محاضرة بعنوان : منهج الدعوة إلى الله في مدرسة حضرموت
الحمد لله خالق كل شيء، ولقد خصَّصَ من بين الخلق جنساً جعلهم المكلَّفين تعرَّف إليهم وتنـزَّل ليتولى لهم تبيين المنهج في سَيرهم، ويُنعم عليهم بإرشاده لسبيل سعادتهم، لئلا تُسامَى مرجعيَّتُهم ولا يُشابَه مستَندهم بحال، فله الحمد على ما خلق أولاً، وهيأ للتكليف ثانياً، وأرسل الرسلَ ليبلِّغوا عنه ثالثاً، فحملوا إلينا نورَه المبين، ومنهجَه القويم، وشرعَه العظيم، توالَوا على الأزمنة والفترات حتى خُتِموا بخير البريات، وأشرف أهلِ الأرض والسماوات، اللهم أدم صلواتك على عبدك المصطفى سيدنا محمد، الداعي بإذنك إليك، والدالِّ بنورك عليك، وعلى آله الأطهار وأصحابه الأخيار، وعلى كل مَن أحسن استقبالَ هذه الدعوة فكان مدعوًّا محظيًّا بنورانية وروحانية التوجيه منك فأصبح فيمن كتبتَ لهم السعادة، وهيأت لهم الحسنى وزيادة، وعلينا ومعهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
أما بعد:
ففي تواصل اللقاءات في هذه الحلقة العلمية التي جاءت على يد الحبيب أبي بكر المشهور وحرَّك لها أهل المنتديات وبعض الشباب ليؤدوا دوراً من الأدوار الواجبة والمهمة في حياتنا نأتي في هذه الحلقة العلمية إلى قضية منهج الدعوة إلى الله.
عظمة منهج الدعوة إلى الله
منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى يحتل المنـزلةَ الأسمى في هذا الوجود لكونها الدعوة إلى رب الوجود بمنهاج رب الوجود، على قدم سيد الوجود، فماذا في الوجود يمكن أن يطاولَها أو يقاربَها في المنزلة؟ لكل ذلك نفقه أن مهمةً كانت هي مهمةُ المرسلين صفوة الله من البرايا ﴿ اللهُ يصطَفي من الملائكةِ رسلاً ومن الناس ﴾، فيجب أن تحتل في قلوبنا معشر الذين آمنا بالله مكانَها، وإذا احتلَّت مكانَها من قلوبنا وعقولنا أحسنَّا التفاعلَ معها، وسهُل لنا الاهتداء إلى منهجها واستبيان معالم هذا المنهج، وخطواته وحقائقه، والارتقاء في سلَّمه.
عظَمَةُ الدعوة إلى الله تبارك وتعالى مربوطة ومقرونة بعظمة المدعوِّ إليه، ألا إنه الله، لكن إنما تكون الدعوة إلى الله دعوةً إلى الله إن كانت على وفق المنهج الذي ارتضاه الله، وإلا فكم من صورةِ دعوةٍ قامت باسم الإسلام والدين هي دعوةٌ إلى نفس أو إلى جماعة أو إلى رأيٍ أو إلى حزب أو إلى دولة أو إلى غرضٍ من الأغراض وليست دعوةً إلى الله، وإنما تكون الدعوة دعوةً إلى الله إذا كانت على الأسس التي ارتضاها الله بالمنهج الذي اختاره الله ورضيَه تعالى في علاه. وإذا علمنا ذلك فإن محاسن هذا المنهج وخصائصه وعجائبه لسعَتها وكثرتها ووفرتها وعُمقها تعدَّد بروزها وظهورها في كلِّ مَن صدَق الإتباع لمحمد صلى الله عليه وآله وسلم، سيد الدعاة إلى الملك الحق صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فجميع من حُظِيَ باتباعه يشرق عليه فيما يستلهمه في هذا الإتباع ويقوم به في دور التبعيَّة في الدعوة إلى الله على منهجه صلى الله عليه وسلم نصيبٌ من سناء هذا المنهاج ومحاسنه وخصائصه ومزاياه، وبذلك تعددت الأساليب والوسائل واتحد المقصود والمراد، واستظلَّ كل متنوَّع الوسائل والأساليب بظل لواء صاحب السيادة في الدعوة صاحب الإذن المطلق من الحق الداعي إلى الله بإذنه السراج المنير البشير النذير صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ، وكانوا بعد ذلكم في هذه المحاسن والسنا من هذا المنهاج على مراتب جليلات وبعضها أجل، رفيعات وبعضها أرفع، شريفات وبعضها أشرف.
