم الأحرار من كُلِّ رِقٍّ للأغيار.. {يُرِيدُونَ وَجْهَهُ}، قال الله لحبيبه: {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ ..} هم هم هؤلاء.. نظرُك إليهم وشغلُك معهم ورابطتُك بهم {وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا..}
والصنف الثاني ليكون على بصيرة وعلى إدراك وعلى وعيٍ لوحيِ الله.. قال في صنفٍ يعيشون معكم انتبه منهم: {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ..} قال الذين هم بهذه المثابة لا تُسَلِّم زمامَك لهم ولا تأخذ رأيَك منهم ولا تكن منقاداً لأحد منهم {ۖوَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا..} لو كان له خير عندي ما غَفَلَت قلبه عن ذكري.. جعلته يتعلَّق بلعب أو بمسخرة أو بدنيا أو بسلطة.. وعايش معها طولَ عمره.. نسي ربَّه ونسي قرآنَه ونسي أدبَه مع الله جلَّ جلاله وتعالى في علاه.. قال لو كان فيه خير ما أُغفِل قلبه عن ذكري.. اتركهم هؤلاء {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا..} ضائعا مهملاً {وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا * وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ ۖ فَمَن شَاءَ فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاءَ فَلْيَكْفُرْ}
اللهم إنا نسألك الإيمان، وقوة الإيمان، وزيادة الإيمان، وعلم اليقين، وعين اليقين، وحقَّ اليقين، وحشراً مع المؤمنين
رَبِّ احينا شاكرين وتوفنا مسلمين ** نُبعَث من الآمنين ** في زمرة السابقين
بجه طه الرسول جُدْ ربَّنا بالقبول ** وهَبْ لنا كُلّ سُول ربّ استجب لي آمين
وما هذه الحياة الدنيا إلَّا عبرة لمن اعتبر، وفرصة لمَن اغتنم، ومَرْقَى لمن أراد الرُّقِي. وكُلُّ مَن تَخَلَّص مِن رِقِّ الأغيار فهي له سُلَّم للدرجات، وسبب لحيازةِ أكبر السعادات، ومَن غَفِل ومَن اِتَّبَع الهوى ومَن ضلَّ عن سواءِ السبيل فهي سببُ بلاه وسببُ شقائه وسببُ عذابِه الكبيرِ المهِين الغليظِ الشديد – أعاذنا الله مِن العذاب وأجارَنا إنه أكرمُ الأكرمين-..
ونراه أمام أعيننا.. يخرج منها البرُّ والفاجر والصغير والكبير. في أيامِنا القريبة فقَدنا الكثير من أخيارنا وصلحائنا وعلمائنا.. وراح فيها مِن الفجار والأشرار وآل النار كثير.. والكل خرج مِن ذه الدنيا.. الكل خرج، وما أحد منعه من الخروج من ذي الدنيا لا فسادُه ولا صلاحه، ولا تقواه ولا معصيتُه.. كلهم خرجوا؛ لأن الحكم مِن فوق جاء من عند واحد ما يُرَدُّ حكمه، لا أحزاب تقدر ترد حكمَه، ولا سلطات تقدر ترد حكمَه، ولا صُنَّاع قرار يقدرون يردُّون حكمَه، ولا معسكرات تقدر ترد حكمَه؛ وحكمُه نافذٌ على آل المعسكر وعلى قوَّاتهم وعلى رؤساؤهم وعلى صغارهم وعلى كبارهم.. كما يجري على الفقير والضعيف والحقير سواء بسواء.. كلهم في يده سواء {مَّا مِن دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا ۚ إِنَّ رَبِّي عَلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ} جل! جلاله..
وفقدنا مِن أهل العلم ومن أهل الفضل والإحسان حبيبنا/ حامد بن محمد بن عبدالله بن شهاب الدين أعلى الله درجاته. والعالم الجليل السيد/ إبراهيم الخليفة عليه رحمة الله تبارك وتعالى، عَلَم من أعلام العلم والتقوى والبر والإنابة والدعوة إلى الله وخدمة السنة المطهرة وافاه الحمام من بلاده الأحساء وهو في تركيا وجاءه الحِمَام هناك والوفاة عليه رحمة الله، قُبِر بجوار واحد من العلماء والصالحين وحاملي رايات التربية والتقوى قبله الشيخ عبدالقادر عيسى عليه رحمة الله من كبار علماء الشام..
وهناك في إسطنبول ضمَّتهم وضمَّت كثيراً من آل بلدكم من الذين خرجوا من هنا وإلى الهند ومن الهند إلى هناك عالم كبير من العلماء ضمّته إسطنبول أيضا هذه في أرض تركيا/ فضل بن علوي بن سهل مولى الدويلة، أبوه علَم من الأعلام في أرض الهند في أهل "كيرالا" وآل مليبار يعرفونه ويعرفون مقامه وقدره.. وهذا الحبيب ابنه، وقد أقام بمكة مدة وأقام بظفار مدة وإلى إسطنبول وكانت وفاته هناك.. عليهم رحمة الله تبارك وتعالى.
والكل اشتركوا في خدمة السنة وخدمة الشريعة والدين والعلم، وخدمة هذه الأمة بما استطاعوا، وردِّ كيد الفجار والكفار بما استطاعوا -عليهم رحمة الله تعالى ورضوانه-
والشيخ طه كرَّان مفتي الشافعية في جنوب أفريقيا. وفقدنا الحبيب محمد بن مصطفى بن صالح العيدروس، والحبيب محمد بن إبراهيم بن زين بن سميط، وأمتعنا الله بأخيه العلامة زين بن إبراهيم بن سميط متعة تامَّة في عافية كاملة.. وفقدنا عددا، وراحوا من أهل ذا الطريق..
وهكذا الحياة تعمل بنا.. وذا يروح وذا يروح اللي بعده.. وكلنا سنذهب.. وكلنا سنرحل.. ولكن الغنيمة يا عباد الله: قلوب تتصل بالرحمن، وتدرك سِرَّ القرآن وتتصل بسيد الأكوان، وتحوز من هذه الأيام القليلة تحقيقَ عبودية للرَّبِّ ورابطة بالحبيب المقرب؛ تفوز في البرزخ، تفوز في القيامة. وسنصل كلنا للبرزخ.. لا مجال لما يُدعَى تقدُّم ولا تطور مِن كلِّ ما خالف أمر الله وشرعه وشريعة نبيه محمد.. لا مجال لها، كلها ضلال، كلها ظلمات، كلها حسرات، كلها عذاب، ولا الخير إلَّا فيما أنزل الرحمنُ وما بَعَث به سيدَ الأكوان {وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلَامِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ } الله ما يقبله اذهب عند غيره من سيقبلك؟ اللي بتروح عنده غيره يقبلك، لا معه لك جنة ولا معه لك حياة ولا موت ولا معه لك تسليم من عذاب ولا معه لك نعيم.. هو مزموم بزمام وقده في العذاب.. هيّ روح إلى عنده.. بيفيدك شيء؟ بينفعك شيء؟ ما يُقبَل غير الإسلام عند مَن؟ عند مَلِك الملوك، عند الذي بيدِه الأمرُ كله.. ما يقبل غيرَ الإسلام..
يا رب ثبِّتنا على الإسلام.. كما أنعمتَ علينا بالإسلام فزِدنا منه، وكما أنعمتَ علينا بالإيمان فزِدنا منه، وكما أنعمتَ علينا بالعافية فزِدنا منها، وكما أنعمتَ علينا بالعمرِ فبارِك لنا فيه، وارحمِ الذين تقدَّموا أمامَنا، وأمتِعنا بالبقيَّة من العلماءِ والصُّلَحَاء والأخيار وكثِّرهم فينا، واجعلنا مِن مغتنمِي الحياة المتهيئين لحُسنِ لقائك يا الله، نلقاك وأنت راضٍ عنَّا، نُحِبُّ لقاءك وأنت يا ربَّ العرش تُحِبُّ لقاءَنا.. آمين يا ربَّنا..
ما عقَدنا المجلسَ ولا حضر الحاضرون ولا سَمِع السامعون هنا وهناك إلا يريدون وجهَك، يريدون رضوانَك، يتعرَّضون لفضلِك، يخافون عذابَك، يخشون الانقطاعَ عن محمد في القيامة.. فلا تقطع مِنَّا صغيراً ولا كبيراً وذكراً ولا أنثى يا حي يا قيوم، ونبينا يقول (الويلُ لمَن لا يراني يومَ القيامة) مَن لا يراك؟ قال: (من ذُكرِتُ عنده فلم يُصَلِّ عليّ) يا رب صلِّ وسلِّم عليه أفضل الصلوات واجعلنا جميعا معه وفي زمرته وفي دائرته وفي حزبه يا كريم..
بُسُطٌ بُسِطَت من فضل ربكم وهدى بها وسيهدي بها، وإنس وجن كثير في الشرق والغرب، والوافدين سيفدون عليكم لمثلِ ذي المواطن.. ما هو بشغلنا ولا بعملنا؛ سوابق سبَقَت وقلوب صَدَقَت.. من قبل لا عشرة ولا عشرين ولا مائة ولا مائتين ولا ألف ولا ألفين.. كلهم أسَّسوا، وكلهم نظروا، وكلهم أقاموا وتبادل السِّر فيهم واحد بعد الثاني؛ فضلا من فضل الله سبحانه وتعالى وجود مِن جود الله علينا وعلى الأمة {ذَٰلِكَ مِن فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنَا وَعَلَى النَّاسِ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَشْكُرُونَ}.
والله لا يحرمنا خيرَ ما عنده لشر ما عندنا، وينشر الخير في الأمة، ويربط بين هذه القلوب والقلوب الصادقة المخلصة في شامِنا في يمنِنا في مصرِنا في مغربِنا في شرقِنا في غربنا.. يا رب اربط بين هذه القلوب، قال الله في الفِتيةِ الصالحين في عهد من عهود بني إسرائيل: {إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى * وَرَبَطْنَا عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ..} هذه هي دعوة الحق من عهدِ آدم إلى وقتِنا إلى آخرِ الزمان.. حتى يغضبَ الله على مَن في الأرض ويبقى الأشرار والكفار وعليهم تقومُ الساعة ويجيء المَجْمَع، وفي المجمع اصرف الآن.. اصرف الأحزاب، اصرف الحكومات، اصرف الدولارات.. ما شي لها صرف.. هات السَّيَانِم حقهم وهات الأشياء اللي صفقوا عليها وهات الأشياء التي اشتغلوا بها، هات صرفهم هذا الحين.. وقفوا في القيامة {وَعُرِضُوا عَلَىٰ رَبِّكَ صَفًّا لَّقَدْ جِئْتُمُونَا كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ ۚ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّن نَّجْعَلَ لَكُم مَّوْعِدًا * وَوُضِعَ الْكِتَابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَيَقُولُونَ يَا وَيْلَتَنَا مَالِ هَٰذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا ۚ وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا ۗ وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا} جَلَّ جلاله..
عسى نفوز في ذاك اليوم، ننجو في ذاك اليوم، نَسْلَم في ذاك اليوم، لا تعذِّبنا يا ربِّ يومَ القيامة، ولا تُعَرِّضنَا للندامة، وأهلَنا كلهم، وأولادَنا كلهم، طُلَّابنا وأصحابنا وأحبابنا كلهم، لا يَسْوَدُّ منا وجهٌ مِنَّا في ذلك اليوم ولا يُعَرَّض للعذاب يا حي يا قيوم، ونرتبط بالسيد المعصوم، يقع مورد هَنِي على حوضِه المورود في أوائل أهلِ الورود والدخول معه يا رب إلى جناتِ الخلود
فَيَا رَبِّ واجمعنا وأحبابنا لنا ** في دارك الفردوس في أَطْيَبِ مَوْضِعِ
فَضْلَاً وإِحْسَانَاً ومَنَّاً منك ** يا ذا الفَضْلِ والجُودِ الأَتَمِّ الأَوْسَعِ
يا أرحم الراحمين..
واقبل مِنَّا توبتَنا إليك، وإنابتَنا إليك، واجعل الأشهرَ المباركةَ واسعةَ الخير لنا، ومباركةً علينا وعلى كُلِّ فردٍ مِن أهلينا وأولادنا "ذي القعدة وذي الحجة ومحرم" وما بعدها، وبلِّغنا إياها، واجعل لنا أعماراً مبسوطةً مِن عندك مصروفةً في خير ما يُرضيك، ظاهرا وباطنا، ولا تُعرِّضنا لموجب الحسرة والندامة، وثبِّتنا على ما تحب واجعلنا فيمن تحب يا أرحم الراحمين ويا أكرم الأكرمين.
وفي أوائل هذه الأشهر الحُرُم التي هي متوالية سَرْد (ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم) نُجَدِّد توبتَنا إليك ونؤوب إليك، ونسألك الثباتَ على ما تحب منا، ونرفع أيدينا إليك: أغِثنا يا مغيث بغياثِك الحثيث وادفع عنَّا شرَّ كلِّ خبيث، وتب علينا توبةً نصوحا، زكِّنا بها قلبا وجسما وروحا يا رب العالمين..
وأَلِحُّوا على الله وتوجَّهوا إلى الله متذلِّلين بين يديه؛ فهو يفتحُ الأبواب، ويعطي بغير حساب، ذاكم رَبُّ الأرباب عَزَّ وجل، وقولوا:
يا تواب تُبْ علينا ** يا تواب تُبْ علينا
وارحمنا وانظر إلينا ** وارحمنا وانظر إلينا
لمشاهدة المحاضرة:
للاستماع: