خطبة جمعة للعلامة الحبيب عمر بن محمد بن حفيظ في جامع الشيخ حسين مولى خيلة، بمدينة تريم، حضرموت، 7 رمضان 1443هـ، بعنوان:
سموُّ وجهة المؤمن وتبعيَّته وتحرُّره واغتنامه لرمضان ومواسم الإحسان
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
الحمد لله مُكَوّن الأكوان وربِّ الزَّمان، وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا اللهُ وحدَه لا شريكَ له، جعل الشمسَ والقمرَ بحسبان، والنجمَ والشجر يسجدان، ﴿وَالسَّمَاء رَفَعَهَا وَوَضَعَ الْمِيزَانَ. أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزَانِ. وَأَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَلَا تُخْسِرُوا الْمِيزَانَ﴾. وأشهدُ أن سيدَنا ونبيَّنا وقائدَنا ونورَ قلوبِنا محمداً عبدُهُ ورسولُه. كان يجتهدُ في رمضان ما لا يجتهد في غيره. ويجتهدُ في العشرِ الأواخر مِن رمضان ما لا يجتهدُ في غيرِها مِن رمضان. اللهم صلِّ وسلِّم وبارِك وكرِّم على القدوةِ العظمى والأسوة الحسنةِ الكبرى عبدِك المصطفى سيدِنا محمدٍ وعلى آلِه المطهَّرين عن الأدران، وعلى أصحابه الغرِّ الأعيان وعلى مَنْ وَالاهُمْ فيك واتَّبَعهم بإحسان وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياء والمرسلين الذين رفعتَ لهم القدرَ والمكانةَ والشأن. وعلى آلِهم وصحبِهم وتابعيهم وعلى الملائكةِ المقربين وعلى جميعِ عبادك الصالحين وعلينا معهم وفيهم برحمتِك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عبادَ الله: فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله. تقوى الله التي لا يقبل غيرَها ولا يرحم إلا أهلَها ولا يثيبُ إلا عليها.
أيها المؤمنون: ومِن أجل تقويةِ عمودِها وتثبيتِ بنيانها فُرض عليكم الصيام في هذا الشهر الفضيلِ المباركِ الأنور، الطيبِ الأزهر الأغر. سادَ الشهورَ بفائضِ فضلِ ربِّكم العزيزِ الغفور جل جلاله وتعالى في علاه. وقال في ذلكم: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ﴾ فجعل الغايةَ والثمرةَ والنتيجةَ والفائدة والحكمة: "لعلكم تتقون" تتَّصلون بحقيقةِ التقوى، وتُثبِّتون عمودَها في القلوب، فتسري سرايتَه إلى عيونِكم فتصيرَ عيونَ مُتَّقِيْن، وإلى آذانكم، فتصير آذان متقين، وإلى أيديكم، فتصير أيدي متَّقِين، وإلى بطونِكم وفروجِكم وأرجلِكم، فتصيرَ أعضاءَ متَّقين، يخافون عالِمَ الغيبِ والشهادة ويَدْأبُون في العبادة ويأخذُ كلٌّ منهم مِن العمر القصير زادَه، يَعمُرُ به نهايتَه وعاقبتَه وآخرتَه ومعادَه، فيرقَى إلى ذُرى السعادة.