معنى الاتحاد والوحدة في دعوات الرسل
بهذا نعلم أن كلَّ دعوة إلى الله تبارك وتعالى قامت على حقيقة الدعوة إلى الله على ظهر الأرض في مختلف مدارس المسلمين وطرقهم وأساليبهم لها استظلال بظل اللواء الواحد واستقاءٌ من المعين الواحد، وبهذا نعلم معنى قول قائلهم:
فهم كذا الرسل بنو علاتِ
|
طريقهم واحدة في الذاتِ
|
تعددت في الرسم والهيئاتِ
|
في كل تفصيل بلا انفصالِ
|
انشعبوا في شعب الإسلامِ
|
وافترقوا في ظاهر الأحكامِ
|
واتفقوا في القصد والمَرامِ
|
وقصد وجه الله ذي الجلالِ
|
إذا علمنا ذلك فإنا نُشرف على حقيقةٍ من الحقائق قبل أن نأخذ في تفصيل المنهج، وهي معنى الاتحاد والوحدة في دعوات الرسل، مع اختلاف شرائعهم، بل الشريعة الواحدة يأتي فيها حكمٌ ثم يُنسخ لحِكمة، وقد يتكرر النسخ حتى يستقر الأمر على ما أراد الله أن ترسخ عليه تلك الشريعة وذلك المنهاج لتلك الأمة. وتميَّز من بين الكل منهاج نبينا أنه المنهاج الذي جاء للجميع، لا لقومٍ مخصوصين ولا لزمنٍ مخصوص، ( وكان النبي يُبعث إلى قومه خاصة، وبُعثت إلى الخلق كافة)، ولا يعكر صفوَ الفهم في وحدة الأنبياء أن هذا يبيح ما حرم هذا، وهذا يحرم ما أباح هذا، فلا يحكم أحد منهم بهواه، بل كلهم من عند الله بأمر الله تبارك وتعالى في علاه، فشريعة سيدنا موسى التي أباحت زواج الرجل ممن شاء من النساء، ثم شريعة عيسى التي حرمت الزيادة على الواحدة من النساء، ثم الشريعة الخاتمة الكاملة لمحمد صلى الله عليه وسلم التي أباحت الأربع وحرمت ما زاد على ذلك، وجعلت في ذلك واجبات ومهمات تتعلق بالعدل أو بالإحسان أو بإقامة الحقوق أو باستقامة الأمر على ما ينبغي، كل هذه الشرائع واحدة، وكلها من منبع واحدٍ ومعدن واحد، وبهذه النظرة نعرف معنى قول الرسل كما حكى القرآن عنهم ﴿ ونحنُ له مُسلمون ﴾ فالكل منهم مسلم من عهد آدم إلى أن بُعث النبي الخاتم صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، رزقنا الله حقيقة الإسلام.
أسس منهج الدعوة إلى الله
بهذه النظرة تأتي مناهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى في هذه الأمة الواحدة ﴿ وأنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ ﴾، قامت الدعوة في الأمة الواحدة على أسس، فمنها ما يلزم الكل ويجتمع عليه الكل من الضروريات المعلومة، ومنها ما يتعلق بمدرسة حضرموت وما كان فيها التركيز عليه والاعتناء به قد يكون أظهر من كثير من الأساليب غيرها في الدعوة إلى الله، فلنبدأ بذكر أسس هذا المنهج الذي تقوم عليه الدعوة إلى الله تبارك وتعالى:
الأول: إيمان عميق بأحقِّية ما يدعو الداعي إليه
أساس هذا المنهج إيمان عميق بأحقِّية ما يدعو الداعي إليه وبعظمته وبأنه الحق الواضح الصريح، ومن غير شك أنه إذا لم يتعمق هذا الإيمان في القلب فلن تقوى النتائج للداعي مهما دعا، ولن تأتي الثمرات المطلوبة؛ هذه هي القاعدة الغالبة، وإن كان من عجائب هذه الدعوة أن يحصل التأثير أحياناً في نصرتها أو إحيائها على يدِ من لم يكن متحققاً بالإيمان، (وإن الله ليؤيِّد هذا الدين بالرجل الفاجر وبأقوام لا خلاقَ لهم)، هذا يبين مواقفَ معينة نادرة في أحوال مخصصة يكون فيها انتشار النور وحصول التأثر الإيجابي الحسن بسببيَّة من لم يكن متحقِّقاً بحقائق الإيمان واليقين؛ لكن القاعدة الغالبة والسنة المطَّردة في هذا الكون إنما يكون تأثير الدعوة إذا قامت على أساس إيمان عميق وثقة تامة ويقين صادق لا ينتابه شكٌّ ولا ريب، فبذلك تحسن معالجات المواقف المختلفة، ويحصل الثبات، وتحسن التأثيرات قريباً أو بعيداً إلى حدود غريبة جداً، فقد تصل أحياناً إلى التأثير على من سيأتي من قِبل داعٍ يخاطب حاضراً عنده، يبين ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي قال عند رجعته من الطائف وقد ردَّ عليه القوم ردَّا قبيحاً ورموه بالحجارة، فجاءه جبريل ومعه ملك الجبال ، فقال له جبريل: إن الله عز وجل قد سمع قول قومك لك وما ردوا عليك، وقد بعث إليك ملك الجبال لتأمره بما شئت فيهم، قال: فناداني ملك الجبال وسلم علي. ثم قال: يا محمد إن الله قد سمع قول قومك لك، وأنا ملك الجبال. وقد بعثني ربك إليك لتأمرني بأمرك. فما شئت؟ إن شئت أن أطبق عليهم الأخشبين، فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: بل أرجو أن يخرج الله من أصلابِهم من يعبد الله وحده، لا يشرك به شيئا ) فتأثير دعوته خرقَ الحجب إلى الأصلاب فتأثَّر الذين في أصلابهم من دعوة هذا الصادق صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، كذلك مهما نبعَت الدعوة من أعماق هذا الإنسان موقناً مصدِّقاً فأثرُها الطيب محتوم، سواء برز في الحاضر أو سيبرز مستقبلاً .. إذن لهذه الدعوة عجائب حينما تنبثق من الإيمان العميق، من التصديق القوي، من اليقين الذي يملأ جوانح القلب.
