بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، الذي أكرمَنا بنور الوحي المنزَّل على عبدِه المصطفى سيدنا محمدٍ، صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه.
أما بعد: فإلى إخواننا من أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم. نوجه كلمةَ هذا الشهر، شهر محرم الحرام في افتتاح هذا العام الهجري الجديد، بتذكيرِنا وإياهم بإقامةِ حقيقةٍ للإنفاق لوجه الله، والتباذل في سبيل الله تبارك وتعالى، واختيار أهمِّ وأولى المواطن والحيثيات؛ وذلك أن الله في شريعته الغراء جعل من أركان الإسلام إيتاءَ الزكاة، وجعلها زكاةَ مال وزكاة فطرة في شهر رمضان، تُطهَّر بها النفوسُ من الشحِّ والبخل، ثم ندبَنا بعد ذلك إلى الصدقات، وإلى قِرى الضيف، وإلى أوجهِ الإنفاق في سبيل الله تبارك وتعالى. وجاءتنا السُّنة الغراء بأن ( من جهز لله غازياً فقد غزا ) وتبين بذلك أنه لا بد للمؤمن أن يقيم صفةَ البذل لله تبارك وتعالى، والإنفاق لوجه الله سبحانه وتعالى، ما بين فرضٍ كالزكاة والنفقة على الوالدَين المحتاجَين وعلى الأطفال من الأبناء والبنات، وعلى العاجزين منهم عن الكسب مهما كبروا، أو كان سنة ونفلاً من مواصلةٍ لأرحام وإحسانٍ لجيران وصدقةٍ على المحتاجين وإعطاءٍ في النوائب إلى غير ذلك.
وإن من المعلوم أن أهل الملة في توالِي الأزمنة لهم أنواعٌ من الإنفاقات في سبيل الله، وقد حفَل تاريخُ هذه الأمة في كثيرٍ من بلاد العالم الإسلامي أن أعزَّ ما كان يملك الناس من أموال، خصوصاً فيما يتعلق بالعقارات كانوا يوقفونها لوجه الله تبارك وتعالى، منها ما يكون على مساجد، ومنها ما يكون على مدارس، ومنها ما يكون للمعلمين أو للمتعلمين، أو لعقدِ حلقِ الذكر.. إلى غير ذلك من أوجه البر والخير، حتى لم يتغيَّب عن هذا العطاء وأوجُهِهِ الحيوانات، فكم وُقِف من أوقافٍ على حمام الحرم مثلاً، وعلى الضائع من البهائم في بعض البلاد.. إلى غير ذلك من الأوجه العجيبة؛ فقد كان لوجود هذه الأوقاف أثرٌ كبيرٌ في استدامةِ كثيرٍ من الخيور للأمة، ومعاونةِ الراغبين على كثيرٍ من الخير.
والذي نحب أن نلفتَ النظرَ إليه أن مِن أهمِّ وأولى وأوجبِ وأصلحِ وأنفعِ ما يُبذل فيه، تفريغُ أولي النجابةِ والفهم والذكاء لأخذِ العلوم النافعات والنصيب الوافر من الوعي عن الله لخطابه وخطاب رسوله المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، للعمل بذلك ولنشره ولتبليغه، متواصلةٌ ومرتبطةٌ هذه الأمور ببعضها، مرحلة التلقي والأخذ والتعلم، ويصاحبها ويستمر بعدها مرحلة العمل والتطبيق والتنفيذ بتقويم السلوك وتثبيت الصفات الصالحات وتنقية القلب والضمير وتزكية النفس، والمرحلة الثالثة المهمة هي مرحلة العطاء واستعمال النجابة والتفوق والإبداع والقدرات الموهوبة لمعاني النفع الواسع لهذه الأمة.
وتخصيص الإنفاق على مرحلة واحدة من هذه المراحل دون الأخرى يعيق كثيراً من تحصيل المقصود ومن ظهور الأثر في هذه الأمة، فنلفت النظرَ إلى أن هناك كثيراً مما يقوم به المؤمنون في عصرنا من البذل في الله تبارك وتعالى في أوجه الخير، ولكن بعضاً من ذلك لو جُعل في استكمال هذه المراحل كلِّها وروعي به ذووا النجابة والفطانة لأخذِ العلوم النافعات والعمل بها ثم لنشرِها، ورُتِّب ما يكفلهم في المراحل كلها لظهر بذلك النفع والأثر والتغيير إلى الأفضل في واقع الأمة في وقتٍ قريبٍ ويسير، ولكن قد يُنفَق على مرحلةٍ دون أخرى فيذهب كثير من مواهب وقدرات ونتائج المرحلة الأولى ولا يتحقق منه الشيء المراد أو المُبتغى، وقد يوزَّع فيُنفَق في كل مرحلة ما لا يستقل بالكفاية، فيجعل صاحبَ تلك المرحلة مفرَّقَ الهَم مُشتَّت البال والذهن، لا يأتي منه ما يأتي من المتفرغ المكفيِّ الذي صَرف كلَّ جهدِه واهتمامِه في تحصيل المقصود في كل مرحلة.
فيا ما أحسن أن تتوجه الهممُ للعمل في مثل هذا، وتتضافر الجهود والمساعي سواء من الأفراد أو الجمعيات الخيرية بين المؤمنين لخدمة هذا الشأن، ولا يُكفى فيه الكفالةُ والمِنحُ لأيام الدراسة وحدَها، فإن نتيجة كل هذه الدراسة وفائدتها الكبرى إنما تكون في المرحلة الثانية التي يجب أن يُكفل شأنُها ثم تُتَخيَّر المواطنُ التي يؤدي فيها ذلك المتعلم دورَه مكاناً ومجالاً ومساراً وذواتٍ ومستويات.
نسأل الحقَّ تعالى أن يمدَّ بالتوفيق عامةَ المؤمنين، وخصوصاً أربابَ نيةِ البذل منهم في سبيل الله تبارك وتعالى، وأن يجعلوا لهذا الأمر اهتماماً خاصاً لا يَطغى على حقِّ المحرومين من ذوي الحاجات والنوائب، ولا يتفرق تفرُّقاً يفقده حصولَ الثمرة الأكمل والأهم، ولا يقدَّم ما هو دون ذلك على هذا الأهم والأنفع.. وبالله التوفيق.