أيها المؤمنون بالله: بُلِّغتُمُ الشهرَ بفضلٍ مِن ربِّكم، وكم مِن ظانٍّ كان يظنُّ أن يُدْرِك الشهرَ، فما جاء شهرُكم هذا إلا وهو تحتَ التراب، قد نُقل مِن القُصور إلى القُبور، ولاقَى ما عمل وانتهت الفرصة أن يعملَ أو أن يكسبَ خيراً أو أن ينالَ أجراً أو أن يرتفعَ بالعملِ الصالح قدراً. فإنما الفرصةُ مِن بدايةِ الإدراكِ إلى حينِ الغَرغرة، فإذا كانت الغرغرة طُوِيت الصحف وانقطع عملُ الإنسان إلا ما كان تسبَّب فيه من ولدٍ صالح يدعو له أو صدقة جارية أو علم يُنتفع به، أو وَرَّث خيراً من مُصحف ونحوه يُقرأ فيه مَن بعده. قال ربكم ﴿إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي الْمَوْتَى وَنَكْتُبُ مَا قَدَّمُوا وَآثَارَهُمْ ...﴾ ويا فوز مَن خلَّفَ الآثارَ الطيبة مِن بعده يُعبدُ بها الله ويُطاعُ ويُعمل فيها بما يُرضيه، وويل لميتٍ انقطع عملُه وبقي أثرُ سوءٍ مِن بعده: آلةٌ محرَّمة، وأجهزة تُستعمَل في الشرور، وخلَّف مِن بعده ذنباً مِن الذنوب يُعمَل به يأتي إليه وِزْرُه إلى قبرِه والعياذُ بالله تعالى. إنَّ الناس يغترُّون بزُخرفِ الحياة ويصدِّقون تسويلاتِ النفوس وإيحاءات الشياطين، فيغفلون عن المقصِد الأعظم مِنْ خَلقِهم وإيجاد هذا الكونِ وتكوينِه من قِبَل خالقٍ واحدٍ لا شريكَ له. خلق وأوجدَ ورزق - سبحانه وتعالى - وأشقَى وأسعد، ووهبَ وقرَّبَ وأبعد، وله الأمرُ كلُّه وإليه يرجعُ الأمر كلُّه، ولا يهلك على الله إلا هالك. خصوصاً مِن أمة حبيبِ إلهِنا المالك، صلى الله عليه وسلم . لا يهلك إلا مَن شَرَدَ على الله شُرادَ البعير النادِّ على أهلِه كما قال رسولُ الله، استجابةً للنفس الأمارة وتَبَعاً للهوى ولما يُمليه عليه أعداؤه. لا يرعوي عن ذنبٍ حتى في الشهر الفضيل. يقيمُ أسبابَ الحرمان والعياذ بالله تبارك وتعالى في شهرٍ قال عنه نبيُّنا المصطفى محمد: أتاكم شهرُ رمضان شهرُ خيرٍ وبركةٍ يُغشِّيكم اللهُ فيه، فيُنزل عليكم رحمتَه ويكفِّر خطاياكم ويستجيب فيه الدعاء، وينظُر فيه إلى تنافسِكم ويباهي بكم ملائكتَه، فأرُوا اللهَ مِن أنفسِكم خيرا.
مواسمُ بسطَها الرحمنُ لتَرْبَحَ أمةُ محمد. كل مَن أناب منهم وكلُّ مَن عاد إلى إدراكِ الحقيقة وحكمةِ خلقِه وخلقِ الوجود مِن حواليه ولم يُستعبَد للهوى ولا للنفس الأمارة ولا لأهويةِ غيرِه مِن بني آدم مِن شرارِ الخلق. فإنَّ كثيراً مِن الناس يعيشون في أجزاء من حياتِهم مستَعبدين لأهوِيةِ فاجر أو كافر أو يهودي أو نصراني أو مُفسِد مِن المفسدين يَنْشُر لهم أفكارَه فيأخذونها ينشر لهم برامجَه فيتابعونَها. فبدَلَ العبوديةِ لله وشرفِها صار مُستعبَداً لبعيدٍ بغيض ساقطٍ هابطٍ أَخَذَ عقلِه ولبِّه ثم ادَّعى أو ظنَّ أو توهَّم أنه يعمل بحريَّته. بئست الحريةُ التي تُسْتَعْبَدُ فيها لِساقط. بئست الحرية التي تمنعُك الدرجاتِ العُلى ومرافقةِ خيرِ المَلا. بئستِ الحريةُ التي تسوِّدُ وجهَك يوم تبيضُّ وجوهٌ وتسودُّ وجوه. بئست الحرية التي تعرِّضك لغضبِ جبارِ السماوات والأرض. أي حرية هذه؟ إنها أقاويلُ أباطيلُ وأضاليل، تَبْتَثُّ بين الناس فيصدِّقها مَن ليس له وعيٌ ومَن لم يتنوَّر قلبُه بنورِ الوَحي والتنزيل. ويتبع قوماً قال الله عنهم: ﴿... وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كَمَا تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَّهُمْ﴾. لا يعرف قدرَ الأشهر وبُلوغَها في شهرٍ قال عنه صلى الله عليه وسلم فيما جاء في الصحيحين وغيرهما: "إذا كان رمضان فُتحت أبوابُ الجنان وغُلِّقت أبواب النيران وصُفِّدت الشياطين." ويقول عنه صلى الله عليه وسلم: " أتاكم شهرُ رمضان شهر خير وبركة. فرض اللهُ عليكم صيامَه. وفيه ليلةٌ خيرٌ مِن ألف شهرِ مَن حُرِمها فقد حُرم." وفي الرواية الأخرى يقول "ولا يُحرمُ الخيرَ فيه إلا محروم." من حُرم فيه الخير فقد حُرم والعياذ بالله تبارك وتعالى. فإنَّ علامةَ الطردِ والبُعد التَّمادي في شهرِ رمضان على معصيةِ الربِّ جل جلالُه مِن قطيعة رحمٍ أو عقوق والدين أو شربِ خمور وتناوُل المخدِّرات المسكرات التي يجتهد إبليس ومعه جنوده مِن بعض اليهود وبعض الملحدين وبعض النصارى، يتجنَّدوُن لِبَثِّها بين المسلمين وخصوصاً في البلدان التي بقي فيها أثرُ مُحافظةٍ على الإسلام لِيُطْفِئوا نورَ الله ولأنهم علِمُوا وجرَّبوا أنَّ الذي يُذهِب بهاءَ الإيمان ويُردِّي الناس إلى أنواعٍ مِن القبائحِ بسرعة، هي المخدِّرات، التي إذا وقع في شبكتِها إنسان صار مستعدّاً أن يبيعَ دينَه وأهلَه وزوجتَه ومالَه لأجل أخذِها ولأجل التَّمادي فيها. بل يبيعُ عرضَه ويبيع كرامتَه وشرفَه والعياذ بالله جَلَّ جَلالُه. ولقد عَلِموا أنهم بهذه الحركات ونَشْرِ هذه المُفْسِدات يتمكَّنون مِن رقابِ المسلمين ومِن ديارهم ومِن ثرواتِهم. وكم حَصَلَ ما حصل، وفوقَ الخلق إلهٌ ملكٌ خالقٌ لا بُد أن يُظهِرَ نبيَّه ودينَه على الدين كلِّه ولو كره المشركون. ولكن يَخْسَرُ مَن يخسر بتصديقِ الخاسرين والوقوع في شبكات غَيِّهم وضلالِهم في الشهرِ المصُون المبارك يُصرُّ على مثل ذلك أو يرضَى لقلبِه أن يحمل الشحناء على مَن يقول لا إله إلا الله، صغيراً أو كبيراً، قريباً أو بعيداً، ذكراً أو أنثى، وافقك في رأي أو خالفك، وافقك في مذهب أو خالفك، لا تحملُ الشحناءَ على مَن يقول لا إله إلا الله. فإنه مَرَضٌ يُغْضِبُ الجبّار، ومرضٌ يمنع مغفرةَ الذنوب والأوزار، ومرض يُرَدُّ به عبادةُ العابدِ عليه فلا يقبلُها الإله جَلَّ جَلالُه. ويَدَعُ أهلَ الحقدِ بحقدِهم كما قال في ليلة النصف من شعبان. ويغفر اللهُ في آخرِ ليلةٍ مِن رمضان لجميعِ المسلمين، إلا شاربَ الخمر وعاقَّ الوالدين وقاطعَ الرحم والمشاحنَ الذي في قلبِه شحناءُ لمسلم.
جاءك القرآن وبلاغُ سيد الأكوان وأدرَكْتَ شهرَ رمضان فهو مستشفى التَّطَهُّر للقلب والجنان عن هذه الأدران. فإن لم تتطهَّر فأين تتطهر ومتى تتطهَّر؟ يمضي عليك الرُّبعُ مِن هذا الشهر في يومِك هذا ولا تبقى إلا الثلاثة الأرباع. إن لم يكن لك لنداءِ الحقِّ استماع وإنصات واتباع، فمتى يكون منك صلاحُ الحال وكيف تتهيأ لحُسن المآل؟ أم تحسب أنها عبثاً تَمُرُّ الأيامَ والليال؟ لا وعزَّةِ الكبير المتعال. إنها غنائم لمَن اغتنمَ وإنها أبوابُ حسرةٍ وندامةٍ لمَن أعرضَ وتكبَّر وخالفَ الملكَ الأعظم.
أيها المؤمن بالله: أتتكَ المداواة، وأتتكَ الفرصة وأتتكَ النعمة، وأتتكَ النفحات، وأتتك الهِبات مِن ربِّك، فلا تُعرِض ولا تَجْحَد ولا تُصِرّ على ما يقطعُك عن الفضلِ العظيم والخيرِ الجسيمِ والتهيؤ للنعيم في دارِ النعيم المقيم.
أيها المؤمن بالله جَلَّ جَلالُه وتعالى في عُلاه: وفي حديثٍ تعدَّدت طُرقُه وروايتُه عن نبيِّك أَخْبَرَ أنّ جبريلَ دعا على ثلاثةِ أصنافٍ مِن هذه الأمة بالبُعد والسَّحق والعياذ بالله. يقول في كلِّ واحد "رغمَ أنفُه"، ويقول في كلِّ واحد في الرواية الأخرى "أبعده الله". ويقول في كل واحد في الرواية الثالثة "أبعده الله وأسحقَه." مَن هؤلاء الثلاثة؟ عسى ألا يكونَ في بيتك أحدٌ منهم وأنت في رمضان تُودِّع ربعَه الأول. عسى ألا يكونَ في أولادِك أحدٌ منهم. هؤلاء مَن أدرك رمضان فلم يُغفر له. أصرَّ في رمضان على معاندةِ الأمرِ الإلهيِّ والبلاغِ النبوي. لا يَنْكَفُّ عن رُؤْيَةِ المناظرِ المحرَّمة في أجهزتِه حتى في ليالي المغفرة، حتى في ليالي الرحمة، حتى في ليالي الخشوع والبكاء. يدخل رَمَضَان ويخرج وما دمعت له دمعةٌ مِن عينه. قاسي القلب، غير مُستشعرٍ عظمةَ الرب. لا يعرف البكاءَ إلا لِضَرْبٍ أو ألمٍ أو وجعٍ أو فَوْت حطام مِن المَتاع الفاني. لم يعرف قلبَه عظمةً للإله مِن أجلِها يبكي. لم يعرف خَطَرَ المصيرِ والرجوعِ إليه. وكل عيون الورى باكيةٌ يومَ القيامة. كلُّ عين باكيةٌ يومَ القيامة إلا ثلاثَ عيون: عينٌ سهرَت في سبيلِ الله، وعين غَضَّت عن محارمِ الله، وعين بكَت مِن خشية الله. فلا تبكي يومَ القيامة. وغيرُها باكية وإن كان رئيسَ دولة، وإن كان رئيسَ وزارة، وإن كان رئيسَ نادي، وإن كان رئيسَ حزب، يبكون وينحبُون ولا تنفعهم وزارتُهم ولا رئاستُهم ولا حزبيَّتهم. إنَّ المَلِكَ يحكُم. صاحب الملك الحق. وما للخلقِ في الأرض إلا صُوَر المُلك. مُلكٌ حادث، ملك زائل، ملكٌ يَمْرَض صاحبُه، ملكٌ يموتُ صاحبه، ملكٌ لا يجري فيه الأمر على مُراد ذلك المالك. مُلكٌ يتعرَّض به الملك للغضب. فما مِن والٍ يلي أمر ثلاثمائة رجل، ثلاثمائة فرد من الأمة فأكثر إلا جاء يوم القيامة ويدَاه مغلولتان إلى عنقِه، فَكَّهُ عَدْلُه أو أَوْبَقَهُ جَورُه. المملكة فوقَها مَلِكٌ عظيم يجمع الأوَّلين والآخِرين فيقضي بينهم.
لا يرجعُ أمرُ العبادِ إلى مُخادعات وكذبٍ وسفسطة، إلى مجالس أمنٍ وإلى دول كبرى تُسمى بألفاظ الناس. لا والله، الخيانةُ فيهم والكذبُ فيهم والخداعُ فيهم والاستبدادُ على ثرواتِ الناسِ ومُعاداة أديانهم فيهم، والتعادي بينهم بعد أن عاثوا فساداً في الأرض وضربوا المسلمين بعضَهم ببعض فكراً وسلوكاً وسياسة واقتصاداً. ضربوا المسلمين ببعضِهم البعض، وألَّبوا بعضَهم على بعض، ولا بدَّ أن يعودَ إليهم ما فعلوا بعبادِ الله، ولكن يهلك مَن يهلك مِن المسلمين الذي صَدَّقَهم والذي عظَّمهم والذي ظنَّ أنهم شيء وليسوا بشيء ولا على شيء. إنهم عبيدُ الأهواء، إنهم عبيدُ الشهوات، إنهم عبيدُ السلطات. إنهم عبيدُ ما صرَّحوا به مِن القوميات التي لا يُبالون فيها بدماءِ الخلق، ولا بقتلِ الأطفال ولا النساء، ولا بالفتنة بين ذا وذاك في سبيل تحقيق غرضٍ تافهٍ دنيءٍ، يعود على أحدٍ منهم. هذا شأنهم على ظَهْر هذه الأرض وما من حَقٍّ إلا فيما أنزلهُ الحق وبعثَ به سيدَ الخلق. و ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ﴾ ﴿وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِيناً فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ ...﴾
ألا فأفِق أيها المؤمن واعلَم قدر بلوغِك لشهر رَمَضَان، وعظيم صلتِك بالرحمن، فلا أشرفَ منها، لا صِلَتك بنفسك ولا بأهلك ولا بأصدقائك ولا بِحِزبٍ تتصل به، ولا بأرباب ألعابٍ تتصل بهم، ولا بمسؤولين تتصل بهم. ماذا تساوي هذه الصلات عند صلتِك بمَن خلقَ الأرض والسماوات؟ عليها يدور الشأن. فانظر كيف هي، ولا تعتدَّ بغيرِها فغيرُها في قبضتِه وآخذٌ بنواصي أربابِها، يقلِّب قلوبَهم كيف يشاء. فَخُذ صِلَةً بحيٍّ لا يموت. خُذْ صِلَةً بِقَيُّوْمٍ قادرٍ بيدِه ملكوتُ كلِّ شيء. خُذْ صلةً بمَن يُحييك ويُميتك، ومَن إليه مَرْجِعُك ومَنْ بيدِه إنقاذُك وإسعادُك. اللهم املأ قُلوبَنا بالإيمانِ واليقين، ووَفِّر حظَّنا مِن رمضان هذا وجُوْدِكَ فيه وكَرَمِك على أهليه وأيقِظ قلوبَنا وقلوبَ أمةِ نبيِّك محمد صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وجنِّبنا الفتنَ والآفات والعاهات ظاهراً وباطناً يا مجيب الدعوات.
والله يقول وقولُهُ الحقُّ المُبِيْن: ﴿وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ﴾
وقال تبارك وتعالى: ﴿فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللّهِ مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ﴾
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم
﴿شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِيَ أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضاً أَوْ عَلَى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلاَ يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُواْ الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُواْ اللّهَ عَلَى مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ﴾
﴿وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لِي وَلْيُؤْمِنُواْ بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ﴾
بارك الله لي ولكم في القرآن العظيم ونفعَنا بما فيه من الآيات والذكرِ الحكيم، وثبتنا على الصراط المستقيم، وأجارَنا مِن خزيِه وعذابِه الأليم.
أقول قولي هذا وأستغفر الله العظيم لي ولكم ولوالدِينا ولجميعِ المسلمين فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
الخطبة الثانية
الحمد لله الذي جعل المواسمَ للغنائم. وأشهدُ أن لَّا إلهَ إلا الله وحده لا شريكَ له الملكُ الحيُّ القُيُّومُ الدائم. وأشهد أن سيِّدَنا ونبينا وقرة أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسولُه. أكرمُ مُصلٍّ ومُزَكٍّ وصائم وقائم، وعابد للإله على خيرِ الوجوه وأفضلها وأعلاها حِساً ومعنى. صلِّ اللهم وسلم وبارِك وكرِّم على أَعْبَدِ عبادِك وأعظَمِهم تَحَقُّقاً بالعُبُودية لك سيدِنا محمد وعلى آلهِ وأصحابه وأهل حضرةِ اقترابِه من أحبابه، وآبائه وإخوانه مِن أنبيائك ورُسلِك الذين بَشَّرُوا به، وعلى آلهم وصحبهم وأتباعهم، وعلى ملائكتِك المقرَّبين وعلى عبادِك الصالحين أجمعين وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد عباد الله فإني أوصيكم وإياي بتقوى الله. فاتَّقوا اللهَ في تبيُّنِ الحقائق وتَدَبُّر الكتاب المنزل. ﴿كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾.
إنَّ في بلدتِك وفي جوارك مَن قد أكملَ المصحف أو المصحفَيْن خلال الأيام الماضية فما نصيبك مِن تَدَبُّرِ كتابِ الله؟ لا تُهمل لا تُعْرِضْ لا تتساهل. أَجَوَّالُك آكد عليك في تأمُّلِهِ والنظر إليه مِن كلامِ ربِّك ومِن كتابِ ربِّك؟ تنظر إليه في اليوم مرات قد تصلُ إلى العشرات، ولا تحمل المصحفَ مرتين؟ ولا تنظر في كتابِ الله مرة؟ أهذه معاملةُ مَن آمن؟ أهذه معاملةُ مَن صدَّق؟ أهذه معاملة مَن أيقنَ أنه يرجع إليه؟ ﴿لِّيَدَّبَّرُوا آيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُوْلُوا الْأَلْبَابِ﴾ ﴿وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ﴾. ﴿أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلَى قُلُوبٍ أَقْفَالُهَا﴾؟
أيها المؤمنون بالله جَلَّ جَلالُه: ما أسعَدَ المُقبلَ مِنّا على عالِم السرِّ وأخفى في هذه الليالي والأيام. مَن أقام أمرَ الله في نفسهِ وأهله وولدِه ونَظَرَ في علاقتِه بالأصدقاء فلم يرضَ بغير التُقّى وعلم أن كُلَّ صديقٍ يُكَسِّلُهُ عَنْ صَلاةِ التراويح، عن سَجَدات يسجدُها للحق يُرفَع له بها القدر وينال الجزاء المليح، عدوٌ وليس بصديق، مهما ضَحِكَ لك وضحك فلا، هُو عدو، حَرَمَك خيراً مؤبداً ونوراً وهدى، وثواباً لا ينفد أبداً. هو صديق أم عدو؟ هو في الحقيقة عدو وأن ضاحَكَك وإن مازَحك، فليس بصديق ولا بمُحِب ولا برفيق على الخير.
أيها المؤمن بالله جَلَّ جَلالُه: وفي رمضان اصحب كتابَ ربك، واصحب ذِكْرَه وذِكرَ نبيك محمد قدوتِك الذي كان يجتهدُ في رمضان ما لا يجتهدُ في غيره، وهو سيدُ المجتهدين، صلوات ربي وسلامه عليه. الأعبد، الأرشد، الأخوَف، الأرجى، الأعظم عبودية، صلوات ربي وسلامه عليه وعلى آله وأصحابه. كُنتَ به في خيرَ أمة، وقد بلّغَكَ وبيَّن لك، فاسلُك خيرَ مسلك. فكيف بصديقٍ يوقعُك في عقوقِ والدين، فكيف بصديقٍ يستجرُّك إلى المخدرات، فكيف بصديق يوقِعُك في تَرْك الصلوات؟ والعياذ بالله تعالى. يُعرِّضك لِمَقْتِ الله، ومَن أَخَّر فريضة عن وقتِها كُتب اسمُه على باب النار "فلان ابن فلان" لا بد له مِن دخولِ النار أو يتوب الله عليه.