الأساس الثاني: العلم والاعتدال فيه
عند ذلك يتبعه الأساس المتصل به، وهو أساس العلم بهذا الإيمان، نجد في هذه المدرسة التي نحن بصدد الحديث عنها مقابلة المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى لمن يحمل في ذهنه وعقله أفكاراً خرجت عن مسلك السواد الأعظم من الأمة ومسلك أهل السنة والجماعة، فكانت لهم نظرات حول الصحابة، وحول قضايا من أصول هذا الدين، فجاء وأنصاره قلة قليلة جدا من أهل الوادي، ففي ذلك العصر الذي جاء فيه المهاجر في الوادي أهل السنة موجودون بلا شك غير منقطعين ، لكن الشوكة والغلبة فيه كانت لطائفة من غير أهل السنة؛ بالإيمان العميق لم يقلق ولم يتزعزع وخرج من محل الإمداد بالأموال وكثرة الخراج، إلى محل الاستهلاك للمال، ولم يتزعزع، وفي فترة قصيرة تحولت وِجهة الناس وأفكارهم واجتمع أهل السنة، وأثَّروا على من حواليهم، واقتنع المقتنعون، ووقف الذين غلبت عليهم الأهواء، فما استطاعوا أن يقولوا شيئاً أمام إيمانٍ عميقٍ أفاض حجةً قوية، في ثقة عظيمة، وأدب وافر، وهذا من أندر ما يكون في التاريخ، أن تكون شوكة وغلبة لمنهجٍ في الفهم والاعتقاد سائداً في منطقة، فيتحول بهمَّة فردٍ يأتي إلى المنطقة ويتغير الأمر كله، وهو مع ندرته في التاريخ ، إلا أن له أمثله ونماذج متعددة، وكان الرسل صلوات الله عليهم إنما يأتون إلى مجتمعات كلها ضد ما يقولون وعلى خلاف ما يدعون، وبهم يحوِّل الله الأحوال، وفي هذا المسلك جاءت سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو يقول لعمه: (يا عمي والله لو وضعوا الشمس في يميني، والقمر في يساري، على أن أترك هذا الأمر ما تركته حتى يظهره الله أو أهلِك دونه) وفي الإيمان العميق والأدب الجم قال صلى الله عليه سلم: (حتى يظهره الله) ولم يعبر بقوله: حتى أظهره وحتى أنصره وحتى أنشره وحتى أُقيمه ولكن قال: (حتى يظهره الله) جل جلاله وتعالى في علاه، فما يعدُّ نفسه في جهاده الطويل العريض إلا عبداً لله تعالى متسبِّباً في الهداية؛ والإظهار والهداية من الله لبراياه ولخلقه، كان هذا المسلك في الإيمان العميق في الإمام مقروناً بأخذ النصيب من العلم على نظرة اعتدال.
فأقل العلمِ: العلمُ بالأمور المجمَع عليها والواجبات الواضحة والأمر المتفق عليه من كريم الأخلاق فهذا أساسي وضروري لكل داعي، ولكن نظرة الاعتدال ألا تقيَّد الدعوة إلى الله بالمتَّسع في العلم، ولكن للمتَّسِع في العلم مجال الإفتاء ومجال المرجعية في بيان الأحكام الشرعية، فلا حق لداعية لم يبلغ هذه الرتبة وهذه المنزلة أن يتجاسر ولا أن يتجرأ عليها، ففرقٌ كبير بين نشر الدعوة إلى الله وبين الفتوى في أحكام الله، ومساحة الدعوة إلى الله بالمجمَع عليه قاسم مشترك بين فئات المسلمين، وعند النزول إلى الأحكام يجب الرجوع إلى أهل التخصص وإلى مَن يوكل إليه الأمر، وإلا صارت الدعوة فوضى وعبث وعرَّضت الناس لمشاكل كثيرة، لهذا نجد أن بعض جماعات الدعوة إلى الله من غير أهل هذه المدرسة يقررون أننا ندعو إلى الفضائل ولا نقرر المسائل، وأن المسائل لها أهلها، ونجد جماعات أيضاً مسلمة قامت بتجاسر في خلط الدعوة بمسائل الأحكام والفتوى، فيأتي فيهم من يتدارك ويقول دعاة لا قضاة، ونجد من يتدارك من مفكِّرِيهم بعد صدور كتب بستين سنة ليقول لا يجوز أخذُ الحكم من كتبنا هذه وكتب قادتنا، فقد كتبوها في ظروف معينة.. والكاتب ليس المتخصص في إصدار الحكم، وخصوصاً في قضية هامة تتعلق بتكفير المجتمعات وتكفير الدول وتكفير العامة من المسلمين، اضطروا إلى هذا لأنهم عند انطلاقهم في الدعوة أولاً غابت عنهم أهمية العلم بالأحكام وظنوا أنه يمكن بمجرد إعمال العقل واستعمال الوسائل الاستغناء عن فهم كثير من تفاريع الأحكام الشرعية، وما علموا الميزةَ في هذه الأحكام والعظمة والجلالة التي أضفتها عليها إرادة الله، إذ هي المتفرعة من نصوصه