خطبة الجمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الإيمان بحارة عيديد، مدينة تريم، 13 جمادى الأولى 1443هـ بعنوان: عميق ودقيق التقوى في مجال الاستحسان والقبول والرفض وميزان الحق فيه
الخطبة الأولى:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته..
الحمد لله.. الحمد لله الخالق المبدئ المعيد، المحيي المميت، الفعال لما يريد، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، {إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ * وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ * ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ} وأشهد أن سيدنا ونبينا وقرة أعيننا ونور قلوبنا محمدا عبده ورسوله، أكرم هادٍ إلى الحقيقة، وأكرم جميع الخليقة على الله منشئ الخليقة، دَلَّ فأحسَنَ الدلالة، وقام بحقِّ تبليغ الرسالة؛ فبصَّرنا من العِمَايَةِ وعلَّمنا من الجهالة.
اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك الهادي إليك والدَالِّ عليك سيِّدِ المرسلين محمد، وعلى آله المطهَّرين الأطهار وأصحابه أهلِ المَجدِ والسؤدد، وعلى مَن والاهم فيك واتَّبعهم بإحسانٍ إلى يومِ غَد، وعلى آبائه وإخوانه مِن الأنبياء والمرسلين، وآلِهم وصحبِهم ومَن تبع منهجَهم الأرشد، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وجميعِ عبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين يا واحد يا أحد.
أمَّا بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسِيَ بتقوى الله.. فاتقوا اللهَ عبادَ الله وأحسِنُوا يرحمْكُم الله {إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ}، واعلموا أنَّ مَن اتَّقى اللهَ عاشَ قويّاً وسارَ في بلادِ الله آمناً،
ومَن ضيَّعَ التَّقوى وأهملَ أمرها ** تَغَشَّتهُ في العُقبى فنونُ النَّدامةِ
ألا وإنَّ مِن مجالات التقوى ضبطَ ميزانِ الاستحسانِ وميزانِ القبولِ والرَّدِّ والرَّفضِ بميزانِ الحقِّ -جلَّ جلاله – وميزانِ رسولِه المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ذلكم الميزان الحق الذي كل ما خالفَه باطل -كائنا ما كان- {أَلَيْسَ ٱللَّهُ بِأَحْكَمِ ٱلْحَٰكِمِينَ} {أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ}.
وعلى هذا الميزان تقومُ التقوى وصلاحُ الشأن، وطهرُ الجنان، وصحةُ السَّيْرِ إلى الرحمن في الأقوالِ والأفعال والأزياء والمظاهر والعادات والحركات والسَّكنات، فمَن أقامَها بميزانِ الله فهو مِن أهلِ الصدقِ مع الله، وهو مِن أهل الإحسان، وهو مِن أهل طُهرِ الجَنَان، وهو مِن أهل النجاةِ مِن الزَّيغِ والفسادِ والطغيان.
ولا يجوزُ للمسلمِ أن يطغَى في الميزان بأن يستحسنَ ما هو في ميزانِ ربِّه ونبيِّه سيء، أو أن يقبل أو يُحِبَّ ما هو في ميزانِ اللهِ ورسوله -صلى الله عليه وسلم- شَرٌّ وضُرٌّ وباطلٌ وفساد، أو أن يرفضَ ويردَّ ما هو في ميزانِ اللهِ وسولِه خيرٌ وحقٌّ وهدى.
فليتَّقِ اللهَ المؤمن، فإنَّ تقوى الله -جَلَّ جلاله- في شؤونِ الأخذِ والرَّدِّ والقبولِ والرفضِ أعمقُ منها في مظاهرِ الأعمال مِن ظواهر العبادات وظواهرِ المفروضات في الشريعة المطهرة؛ وهذا فرضٌ دقيقٌ عميقٌ وواجبٌ شرعيٌّ قُرآنيٌّ نبويٌّ يَغفَلُ عنه الكثير، وإلى أصلِه وعِمَادِهِ أشار صاحبُ الرسالة البشيرُ النذير والسراجُ المنير -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بقوله : (لا يؤمنُ أحدُكم حتى يكونَ هواه تبعًا لما جئتُ به) وأشار القرآنُ إليه في مواضعَ مِن آياتِ الذكرِ الحكيم، كقوله -جَلَّ جلاله:- { وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَن تَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ..} وفي قراءة: {أَن يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًاْ}، وكقوله -جلَّ جلاله-: {فَلَا وَرَبِّكَ لَا يُؤْمِنُونَ حَتَّىٰ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لَا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا}.
أيها المؤمنون بالله: تسترسلُ النفسُ بطَبعِها وبتأثيراتٍ مِن الهوى والشَّهَوات على استحسانِ أشياءَ وعلى محبَّةِ أشياء، إن لم يقم فيها ميزانُ التقوى فقد ضلَّ صاحبُها وغوى، وفي مهاوِي الهوَى هوَى -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
قال -جلَّ جلاله-: {وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَىٰ * فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَىٰ} إنها شرفُ وكرامةُ قدرةٍ وهِمَّةٍ وعزيمةٍ عند المؤمنين على الأنفسِ والأهواءِ والشهوات.
ألا أن مَن حُرِمَ العبوديةَ للهِ واستُرِقَّ للشهوات وللأهواء فهم عبيدُها يُمجَدِّون الشهوات ويُمجَدِّون الأهواء، ويرَون أنها الغاية في هذه الحياة في تحقيقِ أمنياتِهم أو مراداتِهم أو أهوائهم؛ وتلكم ثُلَل وهيئات وجماعات وشعوب ودول لم يحتكم فيها الإيمانُ بالله وما جاء عنه، فهم في طُغيانِهم يعمهون وهم الذين يُزيَّنُ لهم السوء، وقال عنهم عالمُ السرِّ والنجوى: {أَفَمَن زُيِّنَ لَهُۥ سُوٓءُ عَمَلِهِۦ فَرَءَاهُ حَسَنًا ۖ فَإِنَّ ٱللَّهَ يُضِلُّ مَن يَشَآءُ وَيَهْدِى مَن يَشَآءُ ۖ فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَٰتٍ ۚ إِنَّ ٱللَّهَ عَلِيمٌ بِمَا يَصْنَعُونَ}. فيجازي كُلَّاً على ما صنع، ولا يفيد أحداً ولا ينفع أنه كان يقول أو يُقال له أحسنتَ أو أصبتَ أو تقدَّمتَ أو تطوَّرتَ أو أدركتَ أو تحرَّرتَ وما إلى ذلك.. لا يفيدُه ولا ينفعُه شيءٌ مِن ذلك إذا جُوزِيَ على ما صنع وجُوزِيَ إلى ما مال قلبُه إليه وأحبَّه على غير ميزانٍ صحيحٍ مِن منهجِ الله وكتابِه الذي أنزلَه مع النبيين كما أنزل معهم الميزان كما قال -جَلَّ جلاله-: {لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ}.
ذلكم الميزان هو الحارسُ لأفكارنا، هو الحارسُ لاستحساناتنا، ولمَيلنا، ولمحبَّتنا؛ حتى لا نميلَ إلى الهوى، ولا نحب ما لا يحبُّه خالقُنا عالمُ السرِّ والنجوى -جَلَّ جلاله وتعالى في علاه-.
قال نبينا المصطفى صلى الله عليه وسلم: (مَن أحبَّ لله، وأبغض لله، وأعطى لله، ومنعَ لله.. فقد استكملَ حقيقةَ الإيمان) أي صار عبداً محضًا لا يحبُّ إلا لله، إن أحبَّ مظهراً أو صورةً أو زيَّاً أو لباساً أو أي شيئاً لا يحبُّه إلا لله؛ أي لكونِ الله تعالى يحبُّه ولكونِ رسولِه يحبه -صلى الله عليه وسلم-، لا يحبُّ لمجرَّد الهَوى والطبع غيرَ المهذَّبِ والمؤدَّب والطبع غير المُقَوَّم بميزان الشرعِ الحنيف.
أيها المؤمنون بالله: صدقُ الإيمانِ يملأ القلبَ بمحبةِ المحبوباتِ لله وما اتَّصلَ بالله. حتى لقد سمعتم في قولِ ثمامةَ بن أُثال يومَ أن أسلم ودخلَ الإيمانُ قلبَه وقد ذكر دينَ النبيِّ وذكر وجهَ النبي ثم ذكر البلدَ الذي فيه النبي (...وما كان مِن بلدٍ أبغضَ إليَّ مِن بلدِك فقد أصبح بلدُك أحبَّ البلادِ إلي).
وقد كان بغضُ البلد التي فيها رسول الله -صلى الله عليه وسلم- نتيجةً مِن نتائجِ الكفرِ وأثراً مِن آثارِ التكذيب بما جاء به عن الله -جلَّ جلاله-؛ فالكفر يقتضي بغضَ ما أحبَّ الله وبغضَ ما اتصلَ بالله وبرسولِه، حتى البقعة، حتى الأرض، والإيمانُ يقتضي محبَّةَ ما اتصلَ باللهِ ورسولِه، حتى البقاع، حتى الأراضي، لا يميِّز بينها لأن هذا فيه شجر وهذا لا شجرَ فيه، ولا لأن هذا فيه اسفلت ٌوهذا لا اسفلتَ فيه، ولا لأنَّ هذا هو يسكن فيه وذاك لا يسكنُ فيه؛ ولكن يُفَرِّقُ بينها ما كان مِن أثرِ طاعةِ الله فيها ووجود القُربِ منه والمقرَّبين منه؛ فيُحِبُّ الأرضَ على هذا الميزان، يحب الأرضَ على هذا الأساس.
حتى محبة الأراضي والبقاع.. فما بالُكَ بغيرِها من الشؤون؟ تخضعُ لميزانِ الإيمانِ والكفرِ والصدقِ والكذب. وبمجردِ الإيمانِ صارت بلدةُ نبيِّنا والبقعةُ التي يسيرُ فيها أعزَّ عند هذا الرجل وأحبَّ إلى قلبِه مِن دارِه ومِن بلدِه ومِن وطنِه ومِن كلِّ بقعةٍ أخرى على ظهرِ الأرض؛ لأنَّ فيها أحبَّ الخلقِ إلى الحقِّ -صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم-
إنها موازينُ اختلطت على كثيرٍ مِن الناس، ومالوا فيما يحبون وما يستحسنون إلى الدُّون! بل إلى الهُون! بل إلى ما يوجبُ انقطاعَهم عن الحيِّ القيوم! بل ما يوجب ندامتَهم في يومِ ميقاتٍ معلوم!
أيها المؤمنون بالله: وذلك أنه في سعةِ حقائقِ الإيمانِ والشريعةِ حسنُ التعامل وحسنُ الاستفادة مِن كلِّ أحد؛ لكن بميزانِ الله فيما يتعلَّق بالمباحات وما يُستخدمُ مِن المباحات؛ للاستعانةِ بها على المندوبات أو المفروضات. مِن أجل هذه النقطةِ وسِعَةِ الشريعة فيها ظَنَّ مَن ظنَّ أنَّ حقائقَ الإيمانِ أو الشريعة لا دخلَ لها في استحسانِ الأزياء أو الألبسةِ أو بعضِ الأخلاق أو كيفيَّةِ وأساليبِ بعضِ المعاملات.. وقد وَهِمَ وجانبَ الحقَّ وخالفَ الميزان.
إنَّ الشريعةَ التي شرعَتِ النَّفع للقريبِ والبعيد، والمُوافقِ والمخالف، وشرعَت العدلَ للموافِق والمخالِف، وشرعت أداءَ الحقوقِ لكلِّ ذي حقٍّ -مؤمناً وكافرا- إنَّ هذه الشريعةَ هي بعينِها التي أقامت لك الميزانَ في الأخلاق، فلا يجوز أن تأخذَها مِن غير نبيِّ الله ومَن سار على دربِه مِن أهلِ الله {أُولَٰئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ ۖ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ} {وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ}، {وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ}
فوجودُ حسنِ التعامل وحُسنِ المعاملةِ وجوازِ الأخذ والعطاءِ والاستفادةِ في التجارب.. في زراعةٍ أو صناعةٍ وما إلى ذلك؛ قائمٌ بميزانٍ لا يَصِلُ إلى جوازِ الاستخفافِ بخُلُقٍ مِن أجل أنَّ الذي يُعلِّمك الصناعةَ الفلانية خُلقُه يخالفُ هذا الخُلُقَ المرضيَّ! ولا إلى أن يُبيحَ لك الاقتداءَ به في زِيٍّ من الأزياء بأيِّ داعيةٍ مِن دواعي النفس؛ فإنه -وقد جعلت الشريعةُ حراماً وجائزاً مِن اللباسات للرجال وللنساء- ومع ذلك كلِّه جعلت مندوبات ومسنونات، وجعلت في المباحات ما يُؤثِّرُ فيها إن كان قصدَ التَشَبُّه، وإن كان تأصيلَ استحسانٍ فإنه يؤثِّرُ على حقائقِ الإيمان وعلى مسلكِ هذا الإنسان!
إذن فأقمِ الميزانَ أيُّها المؤمن {وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ} ولا يكُ لكَ قدوةُ مَن كفر بالله ولا مَن صدَّ عن سبيلِ الله؛ فإنما القدوةُ "محمدُ بن عبدالله" الهادي إلى الله والدَّالِّ عليه، وإنك باتِّباعِه أنت المثل الطيِّبُ الذي يحتاج إليه المنافق ويحتاج إليه الكافر كما يحتاج إليه أخوك المؤمن في الانتهاجِ والاقتداءِ والاهتداء؛ فلا يجوز أن تتحوَّلَ أُستَاذِيَّةُ الشريعةِ والدينِ والإيمانِ في الأخلاق والمعاملات والاستحسانات إلى تبعيَّةٍ لغيرِ الحقِّ ورسولِه ولغيرِ الهُداةِ المقتدِين ممَّن أنابَ إلى رَبِّ العالمين!
إنه ميزانٌ فاحفَظه أيُّها الإنسان، وقُم بحقِّه، واتَّقِ اللهَ فيه؛ فإنه مجالٌ مِن مجالاتِ التقوى لمولاك المُطَّلِعِ على سِرَّكَ ونجواك.
اللهم احفظنا في محبَّتِنا، واحفظنا في استحسانِنا واحفظنا في مَيلِنا واحفَظنا في رغباتِنا أن نَزيغَ أو نَزِلَّ عن سواءِ السبيل، واجعل هوانا تبعاً لِمَا جاء به الهادي المعلمُ الدليل، وثبِّتنا على دربِه في النيةِ والقصدِ والفِعلِ والقِيل، وتولَّنا به بما أنت أهلُه يا وليُّ يا كريمُ، يا كفيلُ يا وكيل، يا أرحم الراحمين.
والله يقولُ وقولُه الحقُّ المبين: {فَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَأَنصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ}
وقال تباركَ وتعالى: {فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيم}
{بسْمِ اللَّـهِ الرَّحْمَـٰنِ الرَّحِيمِ}
{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإِيَّاكُمْ ۙ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي ۚ تُسِرُّونَ إِلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ ۚ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إِن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْدَاءً وَيَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ * لَن تَنفَعَكُمْ أَرْحَامُكُمْ وَلَا أَوْلَادُكُمْ ۚ يَوْمَ الْقِيَامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ ۚ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ * قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآءُ مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاءُ أَبَدًا حَتَّىٰ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلَّا قَوْلَ إِبْرَاهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَمَا أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِن شَيْءٍ ۖ رَّبَّنَا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنَا وَإِلَيْكَ أَنَبْنَا وَإِلَيْكَ الْمَصِيرُ * رَبَّنَا لَا تَجْعَلْنَا فِتْنَةً لِّلَّذِينَ كَفَرُوا وَاغْفِرْ لَنَا رَبَّنَا ۖ إِنَّكَ أَنتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ * لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ ۚ وَمَن يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ * ۞ عَسَى اللَّهُ أَن يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَ الَّذِينَ عَادَيْتُم مِّنْهُم مَّوَدَّةً ۚ وَاللَّهُ قَدِيرٌ ۚ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ * لَّا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ أَن تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ * إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُم مِّن دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَىٰ إِخْرَاجِكُمْ أَن تَوَلَّوْهُمْ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَٰئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ}
باركَ اللهُ لي ولكم في القُرآنِ العظيم، ونفعَنا بما فيه مِنَ الآياتِ والذكرِ الحكيم، وثبَّتَنا على الصراطِ المستقيم، وأجارَنا مِن خِزيهِ وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفرُ اللهَ العظيمَ لي ولكم ولوالدينا ولجميعِ المسلمين فاستَغفِروه، إنَّه هو الغفورُ الرحيم.
الخطبة الثانية:
الحمد للهِ عالمِ السرِّ والنجوى، وأشهد أن لَّا إله إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له وَلِيُّ أهلِ التقوى، وأشهدُ أنَّ سيِّدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيُنِنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُه ورسولُه، الداعي إلى المنهجِ الأقومِ الأقوى. اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على عبدِك المصطفى سيدِنا محمد، وعلى آلِه وصحبِه ومَن والاه وسارَ في دربِه، وعلى آبائه وإخوانِه مِن أنبيائك ورُسلِك وآلِهم وصحبِهم وتابعيهم، وملائكتِكَ المقرَّبين وعبادِك الصالحين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم ونفسيَ بتقوى الله..
فاتقوا اللهَ عبادَ الله، ولا تغفلوا عن مجالِي الاستحسانِ في تقوى الله -جَلَّ جلاله- وعن تقوى الله سبحانه، وأقيموها؛ فإنَّ ما قرأنا مِن الآيات دلَّت على بِرٍّ وقسطٍ مشروعٍ بالإيمان والشريعة، وحرَّمت مودَّةً، وحرَّمت ولاءً وحرَّمت محبَّةً {لَا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَالنَّصَارَىٰ أَوْلِيَاءَ ۘ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ ۚ وَمَن يَتَوَلَّهُم مِّنكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ} مع منهجِ: {فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقَاتِلُوكُمْ وَأَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَمَا جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا} في قتلٍ ونحوه. أمَّا المودة: {لَّا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءَهُمْ أَوْ أَبْنَاءَهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ ۚ أُولَٰئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ}.
أيها المؤمنون بالله: فانصرِف من الجمعة وأنت مُتَّقِيًا للهِ فيما تَستحسنُ مما تلبس، ومما تأكلُ وتشرب، ومما تقبلُ وترفض، ومما تُقيمُ في بيتِك وفي أمتعتِه، وفي مناسباتِك مِن زواج وغير زواج، مِن وليمة وغير وليمة؛ لا تستحسنْ ما لم يُحِبُّ الله، لا تستحسنْ بدفعِ امرأةٍ ولا شابٍّ لم يتربَّ ولم يتحقَّق بحقائقِ الإيمان! فيقول: أريدُ أن يكونَ في زواجي وفي مناسباتي كذا.. استحسانٌ مُعوَجٌّ خارجٌ عن سواءِ السبيل، فتقول نحب أن نُفَرِّح الولد! وتُغضِب الواحد الأحد! تُفَرِّحُ الولد وتُغضِب الواحد الأحد! تُفَرِّح الولد وتُخالِف محمد! بئس الوالد وبئس الولد إن لم يُراعوا شرعَ الواحدِ الأحد وسنَّةَ محمد صلى الله عليه وسلم!
ولكنها مصائبُ خلوِّ مجالِ الاستحساناتِ عن نورِ تقوى الله وعن إقامةِ الميزانِ فيها! سار بها مَن سار مِن أفرادٍ وهيئاتٍ وجماعاتٍ وحُكَّامٍ وشعوبٍ حتى ضلُّوا سواءَ السبيل! وأصدروا ما يضرُّ في الدنيا وفي الآخرة مِن قرارات وترتيبات رتَّبوها على أنفسِهم هي مَحَلُّ النَّدَمِ في الدنيا ثم الآخرة.. وواللهِ إنَّ ذلك لَحَق.
أيها المؤمنون بالله: شرفُكَ في الإيمانِ أن تكون إنساناً فوقَ الشيطان وفوقَ النفسِ الأمارة وفوقَ الهَوى بعقلِ وشريعة، أنت فوق الهوى وفوقَ النفس الأمارة بعقلٍ وبشريعةٍ ونورِ إيمانٍ، والكفار تحتَها، والكفار مستَعبَدون لها، فبئس الحالُ حالُهم وبئسَ المصيرُ مصيرُهم وأحدُهم يقول في القيامة وهو يعضُّ على يديه {وَيَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلَىٰ يَدَيْهِ يَقُولُ يَا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا} يعني يا ليتني صحَّحتُ الميزان في الدنيا، والميزان الخارب الفاسد الذي كان عليه {يَا وَيْلَتَىٰ لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلَانًا خَلِيلًا * لَّقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جَاءَنِي ۗ وَكَانَ الشَّيْطَانُ لِلْإِنسَانِ خَذُولًا}، {كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلْإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِّنكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ * فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا} -والعياذ بالله تبارك وتعالى-
أيها المؤمن بالله: اتَّقِ اللهَ وأقِم ميزانَه في استحساناتِك كلِّها، حتى لا تحبَّ إلا ما أَذِنَ لك اللهُ في حُبِّه ولا تبغضَ إلا ما شرعَ اللهُ لك بُغضَه (نحبُّ بحبِّك الناس ونُعادي بعداوتِك مَن خالفكَ مِن خَلقِك).
اللهم ثبِّتنا على الاستقامة، وارزقنا حُسنَ إقامةِ الميزانِ على ما تحبُّ يا أرحمَ الراحمين ويا أكرمَ الأكرمين.
وأكثِرُوا الصلاةَ والسلامَ على سيدِنا خيرِ شَوْكَةٍ للميزانِ الصحيحِ والحقِّ والتقوى والهدى "محمد بن عبدالله" فلا قدوةَ به إلا والخيرُ فيها، والهدى فيها، ومحبَّة الخلَّاقِ فيها. صلِّ اللهمَّ وسلِّم وبارِك على هذا النبيِّ المصطفى الذي مَن صلَّى عليه مِن أمَّتِه واحدةً صلَّيتَ عليهِ مِن كَرمِك عشرا، والذي قال لنا: (إنَّ أولى الناسِ بي يوم القيامةِ أكثرُهم عليَّ صلاة).
اللهم أدِم صلواتِك على السراجِ المنير البشيرِ النذير الهادي إليك والدالِّ عليك سيدِنا محمد، واجعل هوانَا تبعاً لما جاء به، اللهم ثبِّتنا على دربِه وأدخِلنا في حزبِه، وارزقنا حقائقَ محبَّتِك وحبِّه؛ حتى تحشرَنا يومَ القيامةِ في زمرتِه يا أرحمَ الراحمين.
أكثِروا الصلاةَ والسلامَ عليه فإنَّها لكم قُربَةٌ ونورٌ وتطهيرٌ للبواطنِ وحُسنُ استرضاءٍ للرحمنِ -جَلَّ جلاله-
اللهم صلِّ وسلِّم على عبدِك المختار نورِ الأنوار وسِرِّ الأسرار سيِّدنا محمد، وعلى الخليفةِ مِن بعدهِ وصاحبهِ في الغار، مُؤازرِهِ في حالَيِ السَّعةِ والضِّيق، خليفةِ رسولِ الله سيِّدِنا أبي بكرٍ الصديق، وعلى النَّاطِقِ بالصَّوابِ، حليفِ المحراب، المُنيبِ الأوَّابِ، أميرِ المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب، وعلى النَّاصِحِ لله في السِّرِّ والإعلان، مُحيِي الليالي بتلاوةِ القرآن، أمير المؤمنين ذي النُّورَين سيدِنا عُثمانَ بنِ عفَّان، وعلى أخِ النَّبيِّ المصطفى وابنِ عمِّه، ووليِّهِ وبابِ مدينةِ علمِه، إمام أهلِ المشارق والمغارب، أمير المؤمنين سيِّدِنا علي بن أبي طالب.
وعلى الحَسَنِ والحُسينِ سيِّدَي شبابِ أهلِ الجنَّة في الجنَّة وريحانتَي نبيِّك بِنَصِّ السُّنَّة، وعلى أمِّهِما الحَوراءِ فاطمةَ البَتولِ الزَّهراء، وعلى خديجةَ الكُبرى وعائشةَ الرِّضَا، وعلى الحمزةَ والعبَّاس، وسائر أهلِ بيتِ نبيِّكَ الذين طهَّرتَهم مِن الدَّنسِ والأرجاس، وعلى أهل بدرٍ وأهلِ أُحدٍ وأهلِ بيعةِ الرِّضوان، وعلى جميعِ أصحابِ نبيِّك الكريم وأهلِ بيتِه الطاهرين، وعلى مَن تبعَهم بإحسانٍ إلى يومِ الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتِكَ يا أرحمَ الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلامَ وانصُرِ المسلمين، أَذِلَّ الشِّركَ والمشركين، أَعلِ كلمةَ الدين، دمِّر أعداءَ الدين، اجعل هوانا تبعاً لما جاء به نبيُّك الأمين، اللهم ثبِّتنا على دربِه، واسقِنا بفضلِك مِن شُربِه، واجعلنا مِن أهلِ قُربِك وقُربِه، اللهم تولَّنا به حيثُما كُنَّا وأصلِح لنا الحِسَّ والمعنى، واصرِفنا مِن جُمعتِنا بأنوارِ تقواك في سِرِّنا ونجوانا، وأصلحِ اللهم ظواهرَنا وخفايانا، واجعل تبعاً لِمَا جاء بهِ هَوانا، وتولَّنا بما تولّيتَ به محبوبيك مِن عبادِك أهل محبَّتك ووِدادِك، اللهم لا تُسَلِّط على قلوبِنا محبَّةَ مَن لا تحب ومحبةَ مالا تُحِب، واجعل محبَّتَنا لكَ ومِن أجلِك خالصة؛ حتى تُثبِتَنا في المحبوبين لك في عافيةٍ، برحمتكَ يا أرحمَ الراحمين.
واغفر لآبائنا وأمهاتنا، وذوي الحقوق علينا ومشائخِنا في الدِّين، وللمؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات أحياهم والأموات بأوسعِ المغفرات، يا مجيبَ الدعوات، واختِم لنا بأكملِ حسنِ الخاتمات.
{رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ}
{رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَىٰ رُسُلِكَ وَلَا تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۗ إِنَّكَ لَا تُخْلِفُ الْمِيعَادَ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ}
{رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ}
نسألكَ لنا وللأمَّةِ مِن خيرِ ما سألكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، ونعوذُ بك مما استعاذَكَ منه عبدُك ونبيُّك سيدُنا محمد، وأنتَ المستعانُ وعليك البلاغُ ولا حولَ ولا قوةَ إلا باللهِ العليِّ العظيم.
عبادَ الله: إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث، ونهى عن ثلاث:
{إنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَىٰ وَيَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ}
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُرْكُم، واشكروه على نعمِه يَزِدْكُم، ولذِكرُ اللهِ أكبر.
للاستماع إلى الخطبة:
للمشاهدة