بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله الذي أكرَمنا بالأنوار المتلألئة، التي لا تزداد على ممر الزمان إلا إشراقا، وبعث إلينا عبدَه المصطفى الذي انتخبه من البرية فجعله أحسنهم خلقا وأخلاقا، صلِّ اللهم وسلِّم وبارك عليه وعلى من راق له العيشُ في كنفِ الاتصال به من أهل بيته وصحبه وأهل قربه وحبِّه مِن كل مَن دخل في تلك الدائرة أبداً سرمداً إلى يوم الدين، وعلينا معهم وفيهم برحمتك يا أرحم الراحمين.
وبعد .. فها نحن نستقبل سيد الشهور، وأفضل الشهور، وخير الشهور، شهر الجود الواسع من حضرة الله، شهر العطاء المتدفِّق من بحار كرمِ الله.. شهر رمضان.. لمَّا ذكره مرةً رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قال: ( ماذا يستقبلكم؟ وماذا تستقبلون؟ ) معظِّماَ لشأن هذا الشهر، ولافتاَ أنظار أهل الإيمان إلى المزايا التي جعلَها الله تبارك وتعالى في هذا الشهر الكريم.
من خصائص شهر رمضان:
حدَّثنا نبينا صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في السنة الكريمة عن شؤون كريمة كبيرة لرمضان منها :
روى عبادة بن الصامت رضي الله عنه أنه سمع النبي عليه الصلاة والسلام يقول: ( أتاكُم شهر رمضان، شهر بركة، فيه خير، يغشِّيكم الله تعالى فينزل الرحمة، ويحط الخطايا، ويستجيب الدعاء، ينظر الله إلى تنافسكم، ويباهي بكم ملائكته، فأروا اللهََ من أنفسكم خيراً، فإن الشقيَّ من حُرِمَ فيه رحمة الله عز وجل ) أخرجه الطبراني وابن النجار.
سماهُ شهر بركة، ظهرت منها الآثار في ما كان في غزوة بدرٍ في السنة الثانية من الهجرة، السنة التي فُرِض فيها صيام هذا الشهر، فرض صيام الشهر في شعبان في السنة الثانية من الهجرة، وما مرت أحد عشر يوما منه إلا ونبيكم في صومه متهيئٌ للخروج، وخرج من المدينة المنورة قاصداً عيرَ قريش، فكانت غزوة بدر، في أول سنة فرض فيها صيام شهر رمضان. ولم يكن اشتغاله بالصيام مانعاً له عن التفكير في الخروج والقيام بالجهاد.. وهي أول خرجةٍ حضر معهم فيها الأنصار.. بينما كان يخرج بجماعة من المهاجرين .. فكان أكثر أهل بدر هم الأنصار، خرجوا معه، ولذا استثبتَ منهم في طريقه وقال: أشيروا عليَّ أيها الناس، لِما يرى إنما عاهدوه سابقاً في بيعة العقبة على أن يحموه مما يحمون منه أنفسهم وأهليهم وأولادهم بشرط أن يكون في المدينة، وقالوا نحن بُرَآء من هذا العهد حتى تكون في المدينة، والآن قد خرج بهم خارج المدينة، يواجه بهم أن يقابلوا كل الدويلات التي حواليهم .. مختلف القبائل الذين حواليهم .. فيتعرضوا لأن ينبذوهم أجمعين ويرموهم عن قوسٍ واحدة، فتأنَّى وتوقف وقال "أشيروا علي أيها الناس" فتكلم سيدنا أبوبكر فأحسن.. وسيدنا عمر فأحسن.. والمقداد الذي كان له موقف غبطَه عليه الصحابة وودَّ كلٌ منهم لو كان صاحب الموقف.. يقول: لا نقول لك كما قالت بنو اسرائيل لموسى اذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهُنا قاعدون.. ولكن نقول لك: اذهب أنت وربك فقاتلا فإنا معكما مقاتلون .. والله لنقاتلن من بين يديك وعن يمينك وعن شمالك ومن خلفك، فسُرّ وجهه بالكلام ولكن أعاد قولته "أشيروا علي أيها الناس".. ففطن لها الشاب الفهيم المنيب الخاشع .. سعد بن معاذ .. فقال: كأنك تعنينا معشر الأنصار؟.. تُريدُنا بهذا الكلام؟ .. أجــل .. آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ماجئت به هو الحق، أنقف عند حدود معاهدة واتفاقية في ألفاظها؟! نحن عرفنا من أنت الآن.. ولِعنا بمحبتك وقربك والقيام معك.. المسألة لا تقف عند حدود البيعة.. رسول الله آمنا بك وصدقناك وشهدنا أن ما جئت به هو الحق، فامضِ لما أمرك الله، لعلك خرجتَ تريد أمراً فأراد الله غيره.. امض لما أمرك الله .. وواصل من شئت .. وقاطع حبال من شئت .. وسالِم من شئت .. وحارب من شئت .. ونحن حربٌ لمن حاربت وسِلمٌ لمن سالمت .. والله لو سرت بنا حتى تبلُغ بِركَ الغِمادِ من الحبشة لسرنا معك، ما تخلف منا رجلٌ واحد، ولو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلف منا رجل واحد .. ولقد تأخر عنك أقوامٌ ما نحن بأشد محبة لك منهم ولو علموا أنك تلقى حرباً ماتخلفوا عنك، وما نكره أن تلقى بنا عدونا غداً، إنا لصُبٌرُ في الحرب صدقٌ عند اللقاء، ولعل الله يريك منا ما تقر به عينك يا رسول الله.. فسر رسول الله وكأنَّ وجهه قطعة قمر، قال: سيروا وأبشروا مايسِرُّكُم فإن الله قد وعدني إحدى الطائفتين، إما العير وإما النفير، ثم قال: والله لكأني أنظر إلى مصارع القوم. وبعضهم فطن لها من الصحابة، فعلم أن لا عير .. وأنهم مقبلون على جهاد وقتال.
( شهر بركة ) .. ظهرت البركة في بدر، ثم كانت غزوة فتح مكة في شهر رمضان، فظهرت البركة بفتح مكة في شهر رمضان، وبركات وبركات واسعاتٌ كثيراتٌ ظاهراتٌ وباطنات، جرت في الشهر الكريم المبارك، اللهم بارك لنا في شهرنا رمضان.. اللهم وسِّع لنا البركة في شهر رمضان.. ووفر حظنا من واسع بركة شهر رمضان .. يا ذا الجلال والإكرام، يا عظيم الطول والامتنان يا أرحم الراحمين.
( فيه خير ) .. تتغشى الناس فيه رحمة الله تبارك وتعالى، وتُحَط الخطايا، وقد ورد في الحديث أنه: من صام رمضان وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه، هكذا يروي لنا سيدنا عبدالرحمن بن عوف فيما أخرجه الإمام أحمد والنسائي "إن الله فرض عليكم صيام رمضان، وسن لكم قيامه، فمن صامه وقامه إيماناً واحتساباً خرج من ذنوبه كيوم ولدته أمه"، فلا يبقى عليه ذنب، فنِعم الشهرُ شهر المغفرة، جعلنا الله سبحانه وتعلى من خواص أهله إنه أكرم الأكرمين.
يروي لنا سيدنا علي بن أبي طالب عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنه قال: إذا جاء شهر رمضان أمر الله حملة العرش أن يكفُّوا عن التسبيح وليستغفروا لأمة محمد. شُغلكم الآن استغفروا لهذه الأمة، في شهر رمضان يلظون على الله ويلحون بالغفران لأمة محمد، فيُشغل حملةَ عرشه بالاستغفار لنا طيلة الشهر، فيا فوز المقبلين على الله.. ما أعجب ما أعد الله لأمة محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في هذا الشهر الكريم، يقول فيما رواه الديلمي عن سيدنا علي عن رسول الله "إذا دخل شهر رمضان أمر الله حملة العرش أن يكفوا عن التسبيح وليستغفروا لأمة محمد"، فتتوفر أسباب المغفرة، لهذا بَعُد من أدرك رمضان فلم يُغفَر له .. رَغِمَ أنفُ من أدرك رمضان فلم يُغفر له، من أدرك رمضان فلم يُغفر له دخل النار.. أسحقه الله وأبعده، يقول سيدنا جبريل فيما ورد في كل هذه الألفاظ لسيدنا محمد .. قل آمين .. قال فقلتُ آمين، اللهم اجعلنا جميعاً من الموفوري الحظ من الغفران في شهر رمضان ومن العتق من النيران يا كريم يا منان.
