التخصيص إن جاء على وجه إنكار أن تُقام هذه العبادة في وقت آخر فهو الممنوع. وأما أن يرتب الإنسان لنفسه ترتيباً؛ فيرتب للعبادات المطلقة أوقاتاً معينة، فيجعل له ساعةً من الليل يسبح فيها، وساعةً من الليل يقرأ القرآن فيها - مثلاً من الساعة كذا إلى الساعة كذا - ، أو يقيم درسًا للعلم من الساعة كذا إلى الساعة كذا؛ فلا إشكال في كل ذلك كما هو معلوم من قواعد الشريعة، وسِيَر الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان. إنما ادعاء أن العبادة الفلانية لا تصح إلا في الوقت الفلاني، أو لا تجوز إلا في الوقت الفلاني، ويُنكَر أداؤها في غيرها من الأوقات؛ فهذا ابتداع في الدين ليس له دليل، وليس ذلك بواقعٍ في أحوال عامة المسلمين؛ فلا يدَّعي أحد أن الذكر الفلاني لا يجوز إلا في الوقت الفلاني، ولا أن الطاعة الفلانية لا تجوز إلا في الوقت الفلاني، وأن من يفعلها في غير هذا الوقت يأثم أو لا تصح أو لا تُقبل منه، فهذه الدعاوى غير موجودة فيما نعلم بين أوساط أهل هذه الملة.
ومسألة التوقيف في العبادة أننا ننظر إلى ما دُعينا إليه على لسان الله ورسوله من الأعمال فنعبد الله بها، ولا نخترع من أنفسنا اختراعاً لأعمال لا تدخل تحت القواعد والنصوص التي جاءت عن الله ورسوله، فإذا أُمرنا بالذكر؛ فكل ذكرٍ لله تعالى بأي صيغة وبأي كيفية داخلةٍ في هذا الأمر، فهي داخلة تحت دائرة التوقيف، فإنه قد وقِّفنا على أن نذكر الله تعالى ذكراً كثيرا من غير تقييدٍ بصيغة، ومن غير تحديدٍ لألفاظ، فكل لفظ لا يخرج عن قاعدة الشريعة يُذكر به الرحمن تبارك وتعالى، وكل دعاء يُدعا به - كما كان الحال في حياة الصحابة مع النبي صلى الله عليه وآله وسلم في دعواتهم وفي أذكارهم وتسبيحاتهم - ، ويتلقى من يتلقى منهم عنه صلى الله عليه وآله وسلم ما يتلقى ويعمل به فيكون من الفضل بمكان، والباب مفتوح للكل ليدعو بما شاء، ويذكر كيف شاء، واستمر الحال إلى آخر أيامه صلى الله عليه وآله وسلم، حتى في حجة الوداع؛ لازم رسول الله صلى الله عليه وسلم تلبيته، وكانت هناك تلبيات بألفاظ أخر ليس فيها ما يتخالف مع الشريعة، ومنهم الملبي، ومنهم المكبر، فلا ينكر بعضهم على بعض، ورسول الله بينهم.
فالقول بأنه لا يجوز الذكر إلا باللفظ الفلاني أيضاً في المقابل بدعة أخرى في الدين؛ تخالف الشريعة المطهرة، وتخالف السنة النبوية، والهدي الذي كان عليه صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله. فكما أننا لا نجيز لأحد أن يقول هذا الذكر أخصصه في الوقت الفلاني، أو أن يحدث من الذكر ما يخالف صفات الحق أو أسماء الحق أو يخالف شيئاً من أمور الشريعة، مثل الذي يدعو بالعدوان أو بالإثم أو بقطيعة الرحم أو ينسب إلى الحق تبارك وتعالى ما لا يليق بجلاله وكماله؛ فنمنعه من ذلك، ونمنعه من أن يخصص الذكر في وقت مخصوص ويمنعه في وقت آخر، ونقول له رتب لنفسك ما شئت من الأوقات لتذكر فيها ما شئت من الأذكار، كذلك نقول لا يجوز لأحد أن يمنع ذكراً صحيحاً متناسباً مع قواعد الشرع في أي وقت كان وفي أي ساعة كان من ليل أو نهار ( الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم ).