بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، مطوِّر الأطوار، ومقدِّر الأقدار، الجاري خفيُّ لطفِه في جميع الأحوال في السر والإجهار، بما لا يدرك طرفاً منه إلا أولوا القلوب المنوَّرة والعقول الزكية والاستبصار؛ وصلى الله وسلم وبارك وكرَّم في كل لحظة وآن، على سيد الأكوان، مَن أنزل عليه القرآن، وأتمَّ به النعمةَ وأصلح به الشان، وشيَّد به البنيان، عبده المصطفى ونبيه المجتبى محمد بن عبد الله وعلى آله المطهرين عن الأدران، وأصحابه الغُرِّ الأعيان، ومَن تبعَهم بإحسان إلى يوم وضعِ الميزان.
أما بعد: فإلى إخواننا وأحبابنا في الله، ومَن جمعَتنا بهم ملَّةُ لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، نقدِّم إليهم كلمةَ شهر ربيع الأول من عام أربعٍ وثلاثين وأربعمائةٍ بعد الألف من هجرة نبينا المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
ونبدأها بالتحية فنقول:
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته، في كل لمحة ونفس عدد خلقه ورضا نفسه وزنة عرشه ومداد كلماته.
وبعد: فمِن الواجب المُتحتِّم علينا شهودُ النِّعمِ الظاهرة والباطنة مِن مُسبِغِها المُنعِم الكريم جل جلاله وتعالى في علاه، في مختلف أحوالنا على مستوى أفرادنا وجماعاتنا مِن أهل هذه الملة، وأن نفتح أعينَ قلوبنا وبصائرِنا على سوابغِ تلك النَّعماء؛ وإن بدا في أولِ الوهَلات كثيرٌ من الشجون ومظاهر الفتن وبعض المصاعب والمتاعب الواقعة في الأمة، فيجب أن لا يحجبَنا ذلك عن شهودِ المِنن والمِنح والنِّعم السَّوابغ مِن الرحمن علينا، وعلى الخلق عامة، وأهل هذه الملة خاصة، بأنواعِ ما آتانا ومكَّننا من عبادته وإقامة أمرِه في أنفسنا وفي أهالينا وأُسرِنا وفي مجالات حياتنا؛ وعلينا أن نستشعرَ وجوب القيام بالشكر لهذا المُنعم المتفضِّل جل جلاله، ونعلم اتصال النِّعم بذكرى بروزِ نبيِّنا الأكرم، الذي نحن في شهرِ ذكرى ميلاده، وظهوره في عالم الحس والأجساد على ظهرِ هذه الأرض في عمرٍ أقسم الله به، مُيِّزَ عن كل زمنٍ قبله وبعده، وجاء فيه قوله صلى الله عليه وسلم ( خيرُ القرون قرني ).
إن هذه النعمةَ امتدَّت واتَّسعت وتفرَّعت عنها أنواعٌ من النِّعم التي تحيط بنا، نصبح ونمسي فيها؛ وإن مِن مظاهر الشكر حسنُ التواصل فيما بيننا، واستعمال وسائل التواصل في إقامةِ ما بُعث به خاتمُ الرسائل مِن تواصٍ بالحق والصبر، وتذكيرٍ بنِعمِ الله في السرِّ والجهر، وتزاوُرٍ في الله سبحانه وتعالى، ومُسارعةٍ ومسابقةٍ إلى مجامع الخير ومجالس الذكر، وما يعود بالنفع على المجتمعات وعلى الخلق، طلباً لرِضاء الخالق سبحانه وتعالى. وأمامَنا في كل ما ذكرنا مجالٌ فسيح، وميدانٌ يمكننا فيه أن نسيحَ بما تعودُ عوائدُه على زيادة الإيمان واليقين، وعلى إبراز المنافع للعالمين، فينبثق منها أنها فروعُ نعمةِ الإرسال للمصطفى رحمةً للعالمين صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
نذكِّر إخوانَنا مع كل ما نعيشُه من شدائدَ وأحزانٍ ورزايا بنِعَمِ تمكينِ الله أفرادَنا وجماعاتنا من عبادته لا نشرك به شيئاً، ومن إمكانيات تزكيةِ أنفسِنا وتربيةِ أبنائنا وأسرنا وأهلينا، ونشرِ العلم بالوسائل المختلفة، والدعوة إليه سبحانه وتعالى، والتواصل فيما بيننا، وما مكَّنَنا في كل ذلك مصحوباً بألطافٍ وعوافي وأمنٍ في جوانبَ متعددةٍ من شئون الحياة؛ ونرتقي بذلك ونسموا عن أن تأتيَنا الاستكانةُ أو الضعفُ بشئونِ حوادث الحياة، ومظاهر ما يكون فيها من أتعاب.