( ينظر الله إلى تنافسكم ) أي تسابقكم إلى الخيرات في شهر رمضان، فهكذا ينبغي أن يكون حال المؤمنين، تنافُسٌ في الطاعات، تنافُسٌ في طاعات القلوبِ والجوارح، في حقيقة الحضور، في حقيقة الخشوع، أيُّنا أطول قياماً .. أطول ركوعاً .. أطول سجوداً؟.. لا أيُّنا أخف!.. أيّنا أكثر خشية، أكثر تضرعاً، أكثر تذللاً لله تبارك وتعالى، أينا أكثر صدقة، والامام الترمذي يروي لنا عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: أفضل الصدقة صدقة في رمضان .. أينا أكثر صدقةً في رمضان؟ هذا المسلك الصحيح لأتباع رسول الله ذي الوجه الصبيح، صلوات ربي وسلامه عليه..
فانظر كيف غُيِّر هذا المسلك؟ بعض هذه الأمة وهم في رمضان يتنافسون أيهم أظهر ثياباً وأكثر أكلاً وأطيب مائدة! وبعضهم يتجاوز هذا .. أيهم أكثر لعباً!! فيجعلون ألعاباً في رمضان مخصوصة، ومسابقات في اللعب في رمضان مخصوصة بمناسبة رمضان، بمناسبة رمضان؟! هل هذا يتناسب مع رمضان حتى يكون بمناسبة رمضان!؟ تسمع أصحاب القنوات هذه الأيام يقولون أعددنا لرمضان كذا وكذا .. المسلسل الفلاني .. التمثيلية الفلانية .. البرنامج الفلاني من البرامج التافهة الساقطة .. بمنــاسبة رمضان ..! ورمضان لا يتناسب مع هذه العروضات ومع هذه الأشياء التي تعرضونها.. هذا إخراجٌ لرمضان عن ما يجب له وإخراجٌ للناس عن طورهم ومنهجهم وواجبهم نحو رمضان.
( ينظـر اللـه إلى تنـافسكم فيه ).. تنافسكم في القراءة، تنافسكم في الذكر، تنافسكم في التحفظ على الصوم عما يُخِلُّ به من غيبة أو نميمة. ولذا كان سيدنا الشافعي إذا جاء رمضان خصص للنهار ختمة ولليل ختمة، وللنهار ختمة ولليل ختمة، حتى ينتهي رمضان بستين ختمة، وبعضهم ينتهي رمضان ولا يختم ختمة واحدة! وإذا قرأ الإمام آيتين زيادة في ركعة اشتكى وقال: طـــوَّل الإمام عليـنا! أرى أنه تطوَّل عليك، أي تفضَّل عليك الإمام، تسمع آيتين من كتاب الله زيادة لك بكل حرف فيها عشر حسنات، والحسنة في رمضان بسبعين، وتُضاعَف إلى ألف كما ورد. أظن أن الذين طوّلوا عليك هم مُعِدوا البرامج الذين أخذوا ساعات طويلة منك، فلماذا لا تتضايق منهم؟!
( ينظر الله إلى تنافسكم فيه ) كيف نتنافس على الخيرات في شهر رمضان، كان كثير من أهل البلدة إذا جاء شهر رمضان أكبُّوا على أنواع العبادة، حتى لا يكادوا أن يروا أقاربهم ولا أصحابهم ولا من كانوا يجالسونهم، في مجالس العلم قبل رمضان، إلا يوم الجمعة، ولكن يوم الجمعة في رمضان أيضاً لا يطول بهم الانشغال ببعضهم البعض، فهم حاضرون مبكرون إلى الجامع، وهذا في ركوعه وهذا في سجوده، وهذا في تلاوته، وهذا في صلاته على النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، وهذا في حضوره مع الله، قد يأتي عن يمينه أو عن شماله شخص فيصلي ويقوم ولا يدري من دخل ولا من خرج، ولذا تجد عليهم الفرح يوم العيد والبهجة بالمقابلة وكأنهم جاؤوا من عالم جديد إلى لقاء جديد، تجد كل واحد معتكفاً بالمسجد القريب من بيته، لا يرى أصدقاءه ولا أصحابه الذين كان يجالسهم، وعلى أي شيء كان يجالسهم في أيام الفطر قبل رمضان؟ ما كان يجالسهم إلا على مجالس علمية، على الفقه والدروس وأنواع الخيرات، ولكن في رمضان نوع آخر من الانشغال بالله، يأخذ كل واحد بمجامع قلبه وكُلِّيته إلى الله، فتجدهم مشغولين بمعنى الصوم والقيام، فإذا تلاقوا في يوم العيد، فكأنهم جاؤوا من جديد، من بلد جديد، كل واحد كان لا يرى الآخر فيه، لا لقاء بينهم إلا يوم الجمعة، ويوم الجمعة على مثل الحال الذي ذكرت ووصفت لك، كان الكثير منهم على هذا الحال، فأين ذهبوا؟ وأين ذهبت أوصافهم؟ يا محوِّل الأحوال حوِّل حالنا إلى أحسن حال.
