بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله العلي العظيم، المنان الكريم، الواسع الحكيم، الرؤوف الرحيم.. لا إله إلا هو وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو حي لا يموت، بيده الخير، وهو على كل شيء قدير. أرسل إلينا عبده المجتبى المصطفى المختار محمد
بالهدى ودين الحق؛ ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرم على مَن فتحت لنا به باب الاتصال بأنوار المعرفة بك، والفهم عنك، والتأمل لخطابك؛ للاسترشاد به فيما ننحو إليه، ونقوم به ونعمله، ونتعامل به في حياتنا القصيرة؛ ليكون كل ذلك عدةً وذخيرة لحياة الدوام والبقاء والخلود، وصلِّ اللهم على آله الأطهار، وأصحابه الأخيار، ومن على منهجهم سار. أما بعد :
فيا أيها الأحبة من أبناء هذه الملة الحنيفية السمحاء الغراء، كلمتنا معكم في هذا الشهر الذي أقبل علينا وهو الشهر الثاني من أشهر العام الهجري السادس والعشرين بعد الأربعمائة والألف من هجرة المصطفى
؛ تدور حول فقهٍ مهمٍّ ضروري عام لهذه الأمة في نظرتها إلى أسلوب التعامل مع بعضها، وشئون المذاهب والاجتهاد فيها، ونحب في هذا المقام أن نذكر أمرين مهمين لازمين :
الأول : أنه يجب أن ينتشر بين أفراد الأمة الفقه العام لمسائل الاجتهاد الصحيح الذي فتح بابَه اللهُ ورسولُه، وقام عليه الشأن في أحوال الصحابة والتابعين وتابعيهم بإحسان على ممر القرون، وذلك كما هو معلوم وواضح ليس بأهواء ولا باجتراء ولا بادعاء، ولكنه أمانة وورع وخشية واحتياط، وواجب لأداء الأمانة في النقل والتبيين من المتأهِّل لأخذ العلم بكفائته عن أهله من محله ومعدنه. والواجب على أهل هذه الاجتهادات والآراء هو ما أوجبه الله عليهم سبحانه وتعالى ورسوله من عدم الجزم بأن المقصود هو الرأي الذي انتهى إليه نظر المجتهد ذا أو ذاك؛ ممن هم أهل للاجتهاد، وأن الحكمة الإلهية اقتضت حملَ النصوص لمعاني، والسكوت عن مسائل يمكن لأرباب التخصص النظر فيها، وحملها على النصوص الواردة بالقياس، ومراعاة الإجماع، كل هذا من الفقه الذي يجب أن ينتشر على وجه العموم في أفكار المنتمين للملة الغراء، وفي هذا يقوم التفريق الحسَن التام بين ما كان قطعي الثبوت وقطعي الدلالة من النصوص، وما كان ظني الثبوت أو ظني الدلالة، ففي ساحة ما كان قطعي الثبوت وقطعي الدلالة اجتماع أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله
، وكلامهم عن ذلك، ونشرهم لذلك، وعملهم بذلك، وإبلاغهم لذلك؛ يختلف اختلافاً كلياً عما ما كان ظني الثبوت أو ظني الدلالة.. فتلك مساحة الاجتهاد التي يكون الاجتماع فيها على حسن الخلق، وحسن الظن، ومراعاة احتمال أن يكون الصواب في الرأي الآخر والنظر الآخر، واعتقاد الخيرية للكل، فهذا هو الأمر الأول الذي نحب لفت الأنظار إليه ، ونرى أنه مما يجب إشاعته في صفوف أهل هذه الملة؛ حتى لا تبقى المسائل الفرعية أو الاجتهادات الصحيحة أو الانتماءات لأرباب المذاهب الصحيحة حواجزٌ تحول بينهم وبين تحقيق الواجبات الكبرى، والمهمات العظمى، والوحدة والأخوة والمودة والألفة فيما بينهم، والتعاون على مرضاة ربهم جل جلاله.
أما الأمر الثاني : فهو ما يجب أن يتبيَّنه كل ذي لبِّ من أتباع النبي المصطفى محمد
، وهو أنه ليس في مذهب صحيح ولا رأي صحيح ولا انتهاج سديد ما يخوِّل أصحابه الخروج عن ما هو مجمَع عليه وما كان قطعي الثبوت و قطعي الدلالة من النصوص المشرَّفة، فلا يجوز الخروج عن حدود الآداب والأخلاق في بيان المذاهب ولا في نشر الرأي وتجاوز الحد في نشر الرأي أو المذهب إلى وجود السباب أو الشتم أو الطعن على الناس ونسبة الأسواء إلى أخيار الأمة وفضلائها أو عامتها وما إلى ذلك، كل ذلك يخالف المنهج النبوي السديد الرشيد والتعاليم القرآنية مما ليس من الدين في شيء ولا يصح أن يقوم عليه مذهب صحيح ولا رأي سديد ولا منهج رشيد قط قط قط، فيجب أن ينزهوا صفوفَهم عن إيغار الصدور وعن التحاملات وعن اتخاذ الدين عرضةً ووسيلةً لتحقيق الأغراض والمقاصد وخدمة الإرادات، فيجب إدراك انه لا يباح الطعن والسب والشتم بحال من الأحوال فضلاً عن اللعن، ففي الحديث الشريف عن نبينا المصطفى : لَيْسَ المُؤْمِنُ بالطَّعَّانِ وَلا اللَّعّان وَلا الفاحِشِ وَلا البَذيء " رواه الترمذي بسند صحيح، وفي الحديث عنه
: إني لم أبعث لعانًا، وإنما بعثت رحمة " رواه مسلم. وقال تبارك وتعالى " إنما يفتري الكذبَ الذين لا يؤمنون بآيات الله" فلا يباح الكذب على الناس ولا التزوير ولا الغش ولا الخديعة ولا الغرور ولا اتخاذ المذاهب ذريعة لنيل الأغراض السياسية أو المادية أو الشخصية أو النفسية بأي وجه من الوجوه ؛ إن دينَ الله يهذِّبنا، إن دين الله يؤدبِّنا، إن دين الله ينتزع منا رعوناتِ نفوسنا، وولائها للأهواء المضلَّة والدنيا الغرارة..
فبهذين الأمرين نحب إشاعةَ الفقه العام الواجب في هذا المضمار للأمة المحمدية، وليكن ذلك أساسا في قيام وحدتهم وجمع كلمتهم وقلوبهم على كلمة سواء كما يحب الملك الأعلى ورسوله المصطفى وبالله التوفيق.. والحمد لله رب العالمين.