ألا وإنَّ مَن زيَّنت لهم أنفسُهم أو تبعوا في ذلك رُفقاءَ لهم، فأفطروا في أيام رمضان، عرَّضوا أنفسَهم أن يُعلَّقوا بعراقيبِهم وتُشَقَّق أشداقُهم وتسيلُ دماً وقيحاً وتُرضَخ وتُكسَّر أسنانُهم بحجارة من نار، جزاء ما تجرَّأوا على الجبار. مَن أفطر يوماً في رمضان بغير عذرٍ، لم يقضِه عنه صيام الدهر ولو صامَه.
أيها المؤمن بالله: عظّم فرائض الله، واشكُر مَن وفقك لهذا الخير وقرَّبَهُ إليك ويسّرَ لك الطاعة ليُثيبَك وليُعليَ قدرَك. إنك عبدُه لا عبد سواه. ولك الشرف بالعبودية له والحرية عن أن يستعبدَكَ أحدٌ غيره. لا إله إلا هو وحده لا شريكَ له. ﴿إِن كُلُّ مَن فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ إِلَّا آتِي الرَّحْمَنِ عَبْداً. لَّقَدْ أَحْصَاهُمْ وَعَدَّهُمْ عَدًّا. وَكُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَرْدًا﴾.
وخذ تطهيراً وتنقيةً وتنويراً بصومٍ مُصدقاً مُحْتسِبا. فمَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه. ومن قام رمضان إيماناً واحتساباً غُفر له ما تقدم من ذنبه. قال أهل العلم: ومن حافظَ على الجماعةِ في الصلوات وصلَّى صلاةَ التراويح كلَّ ليلة عشرين ركعة وصلى الوترَ فهو ممَّن قام رمضان. فإذا فعل ذلك إيماناً وتصديقاً ويقيناً واحتساباً أي طلباً للأجر من الله وحدَه لا لغرضٍ آخر، خرج مِن ذنوبه كيوم ولدته أمه وغُفر له ما تقدم من ذنبه. فمن صامَه وقامَه إيماناً واحتساباً، غُفِرَ له ما تقدم من ذنبه وخرج من ذنبِه كمن ولدته أُمه. ومن فطَّر فيه صائماً كان مغفرةً لذنوبه وعتقاً لرقبته من النار، وكان له مثل أجر الصائم. ليس كلنا - قال الصحابة - يجد ما يُفَطِّر به الصائم، قال يعطي الله ذاك الثواب لمن فطَّرَ صائماً ولو على شربةِ ماء أو مذقةِ لبن.
أيها المؤمنون بالله جل جلاله: هذا الذي عَرَف قدرَ الشهر يستقبل الثلاثة الأرباع الأخيرة بما يَلِيق، وبما يصلح بينه وبين الله. تنهال عليه الرحمة مِن كل جانب ويدرك سرَّ الاتصال بالرحمن واهِب المواهب ويتعرَّضُ لِحُسْنِ المصير والعواقب.
أيقِظ اللهمَّ قلوبَ المسلمين، وادفعِ البلاء عن المؤمنين، وحوّل أحوالَهم إلى أحسنِ الأحوال يا رب العالمين. طالَ المنامُ في قلوبهم فأيقِظهم مِن السُّبات العميق. طالت الغفلةُ فذكِّرهم وردَّهم إلى أقومِ طريق. ألِّف ذات بينهم واشفِ مرضاهم وعافِ مبتلاهم ورُدَّ كيدَ أعدائهم في نحورِهم يا قويُّ يا متين.
وأكثِروا الصلاةَ والسلام على من جُعلتُم به خيرَ أمة بين الأنام، محمد المصطفى المُبَلِّغ عن الله بالتمام ما أوحاه إليه من فرائض ونوافل في المسالك والأقوال والأفعال والصلاة والصيام. اللهم صلِّ وسلم على عبدِك الذي أوحيتَ إليهِ تعظيماً وتكريماً فقلت ﴿إِنَّ اللَّهَ وَمَلَائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَسَلِّمُوا تَسْلِيماً﴾.