ويروي لنا أبو هريرة عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم، أنه قال: "أتاكم شهر رمضان، شهر مبارك، فرض الله عليكم صيامه، تفتح فيه أبواب السماء" كيف تفتح أبواب السماء؟ يكون شأن القبول قريباً لمن توجه إلى الله، تُقبل التوبة، تُقبل الدعوات بشكل لم يكن يُعهَد قبل رمضان، ولا فيما بعده، فعبَّر عن ذلك بفتح أبواب السماء، "تفتح فيه أبواب السماء وتغلَّق فيه أبواب الجحيم، وتغلُّ فيه مردة الشياطين، وفيه ليلة خير من ألف شهر، مَن حُرم خيرها فقد حُرِم" صار الكثير من المسلمين إذا جاءت ليلة القدر قادته نفسه وهواه وقضَّى تلك الليلة إما في سوق واختلاط، أو في مناظر قبيحة وهو في البيت، أو مع أصدقاء لا خير فيهم لا يخافون الله تبارك وتعالى، أو أغضبه فقام تلك الليلة يطلق زوجته، أو يقاطع رحمه، أو يغضب على أولاده في البيت فيزعجهم ويقلقهم ليلة القدر من أجل أن يُحرم تلك الليلة، أما رأيت أن بعض أسواق المسلمين صارت في العشر الأواخر أكثر حركة، ربما قل الحضور في المسجد وكثر الحضور في الأسواق في العشر الأواخر، عكس سنة المصطفى ونقيض هديه الكريم صلى الله وسلم عليه وعلى آله. فينبغي أن ندرك معنى ما ورد في الصحيحين وغيرهما: إذا جاء رمضان فتحت أبواب الجنة وغلقت أبواب النار وصفدت الشياطين.
يروي لنا أبو سعيد الخدري رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم يقول: "وليس من عبد مؤمن يصلي في ليلة من ليالي شهر رمضان إلا كتب الله له بكل سجدة يسجدها ألفاً وخمسمائة حسنة، وبنى له بكل سجدة بيتاً في الجنة من ياقوتة حمراء، فيها ستون ألف باب، لكل باب قصر من ذهب" ترى كيف الربح لأرباب السجدات، الله يقبل سجودنا، قل للذي يخفف على نفسه السجدات لو طوَّلت أحسن لك، تنزِّل التراويح من عشرين ركعة إلى ثمان، والثمان تريدها بسرعة، طوِّل سجودك وأكثر منه، كل سجدة كم تحصل بها؟ لو قالوا لك ألف وخمسمائة ريال لعلك ستكثر وتقول أحسن عشرين ويمكن أربعين، لأن بكل سجدة ألف وخمسمائة ريال، قال لك رسول الله: لك بكل سجدة ألف وخمسمائة حسنة، تبقى كل حسنة أبد الآبدين، يقول لنا نبينا صلى الله وسلم عليه وعلى آله: فإذا صام أول يوم من رمضان غفر له ما تقدم إلى مثل ذلك اليوم من رمضان الذي مضى، أي من أول يوم من رمضان الماضي، ما تقدم في العام الذي مضى، قال: واستغفر له سبعون ألف ملك من صلاة الغداة إلى أن توارى بالحجاب، أي تسقط الشمس للغروب، وكان له بكل سجدة بليل أو نهار يسجدها في رمضان شجرة في الجنة يسير الراكب في ظلها خمسمائة عام. رواه الإمام البيهقي.
وفي الحديث عن سيدنا أبي هريرة: يقول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم: ولله في كل يوم من رمضان ألف ألف عتيق من النار، فإذا كان آخر ليلة أعتق مثل ما أعتق من أول الشهر إلى آخره، وفي لفظ فإذا كان ليلة تسع وعشرين أعتق مثل ما أعتق من أول الشهر إلى آخره، دفعة واحدة في ليلة واحدة، يخرج تسعاً وعشرين مليون أو ثلاثين مليون في ليلة واحدة عتق من النار، اللهم لك الحمد شكراً، ولك المن فضلاً.