ومن نصوص رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فكان من الضروري الاعتناء بهذه المسألة وأن يُجعل العلم في مكانته، وأن تُرَدَّ المسائل إلى المتخصصين فيها وأن لا يُمنع المسلمون بكل مستوياتهم في العلم أن يدعوا إلى الله تبارك وتعالى لكن بضوابط أن لا يتجرَّؤوا على الحكم في المسائل، وبضوابط أن لا يقولوا ما لا يعلمون، وبضوابط أن يقولوا ما تيقنوه ويلزموا حدَّهم ويعلموا أن المتخصص في هذا الجانب يحتاج أن يتوقف في مسائل كثيرة فكيف من لم يتخصص، وأن الباذل عمره في هذا التخصص يقول في مسائل كثيرة تُعرض عليه: (الله أعلم)، حتى شوهد إمام دار الهجرة الإمام مالك بن أنس عليه رضوان الله في مجلس واحد يُسأل عن اثنتين وثلاثين مسألة فيجيب عن اثنتين ويقول في باقي الثلاثين الله أعلم لا أدري، فإمام دار الهجرة لم يستنكف أن يقول أمام الملأ من الناس: لا أعلم، لا أعلم هذه المسألة، فمن الخطأ الفاحش أن يُتَجرَّأ في مسألة الدعوة إلى الله على إصدار الأحكام، وهو مكانٌ معظم له قدره في الشريعة، والاستهانة به استهانة بالشريعة نفسها، حتى أصبح الكثير من الناس يحترم التخصص في جميع ما يتعلق بالجسد والمادة من هندسة الأجهزة إلى طبِّ الأبدان، إلى الإدارة في المؤسسات وأماكن الأعمال والشركات فعندهم احترام قوي للتخصص وإرجاع الأمور إلى أهلها، حتى إذا جاء إلى عند دين الله أباحه لكل متطاول ولكل متحدث وربما نصبَ الواحد نفسَه مفتياً بعد أن يتعلق بالدين بشهرين أو بثلاثة أشهر، في الوقت الذي يكون فيه من أجهل الناس بتفاريع أحكام عماد الدين الذي هو الصلاة أو الطهارة أو ما يتعلق بها، وكل ذلك من تضييع العلم المسند، فإذا أُضيع العلم المسند حلَّ محله التجري وأحد أمرين: القول بغير علم أو التحديث بلسان الجهل المركب الذي هو إدعاء العلم بغير علم ، وهذا الذي وقع في الأمة وعانت منه كثيراً .
فالأسس التي نلاحظ فيها نجاح المنهج الذي دخل بواسطته الألوف ثم الملايين إلى دين الإسلام بغير سيف، بغير قتال، بغير شدائد، بغير إشكالات وصعوبات كان من جملة الأسباب فيه أنه يقوم على العلم أيضاً في الأحكام، ولا يُتجاوز فيه الحد عند إصدارها، فالدعوة إلى الله مرتبطة بالعلم بأحكام الله على الاعتدال الذي ذكرناه.
فأما نظرية أنه لا يفوه بالدعوة إلى الله إلا متبحِّر في علم الشريعة فهذا بحد ذاته إضعاف لمنهج الله في الأرض، وللصلة به بين الناس، وفتح بابٍ لنسيان الأحكام، ولوقوع الناس في المخالفات، ولذهاب الأصول من الإيمان واليقين، والمحبة لله ورسوله، والتعظيم لله ولشرعه ولدينه، بل قال صلى الله عليه وسلم لمختلف مستويات الأمة أمامه، وفيهم الذي كان مصاحباً له من أول أيام نزول الوحي إلى السنة العاشرة في آخر عمره عند حجة الوداع، وفيهم الذي جاء بعد سنوات، وفيهم الذي أسلم قبل سنة واحدة، وفيهم الذي أسلم قبل أشهر، وفيهم الذي أسلم في ذاك الشهر، وهو يقول لهم: (ليبلغ الشاهد منكم الغائب) فكلَّف الجميع بالدعوة علماؤهم وقدماؤهم، والذين قضوا عمراً في فقه الأحكام والذين أسلموا قريباً، لكن دون أن يتجرَّأ أحد منهم على التقوُّل في الحكم؛ ومن هنا جاءنا في تاريخ الصحابة أنهم كلهم دعاة، ولم يكن مَن يتولى الفتوى منهم إلا مَن يُعدُّ بأصابع اليدين، وكلهم في شأن الدعوة إلى الله متسابقون وراغبون، ولكنهم في شأن الفتوى زاهدون ومتأخرون ومتدافعون لها، ( يتدافعون الفُتيا بينهم) ، كل ذلك لحُسنِ التربية من رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وصياغة تلك العقول والمدارك التي أدركت عظمة تلك الرسالة ومعنى الصلة بالله تبارك وتعالى.
فهذا جانب العلم والاعتدال فيه، لا منع الناس من الدعوة إلا بتبحُّر في العلم، ولا إهمالٌ لشأن الرجوع إلى العلماء من كل داعٍ ومن كل مدعو ومن كل صغير وكبير، وإعطاء القوس باريها في مجال هذه التخصصات.