ولأجل هذه الحكمة سردَ الرحمن لنا أخبارَ مَن مضوا من الأمم قبلنا، أي فكيف يجب أن يكون حالُ الأمة وخيارُها في مختلف أزمانها، سرد لنا من أخبار أممٍ قبلَنا أنه قابلَتهم ظروفٌ قاسية فكانوا مع أنبيائهم على قدمِ الصدق والعطاء والبذل والتضحية، أخبرنا الحق عن حقيقة حالِهم وما اكتنف ذلك من شهودِهم منَّة المنان، فما نال منهم ذلك إضعافاً في اليقين ولا استكانةً لغير رب العالمين، يقول جل جلاله { وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ } آل عمران146-148.
يقول الله { وَكَأَيِّن} مشيراً إلى كثرة ما وقع من ذلك، ومبيِّناً أنها سنَّتُه، فإذا كانت هذه السنةُ مع الأمم عامة أتراها تتخلَّف وتقصُر عن خيرِ الأمم، عن هذه الأمة الخيرية!؟ فسلبَ عنهم سبحانه وتعالى ونفى وجودَ الوهن والضعف والاستكانة {فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ وَمَا اسْتَكَانُواْ}.
مننٌ ومنح يتولى الجزاءَ عليها بأحسن الجزاء، والإثابة بأكرم المثوبة { فَمَا وَهَنُواْ لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللهِ وَمَا ضَعُفُواْ} أمام مظاهر القوى المادية والعسكرية فيمن يصدُّهم ويناوِئهم ويخذلُهم ويقاتلُهم في سبيل الله، وهم في سبيل الله، ما وهنوا لما أصابهم في سبيل الله وما ضعفوا {وَمَا اسْتَكَانُواْ} ما كان منهم الاستكانة والخضوع لأنفس ولا لأهواء ولا لِقوى الكفر وقوى الشر المحيطة بهم، يقول {وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ} مشيراً إلى أنه من باب الصبر يُدخَل إلى مراتب الشكر هذه والتحقق بهذه الحقائق العلية.
ثم ينبئ عن جملةِ وخلاصةِ ما حملوا من أوصاف وركائز قام عليها هذا العطاء الواف فقال: { وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَن قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا } وهم مع كل هذه المراتب وهذا العطاء والتضحية وهذا السمو والرُّقي يستشعرون أنهم أذنبوا ويسألون مِن إلههم الغفران، بل يستشعرون أنهم أسرفوا في تقصيرهم وهم بالوصف الذي وصفهم به من تلك الكرامة والرِّفعة { قَالُواْ ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا} ثم استمدوا بقاءهم على حسن مقابلةِ هذه الأشياء بما هو أولى أنهم يستمدون ذلك منه ومِن تأييده تعالى، فقالوا {وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا}.
ثم ذكروا وجهَ التقابل بينهم وبين من ينتصب لِحربِهم وعِدائهم أن الأمر قائمٌ على كُفرٍ بالله من أولئك وتكذيبٍ برسوله، وأنهم إنما يتصرفون معهم بتلك المُقابلة بحسب ما جاء في الرسالة، وما اقتضاه الإيمان بالله تبارك وتعالى، ولذا طلبوا النصرَ على القوم من حيثيَّة أنهم الكافرون بما بعث اللهُ به رسلَه صلوات الله وسلامه عليهم { وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }.
وكانت النتيجة والعاقبة والغاية التي حصلت وتكررت، ولا تزال سنةً لله جل جلاله هي في هذه الأمة أوضح وأفصح وأفسح وأرجح لكل صادق مخلص { فَآتَاهُمُ اللهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } انظر إلى ما تكرَّم به عليهم في الحياة القصيرة مِن توفيقٍ وتأييدٍ ونُصرةٍ ورَفع مكانة وتكفيرٍ للسيئات وعُلوٍّ في الدرجات، وظهورٍ على رغم العُداة إلى غير ذلك، فلما أراد ذكر الآخرة لم يقل: وثواب الآخرة، ولكن اختار لهم غايتَه وأكبرَه وعمقَ جماله فقال { وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ } ..
ثم ذكر أن هذه المعاملة معاملةُ أهل الإحسان، وهم محبوبون لديه جلَّ مِن رحمن فقال { وَاللهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ}.
هذه كلمتُنا لهذا الشهر أيها الأحباب؛ اجمعوا همتَكم على شهود المِنة، وارفعوا نظرَكم إلى الاجتماع في الجنة، واجعلوا لكم مِن الثقةِ بالله تعالى والصدقِ معه والطمأنينةِ إلى وعدِه وقايةً وجُنَّة، وأقيموا بينكم القرآن والسنة، وأشهِدوا أهاليكم وأولادَكم ومَن يواليكم المعاني الواسعة في النِّعمة والمِنة، ولنكُن ذوي وعيٍ وفِطنة، لا تضرُّنا فيها ما يحدث في العالم مِن سوءٍ وطغيان وفِتنة.
جعلنا اللهُ وإياكم ممَّن يُؤويهم في حصونِ مِنَّته الكبيرة، فيجعلهم عابدين له وداعين إليه على بصيرة.
والحمد لله رب العالمين.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.