04-2013
21

شهر جمادى الآخرة 1434هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

 الحمد لله خالقِ الإنسان ومُخصَّصِهِ بكريمِ الخصائص، وصلى الله وسلم على عبدهِ المُجتبى المصطفى محمد المبعوث بالرحمةِ والإنقاذِ للبشريّةِ من الفساد والسوءِ والنقائص، وعلى آلِهِ وأصحابهِ ومن سارَ على دربِهِ بالصدقِ في القيام لله بالدين الخالص.

أما بعدُ، فإلى إخواننا وأحبابنا في الله ..

 في كلمة هذا الشهر، شهر جمادى الآخرة من العام الرابع بعد الثلاثين والأربعمائة والألف من هجرة النبي محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم

نقول: السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

وكلمة هذا الشهر حول كيفيَّة استعمالِ العقل ليُنتَفع بتلك الموهبة العظيمة من الرحمن جل جلاله لهذا الإنسان، وإن للعقل في الحواس الظاهرة مثلاً، ذاكم هو البصر والعين الناظرة، وكما أنه لا يُنتفَع بالبصر والأعيُن الناظرة إلا بنورٍ يضيء فتظهر فيه خصائصُ الأبصار وتتحصَّل فوائدها، ويحسُن استعمالُها والعثور على منفعتِها؛ فكذلك العقل موهبةٌ وحاسةٌ عظيمةٌ آتاها اللهُ هذا الإنسان، لا يمكن تحقُّق الانتفاعِ بها والإجادة في استعمالها، بل وصحة استعمالها إلا بنور الوحي المُنزل وبلاغ النبي المرسَل صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.

وكل من لم يستنر عقلُه وفهمُه ووعيُه وعلمُه ومداركُه لهذا النور فهو المُعرَّض أن يقول يوم البعث والنشور: {لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ}الملك10. وإذا علِمنا هذه الحقيقةَ فتحنا باباً من التحرُّر الحقيقي عن أسرِ كثيرٍ من الأوهام والأفكار والخيالات والأُطروحات والاستدعاءات مِن قِبَل كثيرٍ من نظرائنا مِن البشر ومما يُلقيه إلى الأفئدةِ الجنُّ كذلك, ونتحقق بتلك الاستعاذة بربِّ الناس وملكِ الناس, وإله الناس {مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ}الناس4-6. ومن معانيها أن وسوستَه تصل إلى القلوب بواسطة الجِنة والناس. بالجِنة والناس فـ ( من ) هنا بمعنى الباء فتصل وسوستُه بواسطة الجِنة والناس إلى تلك القلوب؛ وقد أشار الحق إلى هذا الصنف وقال: {وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نِبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الإِنسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً}الأنعام112. ولخطرِ المسألة جعل اللهُ الاستعاذةَ بربوبيته وبمُلكيَّته وبألوهيته {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ}الناس1-3.

 وذلك أن سوء الاستخدام لهذا العقل يوقف الإنسانَ أن يكون إمَّعةً في نواحي وأن يكون تابعاً لغير بصيرةٍ لكثيرٍ مما يُطرحُ على الساحة, من إغراءات وأفكارٍ مختلفاتٍ واتجاهات, وتحسين الأشياء أو تقبيحِها بأي وجهٍ من الوجوه في الدنيا أو الآخرة , حتى أُصيبت مفاهيم الكثرةُ الكاثرة من أبناء المِلة العظيمة الطاهرة بلَوثَةِ التأثُّر بتحسينِ ما هو في الحقيقة وعند الخالق قبيح, فاستحسَنوا كثيراً مما هو سيئٌ وقبيح, سلوكاً أو معاملةً  أو تصرُّفاً أو مَظهراً أو فِكراً, كما أُصيبُوا بلَوثةِ الاستِتباع لِمَن لا خَلاقَ له, وخلطُوا بسببِ ذلك بين حُسنِ الاستفادةِ مِن الخلقِ بعضِهم بعض، مِن خلال السُنَّة التي جعلها اللهُ في الكون بالميزانِ الذي شَرعهُ وبيَّنهُ في رسالةِ نبيِّه صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومِن مظاهرهِ الواسعة {وَلَولا دَفْعُ اللهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ}الحج40. كما أن من حقائق أعلامهِ ووجودهِ قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُون}الفرقان20. وقال في الآية السابقة فيما يوحي بعضهم إلى بعض زخرفاً وغرورا {وَلِتَصْغَى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لاَ يُؤْمِنُونَ بِالآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُواْ مَا هُم مُّقْتَرِفُونَ }الأنعام113. ثم أقام راية التَّحرُّر على وجهِ الحقِّ والسُّمو، قال تعالى {أَفَغَيْرَ اللهِ أَبْتَغِي حَكَماً}الأنعام114.