الأساس الثالث: التحقق بالعمل بما يدعو إليه
يتصل بهذا الأساس أساس ثالث: وهو تحقق العمل بما يُدعى إليه في حال الداعي وذات ذلك الداعي، بأن يكون قدوةً في عمله ومعاملته، هذا الأساس هو الأبرز فيما كان من دعوة أهل هذه المدرسة في شرق آسيا وفي شرق أفريقيا إلى المتأخرين منهم.. في العصر القريب توفي بعض الذين كانوا يحملون الدعوة من أهل هذه المدرسة في أفريقيا، وكان يشتغل بالتجارة ليعفَّ نفسه عن المسألة، وكان وسط التجارة في تجارة أبدية سرمدية في خدمة الدعوة المحمدية، يقول لي بعض الموجودين الآن وهو الحاج خميس - شائب أصله من فارس مقيم بكينيا قال : طلب مني ذلك الداعية وأنا في قرية من قرى أفريقيا ليس فيها مسلم أن أنظر له دكاناً ليفتح دكاناً له في ذاك المكان، فرتبت له مكاناً فجاء وفتح الدكان، فكان بأسلوب أدبه وأخلاقه ملفتاً للنظر، ومن جملة ذلك أنه لو اشترى أحدهم الشاي مثلاًً من دكانه، يزن له ما طلبه من الشاي ويضيف إليه قليلا من السكر، يقول: عجيب أنا ما اشتريت منك هذا، يقول: وأنا ما أخذت منك الفلوس إلا حق هذا الشاي، يقول: لم أعطيتني السكر؟، قال: ليساعدك على شرب الشاي ، فيقول متعجبا منه: ألست تقصد الربح في تجارتك ، فلم تتصرف هكذا؟ قال: ديني يأمرني بهذا ويحبِّبه إلي ، فيسأله عن دينه ؟ فيحدثه عن الإسلام ويشرحه له، ثم يأتي آخر ليشتري منه رزا، فيضع معه قليلا من السمن دون أن يأخذ منه قيمته، فيقول: لم وضعت السمن؟، يقول: ليساعدك في الطبخ، يقول: ولم تتصرف هكذا ؟ قال: لأن ديني يحبِّبني إلى هذا، فيسأله عن دينه، فيقول: الإسلام، ثم يسأله عن الإسلام، فيشرح لهم الإسلام.. وهكذا، ثم تشاور أهل القرية في شأنه، قالوا: تعال يا هذا الشيخ والله دينك عجيب لكن نحن كبار في السن، ومن العيب أن نتبعك، فماذا نعمل، قال: هاتوا أولادكم، فأحضروا له الأولاد، ودخلوا الإسلام، ثم أثروا في البيوت، فجاء الآباء ليعلنوا له إسلامهم، وهكذا انتشر الإسلام بينهم فبنى لهم مسجداًَ في القرية، وأقبلوا على الصلاة وصار أكثر أهل القرية مسلمين. ثم طلب ذلك الداعية من الحاج خميس أن يختار له دكانا آخر في قرية أخرى لا يوجد بها مسلمون ، وهكذا فهو يتاجر ويتاجر، وهو حامل هذا الهم.. لما انتهت مهمته في هذه القرية ذهب ليفتح له دكانا في قرية ثانية من أجل أن يدخل الناس أيضاً في الإسلام، بمثل هذا الأسلوب وهذه الطريقة طريقة التحقق بخلق الإسلام، ولذا تجد من السهل الكلام على القيم وعن المُثُل وعن الشمائل وعن الأخلاق عن المكارم عن الحلم عن الصبر عن الحياء، ولكن الشأن بعد ذلك وقت المعاملة .
وكثير من شبابنا المعاصر اصطدموا اصطدامات من قِبل أناس كانوا رأوا فيهم مثلاً في الدعوة إلى الدين والإسلام فلما عاشروهم رأوا أخلاقاً غير الأخلاق ومعاملات لا يقرُّها الشرع، فاصطدموا اصطداماً شديداً عنيفاً، وحصل عند بعضٍ ارتداد عن الإسلام بسب سوء العمل من الذين يلبسون قميص الدعوة إلى الله غير صادقين مع الله تعالى في عملهم وقيامهم بالأمر.
إذن تخلُّق الداعي بخلق الإسلام أساس في نجاح دعوته وقبوله عند الله تبارك وتعالى، وهذا الذي نزل به القرآن: ﴿أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلاَ تَعْقِلُونَ﴾ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُولُوا مَا لا تَفْعَلُونَ﴾، ويقول سيدنا شعيب لقومه: ﴿ وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ﴾ لا أنهاكم عن شيء ثم أذهب لأعمله في السر، ﴿وَمَا أُرِيدُ أَنْ أُخَالِفَكُمْ إِلَى مَا أَنْهَاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾ .
فكان بسبب هذه الصفة وبروزها إسلام كثير من الناس في شرق آسيا، ففي إندونيسيا تسعة كلهم من حضرموت سبعة من ذرية صاحب الذكرى الإمام المهاجر، واثنان من قبائل أخر من حضرموت، هؤلاء التسعة كان بداية دخول الإسلام في القرن السادس في جزر جاوة وأندونيسيا على يدهم، وابتدأ الإسلام هناك حتى رغب فيه الملوك، وأسلمت الملوك والشعوب، وانتشر الإسلام انتشاراً عجيباً من دون شيء من الإشكالات ولا من الحروب ولا القتال ولا غير ذلك، أبرز ما كان فيهم أن الإسلام يُقرَأ في أفعالهم وفي أقوالهم وفي معاملاتهم، فصاروا مأمونين عند الناس، مأمونين على الأموال، مأمونين على الأعراض، مأمونين على الأسرار، حتى أمائن الناس صارت إليهم كحال نبيكم صلى الله عليه وسلم في مكة من قِبل المشركين الذين يكذِّبونه ويؤذونه، وعند الحاجة للأمانة يأتون بودائعهم إليه ليكون المستودَع لها صلى الله عليه وسلم لثقتهم به ولعلمهم كيف حال هذا الرجل وكيف حال هذا الإنسان صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، فباتباعه هذا قام أساسٌ في منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى.