اللهم صل وسلم على عبدِك المختار سيدنا محمدٍ نورِ الأنوار وسرِّ الأسرار، وعلى صاحبه وأنيسِه في الغار، مؤازِرِه في حالي السعةِ والضيق، خليفةِ رسولِ الله سيدنا أبي بكر الصديق. وعلى الناطق بالصواب ناشِرِ العدل حليف المحراب أميرِ المؤمنين سيدنا عمر بن الخطاب. وعلى مَن استحيت منه ملائكةُ الرحمن، محيي الليالي بتلاوة القرآن أمير المؤمنين ذي النورين سيدنا عثمان بن عفان. وعلى أخ النبي المصطفى وابن عمه ووليه وباب مدينة علمه، إمام أهل المشارق والمغارب أمير المؤمنين سيدنا علي بن أبي طالب. وعلى الحسن والحسين سيدي شباب أهل الجنة في الجنة، وريحانتي نبيك بنص السنة، وعلى أمِّهما الحوراء فاطمةَ البتول الزهراء، وعلى خديجةَ الكبرى وعائشةَ الرضى، وأمهاتِ المؤمنين وبنات نبيك الأمين وعلى الحمزة والعباس عميه، وعلى أهل بيتِه الذين طهرتهم من الدنسِ والأنجاس، وعلى أهل بيعةِ العقبة، وعلى أهل بدر، وعلى أحد وعلى سائر الصحب الأكرمين ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
اللهم أعزَّ الإسلام وانصرِ المسلمين. اللهم أذلَّ الشركَ والمشركين. اللهم أعلِ كلمةَ المؤمنين. اللهم دمِّر أعداءَ الدين. اللهم اجمع شملَ المسلمين. اللهم احقِن دماءَهم. اللهم احفظ واحرس أعراضَهم وأموالَهم. اللهم ألهِمهم رشدَهم، اللهم فكَّ أسرهم. اللهم ارفع البلاءَ عنهم. اللهم بارك لنا في شهرِنا هذا بركات واسعات وارفَعنا إلى المراتبِ الرفيعات ولا تصرِفنا مِن جمعتِنا هذه إلا بقلوٍب عليك مجتمعات، ولما عندك طالبات، ولوجهِك الكريم قاصدات مخلصات. يا مقلِّب القلوب والأبصار ثبِّت قلوبَنا على دينك. لا انصرف منا قلبٌ مِن الجمعة إلا عليك مجموعاً، ودعاؤه عندك مسموعاً، والخيرُ له مجتمعٌ من كل جانب. مدفوعةٌ عنه البلايا والآفات والمصائب. يا حيُّ يا قيوم ارحمنا في تضرِّعنا إليك وتذلُّلنا بين يديك. وارفع البلاءَ عنا وعن أمةِ سيدنا محمد أجمعين. وطهِّر قلوبنا واغفر ذنوبَنا واكشف كروبَنا وأنِلنا مطلوبَنا مِن كلِّ خير وفوق ما طلبنا. وعامِلنا بما أنت أهله في الحسِّ والمعنى، يا أرحم الراحمين. ﴿رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ﴾. اغفِر لمن سبقَنا في هذه المساجد وهذه الديار والبلدة، واجمعنا بهم في دارِ الكرامة وأنت راضٍ عنا، وثبِّت الأقدام على ما تحبه منا، واختم لنا أجمعين بأكملِ الحسنى. يا مُجِيبَ الدعوات، يا قاضي الحاجات، يا دافع الآفات، يا رب الأراضين والسماوات، انظر إلينا نظرة ربانية رحمانية تُصلح بها شؤوننا الظاهرة والخفية، وتدفع بها عنا كلَّ أذيَّة وبلية، يا أكرم الأكرمين. ﴿ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ﴾
واختم لنا بلا إله إلا الله، واجعل آخرَ كلامِ كلِّ واحدٍ منا مِن حياتِه الدُّنيا لا إله إلا الله. واحشرنا في زمرة كُمَّل أهلِ لا إله إلا الله، يا أرحمَ الراحمين.
عباد الله:
إنَّ اللهَ أمرَ بثلاث ونهَى عن ثلاث: ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ وَإِيتَاء ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾
فاذكروا اللهَ العظيمَ يذكُركم، واشكروه على نعمه يَزدْكُم ولذكرُ الله أكبر.
للاستماع والحفظ