 فصار حقائقُ الاستفادة من هذا العقل أن يُستَعمل تحت أنوارِ تعاليم الحقِّ ورسوله عليه الصلاة والسلام، على وجهٍ لا يُرادُ به لَيُّ النصوص والتَّصرُّف فيها وإبرازُها لموافقةِ رأيٍ سابق عند هذا العقل أو إدراكٍ ارتضَتهُ النفسُ فهَوَتهُ، ولكن أن يُسخَّرَ العقلُ بكل إمكانيَّته وطاقتِه ومَلَكتِه ومداركِه إلى استخراجِ واستنباتِ مقصودِ الحق ورسولِه ليكون مُتَّبعاً مُقتدياً مُهتديا، يبزر عليه مِن حُلَّة الإيمان حقيقةُ قولِ الرحمن {فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً}النساء65.

إنَّ المجالَ الفسيحَ الواسعَ في انطلاقاتِ الأمة اليومَ أفراداً وجماعاتٍ مصابٌ بشيء من هذه اللَّوثات التي أشرنا إليها، فالخُلَّص الذين يصطنعُهم الله لنفسِه هم الذين يتطهَّرون عن هذه  القاذورات واللَّوثات كلِّها، فيحقُّ لهم التحقُّق بسرِّ{وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفاً وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ }الأنعام79. {قُلْ إِنَّ صَلاَتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لاَ شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَاْ أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ}الأنعام162-163.

وأنا أول المسلمين، كما جاءت أيضاً في الآية الأخرى لأحسنِ الناس قولاً في هذه الحياة، وهو ما أشار الله إليه بقوله: {وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ}فصلت33. فهنا وأنا من المسلمين وهناك وأنا أول المسلمين إشارة إلى إعلان الهوية، الهوية في الإسلام استسلامٌ كاملٌ تام لعظمةِ الله، والعقلُ فيها طريقةُ استعمالِه إن يُتقَصَّى الوسعُ في معرفةِ مرادِ الحقِّ ورسولِه ليقوم الشأنُ على التبعيَّة المُطلقة، وعلى حسن التنفيذ كما يحب جل جلاله، إنه حسنُ الاستخدامِ لهذا العقل وليس التعطيل له، وليس الحصر ولا القصر له، بل أعجبُ ممن يظنُّ ويتوهَّم أو يصدِّق مَن يظنُّ أو من يكذِب أو يُغرِّر في أنَّ مجالي هذا الاستسلام بهذه الدرجات العالية قَصرٌ للعقل أو تعطيلٌ له أو محاصَرة!! والواقع العكس تماما؛ فأن أولئك الذين يتحدثون بمثل هذا يحصرون ويقصُرون عقولَهم في شيءٍ مما تهواه نفوسُهم وتزيِّنه لهم أو يُمليه عليهم بعضُ أرباب الاتجاهات في هذا العالم، إما من أهل الإباحية وإما من أهل الدعاوي التي لا تؤيِّدها الحقيقة، ولا لها بيِّنة من أهلِ انتحالِ التظاهر بخيريَّة الإنسان أو رحمةِ الإنسان أو خدمةِ الإنسان، ثم يكون في ذلك مَطْويٌّ سمُّ استعباد الإنسان أو الهُوِي بالإنسان من الدرجات العلى. فلنُعِر هذه الحقيقةَ من التأمل والتدبُّر والتفكير ثم المحاسبة والمناقشة لمساراتنا وانطلاقاتنا ما يليقُ بعظمةِ المُنعِم بهذه النعمة ومكانةِ هذه النعمة الرفيعة نعمةُ العقل الذي أُوتيناه.

 إنه جديرٌ بنا أن نطرقَ بابَ التخلُّص مِن هذا الفساد المنتشر الذي عمَّ في مختلف شئون الحياة، وبه أُستخدِم المسلمون أفراداً وجماعات استخداماً سيئاً من قِبل شياطينِ الإنسِ والجن، أهل الظاهر منهم ومن لا يبدو للعين المجردة.

دفع الله شرُرهم عنَّا وعن أمة محمد، فإنا مُسْتعيذون به، برُبوبيَّته للناس ومُلكِه للناس وألوهيَّته على الناس، فنعوذُ به سبحانه وتعالى مِن شرِّ تلك الإنحطاطات التي يُتوهَّم أنها ارتفاعٌ، وذلك الأَسرُ والقَصر والحَصر الذي يُتوهم أنه انفتاحٌ وانطلاقٌ وحرية، وإنَّا نقول ما علَّمَنا على لسانِ رسوله إذ علَّمه وأمرَه يقول لنقول مِن بعده فها نحن قائلون. {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ * مِن شَرِّ الْوَسْوَاسِ الْخَنَّاسِ * الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ * مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ}الناس1-6.

 اللهم حرِّر أهلَ لا إله إلا الله بنُور لا إله إلا الله، وسرِّ لا إله إلا الله، وتحقُّقهم بحقائق لا إله إلا الله عن لعبِ وضحكِ وهُزوءِ ووسوسةِ وخِداع وكذبِ إبليس وجُندِه من شياطين الإنس والجن أجمعين. يا من بيده الأمرُ كلُّه.

والحمد لله ربِّ العالمين.