وعن سيدنا الحسين عن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: اعتكاف عشر رمضان كحجتين وعمرتين، رواه الإمام الطبراني.
الخصال الممنوحة للأمة في رمضان:
كل الأمم يمر عليها رمضان، ولكن نحن أعطينا في رمضان ما لم تعطه الأمم قبلنا، قال صلى الله عليه وآله وسلم:( أعطيت أمتي في رمضان خمس خصال: خُلُوف فم الصائم أطيب عند الله من ريح المسك،- أي أنه بمنزلة ومكانة عند الله سبحانه وتعالى -، تُزَيَّن الجنة، ويُنادى أوشك أن يستريح عبادي من عناء الدنيا ويصلوا إليك، تستغفر لهم الملائكة طوال الليالي والأيام في رمضان المبارك، وتُصفَّد الشياطين، ويُغفَر لهم في آخر ليلة، فقال صحابي: أهي ليلة القدر؟ قال لا، لكن الأجير إنما يُوفّى أجره إذا قضى عمله) إذا أكمل العمل، فيُغفَر في آخر ليلة من رمضان لجميع المؤمنين ولا يبقى إلا المُشاحن وقاطع الرحم وعاق الوالدين وصاحب المُسكِرات والمخدرات، هؤلاء لا مغفرة لهم في رمضان، وويـلٌ لمن أدرك رمضان فلم يُغفر له، فعلينا أن ننتهز فرصة هذا الشهر الكريم المبارك، ونقيم مداخل للخير والنور في الديار والقلوب والأُسر بتذكيرهم بهذا الشهر وما يكون فيه، وتنبيههم وإثارة مشاعرهم وأحساسيهم عن مقابلة هذا الشهر كيف تكون، فرحاً وتعظيماً ومحبةً وإقبالاً ووجهةً صادقةً إلى الله تبارك وتعالى، وترتيب الأوقات وتوزيعها، والمحافظة على قيام رمضان، من أول ليلة إلى آخر ليلة، فتدخُل فيمن قام رمضان إيماناً واحتسابا غُفِر له ما تقدم من ذنبه، ومن صام رمضان إيمانا واحتسابا غفر له ما تقدم من ذنبه، وتصدق بما يتيسر لك، وأحسِن مواصلة الأرحام في هذا الشهر الكريم، خذ نصيبك من تلاوة القرآن، والأربع الخصال التي وصاك بها نبيك محمد، تشهد أن لا إله إلا الله وتستغفر وتسأله الجنة وتعوذ به من النار، أمرنا بالاستكثار منها صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، احرص على الوتر، وإذا صليت الثلاث فاحرص أن تكون لك زيادة على الثلاث، خمسٌ سبعٌ تسعٌ إلى الإحدى عشر، وإذا صليت الثلاث بقي لك ثمان صلِّها فيما يتيسر لك من ليالي الشهر، وكم تدرك بكل سجدة من السجدات في رمضان! وهكذا تغتنم الليالي، وتنتبه لأن تكون متذوقاً لا آخذاً للصورة، فإن الآخذين للصورة ربما أقبلوا بهمة أول الشهر، وضَعُفت الهمة وسط الشهر، وانتهت آخر الشهر، لكن أقبِل على الحقيقة، تذوق، فتكون أرغب وأطيب، فتكون في وسط الشهر أقوى همة وفي آخره أكثر، مقتدياً بمن كان يجتهد في رمضان ما لا يجتهد في غيره، ويجتهد في العشر الأواخر منه ما لا يجتهد في غيرها من رمضان، فإذا دخلت العشر الأواخر شدّ مئزره وأيقظ أهله وأحيى ليله، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله.
فهكذا ينبغي أن نغتنم هذا الشهر، وننظر أن لنا فيه استجابةٌ للدعوات فألحَّ على الله تعالى، أهمَّك أمرُ أمةِ محمد؟ فهذا ربُّ أمة محمد، يَعِدُك باستجابة الدعاء، فألحَّ عليه في رمضان وأيامه بالفرج عن أمة محمد، بكشف الشدائد عن أمة محمد، بجمع شمل أمة محمد المُفرَّق، بلمِّ شعثها المتفرق، بإنقاذها من غيّها وضلالها وأنواع الفتن التي أصابتها، بشفاء مرضاهم وعافية مبتلاهم، بالتوبة على عاصيهم وقبول التوبة من تائبهم، بتعليهم جاهلهم، بدفعِ البلايا والنوازل عنهم، توجَّه إلى الله، ألحَّ على الله، فلو وجد الله قلوباً تتوجه إليه في هذا الشهر مبتثّةً، في الحرمين الشريفين وفي بيت المقدس وفي اليمن وفي الشام وفي المغرب وفي الشرق وفي الغرب، وفي بلاد العرب وفي بلاد العجم، لرَحِم العباد وأفاض الجود الواسع على العباد "إذا تستغيثون ربكم فاستجاب لكم"، وماذا يهمُّك وماذا يهولك من أمر؟ الأقوى أمامك والأقدر أمامك، تعرَّف إلى الله في الرخاء يعرفك في الشدة، أنزِل حاجتَك به، ( واعلم أن الأمة لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، واعلم أن ما أخطأك لم يكن ليصيبك وما أصابك لم يكن ليخطئك، واعلم أن النصر مع الصبر وأن الفرج مع الكرب وأن مع العسر يسرا ) اغنم وقتك، اغنم جود الله عليك، اغنم بُسُط يمدها لك الرحمن في شهر رمضان، لا تُقصّر على نفسك ولا تُفوِّت على نفسك الخيرَ الكثير الكبير إما بنظرة، وإما بكلمة تخرج من لسانك تُحرَم بِها خير الشهر كله والعياذ بالله تبارك وتعالى، احذر من الاستهزاء بالمسلمين والاستخفاف، عظِّم شأن هذه الأمّة وتوجَّه إلى الله في أمرها ليُصلح أحوالها فيرحمك أنت بذلك، إنما نُظهِر الفاقة والفقر إليه ليرحمنا ويرحم البلاد والعباد وهو الرحمن الرحيم جل جلاله وتعالى في علاه.
( وقال ربكم ادعوني أستجب لكم ) (إن الذين يستكبرون عن عبادتي سيدخلون جهنم داخرين )، نعوذ بالله من غضب الله، يا رب اجعله شهر فرج للمسلمين، وصلاحٍ للمسلمين، وجمعٍ لشمل المسلمين، ودفع للبلاء عن المؤمنين والمؤمنات والمسلمين والمسلمات، يامحوّل الأحوال حوّل حالنا والمسلمين إلى أحسن حال، بارك لنا في إقبال هذا الشهر، واجعلنا من أسعد الناس بنظرك في أول ليلة في هذا الشهر، فلا تُبقي فرداً من أُسرِنا وأهالينا وأصحابنا وجيراننا إلا وجعلته مظوراً إليه، داخلاً في نظرتك في أول ليلة من هذا الشهر، حتى تكتب له أن لا تُعذّبه أبـدا يا برُّ يا صمد، يا أكرم مقصود، يا خير معبود، يا من عُهِد منه الكرم والجود، يا برّ يا ودود يا أرحم الراحمين، أمّلناك ورجوناك فلا تخيّب رجاءنا فيك، أنظِمنا في سلك من تُحبهم ويجبونك، وتولّنا بما توليت به أهل الصدق معك في جميع الشؤون، يا من يقول للشيء كن فيكون، أعِنَّا على حسن الصيام واجعله مقبولا لديك، وعلى حسن القيام واجعله مقبولاً عندك، يا أرحم الراحمين اكتب لنا الفوز في هذا الشهر، واجعلنا من خواص أهله، أثْبِتنا في ديوان من قبِلت وارتضيت، واجتبيْتَ واصطَفيْت، ورفعتَ وأعليْتَ، وغفرت لهم وسامحتَ، وعفوتَ عنهم وتجاوزتَ، وحططتَ عنهم الخطايا وصفّيْتَ لهم المرايا، وأصلحتَ لهُمُ الظواهِرَ والخفايا، ونقّيْتَ لهم البواطن والطوايا، ياأكرم الأكرمين وياأرحم الراحمين، وأصلح شؤون الأمة أجمعين، واجعلنا في أنفعهم لهم، وأبركهم عليهم وأنت راضٍ عنا برحمتك ياأرحم الراحمين، وصلى الله على المصطفى محمد وآله وصحبه ومن سار في دربه، وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.