الكون بما فيه يُذَكِّر بالمكوِّن جل جلاله، ولمَّا يألف الإنسان دورة الكرة الأرضية والكواكب من حواليه، والليل والنهار، والشمس والقمر؛ بسيرِها المعتاد يغفل ويذهل أنه جالس على أي مكان، والكوكب الذي يعيش فيه مَن يمسكه؟ ومن يتحكم فيه؟ وكيف تتم دورته بهذه الصورة ؟
فيُحدِث الله أمراً غير مألوف، ومنه الخسوف والكسوف ليتذكر الناس أنهم ليسوا في مسار مجرد أسباب ولا طبيعة، بل يوجد مُكوِّن وراء الكون يسيِّرُه ويدبِّرُه، فهو يذكِّرهم بحدوث هذه الهيئة في الشمس أو في القمر، وحكمته في كيفية الدوران، وكيف أحياناً يتخلل ما بين الأرض وما بين القمر، وأحياناً أطراف الأرض تحول دون وصول أشعة الشمس وإضاءتها في القمر؛ فيحصل الكسوف والخسوف.
فمقتضى الإيمان بهذا أنهما كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم ( آيتان من آيات الله )، لما تحدث الناس يوم وفاة ابنه إبراهيم أن الشمس كُسِفَت لوفاة ابراهيم فقال ( إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله لا ينخسفان لموت أحد ولا لحياته، فاذا رأيتم ذلك فافزعوا الى الصلاة ) .
من صحة الإيمان ما كان عليه المؤمنون عند حدوث هذه الآيات: أن يجددوا التذكَّر والتبصُّر والتطهُّر، فَسُنّ لهم الاغتسال وسُنَّ لهم الصدقة وسُنَّ لهم الصلاة -صلاة ركعتين- والعجيب أن صلاة الخسوف والكسوف تختلف في الشريعة في سنية لها عن جميع الصلوات؛ لم يفعلها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم في أي صلاة لا في صلاة العيد ولا في صلاة الاستسقاء ولا في صلاة التراويح ولا في صلاة الوتر، لكن في صلاة الخسوف والكسوف؛ أنه ركع في الركعة الواحدة ركوعين وقام قيامين، هذا مخصوص في صلاة الكسوف والخسوف، مع أنه يجوز أن تصليها بقيام واحد وركوع واحد كما باقي الصلوات. ولكن السنة بعد قراءة الفاتحة وسورة أن تركع وترفع للقيام، فإذا قمت تقرأ مرة ثانية الفاتحة وسورة وتركع ثاني مرة، فيكون في الركعة الواحدة قيامان وركوعان، وقد طوّلها صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم. وصلى يوماً بالناس صلاة الكسوف وخطب بالناس خطبة طويلة وجاءت السيدة أسماء عند السيدة عائشة وهي قائمة تسمع خطبة النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم فأشارت لها ماذا حدث ؟ فأشارت نحو السماء، فقالت آية، قالت أجل. وسمعت النبي صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم على المنبر يقول ما من شيء لم أكن أُريتُه إلا أُريتُه في مقامي هذا حتى الجنة والنار. فكان يبعث التذكر عند الناس بحقيقة العواقب والمصير، ويدلهم على هذه السنة التي ذكرنا.
فينبغي أن نستحدث معنى هذا التذكر والتجديد والتطهر وأن لا تمر بنا هكذا؛ فهي كما تمر على المؤمن كذلك تمر على الفاجر، وإنها آية عظيمة بين الكواكب.. أمامنا اليوم جماعة ناسا يتباهون أنهم صوروا الكوكب الفلاني من مسافة كذا وكذا، وملايين الكواكب، وكواكب ما وصلوا إليها؛ وكلها مذَكِّرات بالله. وهم يعتبرون في عملهم هذا إذا لم يستدلوا بها على مكونها عابثين لاعبين، ولن ينفعهم كل هذا العمل وسيصير مصيرهم النار إلا إن عرفوا عظمة هذا المكوِّن وآمنوا به. وهذه العظمة عندنا والحمد لله بواسطة الإيمان. فالحمد لله على نعمة الإيمان، ولهذا يقول تعالى ( وَالَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْهَا ) الذين آمنوا مشفقون من الساعة والثاني لا يبالي.. يحدث خسوف، كسوف، موت حياة، فلا يهتز ضميره ولا شعوره، لكن المؤمن الذي عنده خِيفة الرجعة إلى الرب يرى في هذه الآيات ما يدله على حرمة الإله وأنه محتاج إلى عطف الله ورحمته وأن مرجعه إليه.
نسأل الله أن يرزقنا التذكُّر والتبصر وكمال الإيمان واليقين.. والحمد لله رب العالمين.