الأساس الرابع: تنزيه القصد عن الغرض، والإخلاص لوجه الله
يتصل بهذا الأساس أساس تنـزيه القَصد عن الغرض وعن إرادة غير وجه الله، وذلكم هو عنصر الإخلاص الذي لا يُقبل العمل إلا به، ومهما انتشرت دعوة بين الناس وهذا العنصر فيها ضعيف فلا توصل إلى الله ، ولا بد أن تكون نهاياتها فشل وإشكالات كثيرات، عنصر الإخلاص وهو تنـزيه القصد عن إرادة غير وجه الله، وعن أن تكون الأغراض والأطماع هي الداعية للداعي أن يدعو في صورة الدعوة إلى الله، وهو داعٍ لتحقيق ذلك الغرض أو ذلك المقصد، من هنا نقف عند منهج الدعوة في هذه المدرسة إلى أن الفرعية في المذهب والفرعية في الاتصال بالسند جاءت فرعاً عن دعوتهم إلى الإسلام ليست المُرتكز ولا الأصل الذي دعوا الناس إليه، ولتوضيح ذلك نقول:
يأتي خلط كبير بين التَّمذهب بمذهب صحيح من مذاهب الحق، وبين أخذ طريقة صحيحة في التربية، وبين الدعوة إلى الله، يأتي الخلط بأن تتحول الدعوة إلى دعوة إلى فرع ويُنسى الأصل، يُدعى إلى الطريقة، أو يُدعى إلى المذهب فيتحول الفرع أصلاً، ويراد للأصل أن يكون فرعاً، وذلك لا يستقيم، وإذا استحكم هذا في الناس تحول المسلمون كلٌّ داعٍ إلى مذهبه، كلٌّ داعٍ إلى رأيه، كل داعٍ إلى طريقته، وعُدم الداعي إلى الله، فلا نجد الداعي إلى الله، وما نجد إلا داعٍ إلى شيء من الفرعيات التي أسقطت الأصل. فالقوم في منهجهم في الدعوة إلى الله لم يكونوا دعاةً إلى خصوص طريقتهم، وما كان انتهاج من حواليهم في طريقتهم إلا ثمرةً ونتيجة لصدقهم في الدعوة إلى الله وإلى الإسلام، ثم تلفَّت الذين دُعوا وآمنوا فاستجابوا وقيل لهم أمامكم مناهج وطرق ونحن نتمذهب بواحد من المذاهب هو كذا، فلما رأى الناس قيماً وأخلاقاً تبعوا في الفرعيات هؤلاء القوم لا على أساس أنه دعوتهم إليها، ولكن على أساس أنها جزء من الأجزاء التي لابد لمن مسك الأصل من أخذِ واحدٍ منها، بهذا الأسلوب صارت معرفة الناس سواء بتاريخهم أو بعاداتهم الفرعية لما كانت فرعية كانت ثابتة ثباتاً عجيباً، وانظر في عصرنا لما حوَّل بعض الناس قضايا فرعية ليجعلها أصولاً ويركز الدعوةَ عليها أحدثت فشلاً وإشكالات وأتعاب، انتهت في عصرنا الحاضر إلى أن تسمى كثير من مظاهر الدعوة إرهاباً، كما تسمعون..
لقيت في أفريقيا رجلا من أهل العلم من السودان وكان قد خرج مع رابطة العالم الإسلامي إلى عدة دول فقال: كنت موظفاً مع الرابطة في الدعوة في ماليزيا، فكتبت في التقرير لرؤساء الرابطة: إننا ننفق أموالاً كثيرة ونقضي أوقاتاً طويلة ولا تظهر آثار دعوتنا في الناس، وقد شاهدت في ماليزيا عادات فرعية بسيطة من حضرموت متأصلة عند الناس، كأنها مغروسة فيهم وكأنهم غُرسوا فيها ، فنصيحتي أن تبحثوا عن الطريقة التي بثَّ بها هؤلاء دعوتهم وترجعوا إليها، لأنهم لم يبذلوا ولو عُشُر ما تبذلونه أنتم، لكن أثرهم قوي، والذين يتأثرون بدعوتهم يتعمق فيهم حتى فرعيات القوم.. وذلك لأدب القوم مع الأصل فلما تأدبوا مع الأصل عظم الفرع منهم بعظمة ذلك الأصل، فما كانوا يدعون لأنفسهم، ولا يدعون لنيل المنـزلة بين الناس ..
حتى أن أحد هؤلاء التسعة زوَّجه أحد الملوك في اندونيسيا بابنته وبقي عنده، ولم يكن عند الملك أبناء، فلما كبر سنه أوصى بالملك لزوج ابنته فأبى ورفض، قال: أنت أحق به وليس من صلبي أبناء وآل المملكة كلهم يعظمونك ويحبونك، وأنت أنقذتنا من الكفر إلى الإسلام، فأنت أحق بهذا المنصب، قال: والله لا أتولاه بنفسي قط، حتى قام مع الملك الرعية والشعب يحاولون الشيخ أن يتولى المُلك بعد المَلك، فأبى ورفض، حتى انتهى الصلح بينهم إلى تولية ابنه شئون الملك ؛ فكان ذلك الداعية من أزهد الناس في أن يتولاه وما رضيه لابنه إلا تحت تلك الضغوط في دائرة أدب علم فهم وعي قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ( إنك إن طُلبتها أوكلت إليها وإن طُلِبت لها أُعنتَ عليها) (وإنا لا نعطيها من سألها) ومع ذلك فقد تجاوز هذا الحد فطُلب لها فلم يرضَ هو لنفسه قط حتى جاء الإلحاح والطلب لابنه فتسامح في ذلك مربِّياً لهذا الابن محذِّراً له من الاغترار بمسألة هذا المُلك ملقياً على عاتقه الأمانة في القيام بالمسؤولية، موصياً له أن لا يجعلها متوارثةً في أبنائه، مذكِّراً له بقول عمر بن الخطاب: (يكفي أن يُسأل عنها من آل عمر فرد) ، وأمر ابنه عبدالله أن يحضر مع أهل الشورى فقط، وليس له حق أن يُرشَّح للخلافة ، فكان عبدالله بن عمر يحضر مع الستة أهل الشورى لا حقَّ له في الأمر قط، حتى أقاموا سيدنا عثمان بن عفان رضي الله تبارك وتعالى عنهم أجمعين.
لفقدِ هذه النقطة تحولت الدعوة إلى الله إلى الدعوة إلى الأنفس، إلى الدعوة إلى المذاهب إلى الدعوة إلى التنظيمات، إلى الدعوة إلى الحزبيَّات، وأُصبغ عليها الدعوة إلى الله ونقول استحيوا، فإن المدعوَّ إليه عظيم ، وإذا أردت أن تدعو إليه فكن على قلب يرضاه هذا العظيم ﴿ تِلْكَ الدَّارُ الآخِرَةُ نَجْعَلُهَا لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الأَرْضِ وَلا فَسَادًا وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ﴾ لا يريدون علوًّا في الأرض، إذن فعُلوُّهم عند رب السماء والأرض، أعلاهم جل جلاله ، وفي هذا جاء المنهج النبوي، فقد ورد أن بعض أقارب النبي وهو عمه العباس - العزيز عليه يقول سيدنا عمر كان النبي يرى للعباس ما يرى الابن لوالده - يطلب منه بعض الإمارات يقول: (لا يا عم إنا لا نعطيها من سألها) يريد أن يجمع شرف الحجابة في البيت مع شرف السُّقيا والرفادة، يقول اجمعها لنا يا رسول الله قال: (لا يا عم إنما أعطيكم ما تُرْزَؤُون به، لا ما تَأْرِزُون إليه)، قال الذي تتشوف إليه النفوس ما أعطيه أهل بيتي أنا أعطيهم الذي يشق، الثقيل الذي النفوس تنفر منه أكلفهم به وأسلمه لهم صلى الله عليه وآله وسلم، لذا وجدنا في سيرته هذا الأمر، تأتي إليه بنته فاطمة، فلا تجده في البيت، فيأتي متأخراً إلى بيته فتخبره أم المؤمنين أن فاطمة جاءت، فلا يقرَّ له قرار أن يجلس حتى يعلم لِمَ جاءت فاطمة إلى البيت وما حاجتها، فيخرج بالليل في الساعة المتأخرة بنفسه إلى بيت فاطمة، يدق الباب فدخل عليهم ، وقال: ( يا ابنتي بلغني أنك جئت إليّ تسألين عني فما جاء بك؟ )، فاستحيَتْ وخجلتْ وسكتت، قال سيدنا علي يا رسول الله إنما أرسلتها أنا قلت إن أباك قد جاءه عدد من الخدَّام يوزعهم على المسلمين، وقد أعياك الطحن والخبز حتى تجرَّحت يداك من عمل البيت، فلو ذهبتِ إلى أبيكِ فسألتيه خادماً، قال النبي: ( ألا أدلُّكما على ما هو خير لكما من ذلك ؟ إذا أويتما إلى فراشكما فسبِّحا اللهَ ثلاثاً وثلاثين، واحمداه ثلاثاً وثلاثين، وكبِّرا أربعًا وثلاثين، فذالكما خير لكما من خادم ) وهكذا قسَّم الخدام على فقراء المسلمين وترك أهل بيته ورضي لهم بالتسبيح، لا لهوان فاطمة عليه، بل هي أعز مَن على الأرض عليه، وأكرمهم على قلبه، وهي بضعة منه، ولكن لكرامتها عليه زهَّدها في الفاني، ورغب لها فيما هو أبقى وأعظم ، كذلك ربَّى رسول الله أهل بيته خاصة، كما نشر التربية للأمة عامة، جزاه الله عنا خير ما جزى نبيًّا عن أمته.
عندما تتحول الدعوة إلى أغراض، وإلى أحزاب، تأتي الإشكالات الكثيرة الكبيرة، يرحم الله الشيخ الشعراوي كان يقول: فرق بين من يريد أن يُحكَم بالإسلام، - أي أن مراده أن يُحكم بشرع الله- وبين من يريد أن يَحكُم بالإسلام، لا يريد أن يُحكم بل يريد أن يَحكم هو، ولا يريد الحكم بالإسلام من غيره، فهذا طالب حكم لا طالب إسلام، أما الثاني فيريد أن يُحكم بالإسلام ممن كان، القصد أن تنفَّذ أحكامُ الله وشريعته تبارك وتعالى، فيكون الفارق كبيراً.
ولذا عندما تفقد حقائق الصدق مع الله والإخلاص لوجهه الكريم تأتي بعد ذلك بعض المظاهر، فكم من قوم اجتمعوا لغرض الدعوة إلى الله، فكاد وقت الصلاة أن يخرج فيقوموا مستعجلين ليؤدوا الصلاة بسرعة كالمتبرمين بها ثم يرجعون إلى المجلس، يطيب لهم الجلوس في تخطيطهم، ويصعب عليهم الوقوف بين يدي الله بخضوع وخشوع فلا يحسون له بطعم ولا يحسون له بذوق، أهؤلاء دعاة إلى الله أم دعاة إلى تنظيمهم؟ أهؤلاء دعاة إلى الله أم إلى حزبهم وأغراضهم التي يريدون أخذها في هذه الحياة؟ لأجل كل ذلك سمعنا الحديث الشريف: ( إنكم ستحرصون على الإمارة وإنها ستكون ندامة يوم القيامة ) .
يأتي هذا الأساس في تنقية القلب عن إرادة غير الله تبارك وتعالى، وورد أن شاباً استأذن من سيدنا عمر بن الخطاب أن يتكلم على الناس بحيث يذكِّر بعد صلاة الصبح في المسجد، فنظر إليه سيدنا عمر قال: لا، لِم لم يأذن له؟ هل يمنع عمر الدعوة!؟ كان يحب الدعوة رضي الله عنه، فهو يتكلم مع الناس ويأمر غيره أن يذكِّرهم، فلم قال: لا؟ قال: إني أخشى أن تنتفخ حتى تبلغ الثريا، فليس مجالك هنا، أخلص لربك وانظر المحتاجين لتعليمك لتعلمهم، وأخلص نيتك في التعليم لوجه لله تبارك وتعالى.
الخاتمة
لهذا كله كان منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى منهج عميق خلاصته تنتهي إلى علم وعمل وحال، يتفرع عن العلم ما ذكرناه في شأن الأحكام ومعرفتها والاعتدال فيها وتعلقها بالدعوة، ويتفرع في شأن العمل ما ذكرنا من أن تكون الأخلاق قائمة والإسلام متمثلاً في شخص الداعي إلى الله تبارك وتعالى، ويأتي في شأن الحال ما أشرنا إليه من المقاصد والأغراض وما يحمله الإنسان من الوجدان، وما يتعلق بذلك من وجوب الرحمة في القلب التي منها ينطلق الداعي في دعوته فلا ينطلق متعالياً على من يدعوهم، بل محتملاً أن يكون أحد المدعوين شفيعاً له يوم القيامة ، ولا ينطلق في دعوته حين يدعو الناس على أنه أفضل منهم ولا أنه فوقهم، ولا يلمح مطمعاً من أموالهم ولا من ثنائهم ولا من إحسانهم ﴿إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ﴾ ﴿ أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخَالِصُ﴾.
ولذلك كان شغل الدعاة الأوائل الذين أدخلوا الإسلام إلى المناطق التي ذكرناها التجارة ليعفُّوا أنفسهم، ولينفقوا لا ليُنفَق عليهم، وليتصدقوا لا ليُتصدَّق عليهم، ليُعطُوا لا ليأخذوا، فهم يعطون العلم والدين ويعطون المال فوق ذلك أيضاً، فبذلك نجحت دعوتهم وأثمرت وعظمت كما هو الحال في المهاجر الذي بلغت ثروته بالعراق أحمالاً من الدنانير الذهب جاء بها معه وأنفقها في نفع الناس ودعوة الناس وإصلاح أمر الناس والرفق بالمساكين والضعفاء، فكان يذكِّر بأخلاق جده المصطفى صلى الله عليه وسلم، فكان يملك وادياً فسيحاً فيعطيه لأحد أعوانه في الخدمة في الدعوة إلى الله ، يا شويه خذ هذا المكان، يا مختار خذ هذا المكان، وادي كامل فيه قطع كبيرة يعطيها لهذا، وشِعب كامل يملكه يعطيه للثاني من الذين كانوا يقومون معه بالخدمة في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى، فكان يعطي في الحس ويعطي في المعنى، رضي الله تبارك وتعالى عنه وأرضاه.
هذه ملامح منهج الدعوة إلى الله تبارك وتعالى في سِيَرِ المختار وورثته الأبرار، وهذا ملمحٌ إلى ما ركزَت عليه هذه المدرسة في منهج الدعوة إلى الله من الأوصاف التي بها تم النجاح، ونسأل الله أن يحييها فينا لننجح آخراً كما نجحوا أولاً في واقعنا وعصرنا الذي نعيش فيه، فنُقبل على الناس بتلك الرحمة وتلك الآداب وذلك العطف وذلك الاحترام لكل ذي كبد رطبة، لكل إنسان، لكل مسلم، لكل مؤمن، وإشاعة الألفة والأخوة والمحبة ومعرفة عظمة الوحدة بين المسلمين.
ثبتنا الله وإياكم على الاستقامة، وتفصيل ذلك يطول، وفي هذا الإلماح إلى الأُسس والمهمات كفاية إن شاء الله، والمتبصِّر تفتح له الأبواب، ليفهم من خطاب الله ما يتسع له به المجال، ويقوم به في دوره بدوه في حياته.
نسأل الله أن يمكِّننا وإياكم من حسن أداء الدور المحمود لديه، ويجعل سعينا مشكوراً عنده، ويثيبنا ويوفقنا وينظمنا في سلك المتواصين بالحق والصبر والحمد لله رب العالمين.