بسم الله الرحمن الرحيم الحمد لله، وصلى وسلَّم على المرسل بالدينِ الكامل، والهادي بالمنهج الكامل إلى ارتقاءِ الإنسان إلى كمالاتهِ الإنسانية، وعلى آله وأصحابه الواعين عنه أخبارَ ما بلَّغ عن الله مما يوصل الإنسانَ إلى الارتقاء إلى كمالاته بتصفيةِ صفاته، وتنقيته في مقاصده وإراداته، وفي سلوكه ومعاملاته..
أما بعد: فإلى إخواننا من أهل دينِ الحق والهدى نبثُّ إليهم ونرفع إلى أذهانهم ومداركِهم في كلمة هذا الشهر شهر جمادى الأولى من عام ستة وعشرين بعد الأربعمائة والألف من هجرة نبيهم سيد المرسلين حول النظرة والتعامل إلى الأحداث التي تجري على الساحة في واقع الأمة، وما يجب أن تكون عليه نظرتُهم وينبني عليه كذلك تعاملُهم، فللناس حكمٌ على هذه الأحداث المختلفة ونظرةٌ إليها، ويصف كلٌّ منهم أن النظرة الواجبةَ أو الصحيحةَ يجب أن تكون على أسسِ كذا وقواعدِ كذا أو على كيفية كذا وكذا، ونقول: إن الله تبارك وتعالى جعل لنا في تعاملنا مع الأحداث المختلفة توجيهاتٍ من عنده ومن رسوله صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله تجمع لنا أطرافَ المسائل اعتقاداً ينبني عليه النظر المتكامل يقوم عليه أساس التعامل والتفاعل مع تلك الأحداث التي لا يغيب عن الأذهان أنها جاريةٌ بتقديرٍ من الرحمن وإحاطةٍ من عِلمه جل شأنه وتعالى في علاه، وأن وظائف المؤمنين أمامها مع وجوب الرضاء على العموم من حيثيَّة كونها تقديرُ الله تعالى وظائفهم بعد ذلك الحزنُ على ما أصاب أهلَ الإسلام من ملمَّاتٍ وشدائدَ وأحزان، والفرح لما ينالهم من سرورٍ وفَرحٍ ونِعَم، وإنكار ما أنكرته الشريعة في تلك الأحداث وإقرار ما أقرَّته الشريعة. وكان في سنة نبينا أن يسأل الناسَ عما في الناس فيُحسِّن الحسنَ ويقوِّيه، ويقبِّح القبيح ويوهنه ، وكل ذلك في وضعٍ يحفظ ذلك الناظرَ والقائمَ بالوظيفة عن الانشغالِ عن الأهم ولو بمهم وعن الآكدِ ولو بمتأكِّدٍ آخر، فأسس العبودية للحق تبارك وتعالى والاشتغال بالفرائض العينية وفرائض الكفاية بعدها ثم السنن العينية وسنن الكفاية بعدها لا ينفصل عن ذلك النظر أو الأداء للوظيفة أمام الأحداث الجارية في عالم الناس وما يتجدد من أخبار هنا وهناك.
وبما أن المسألةَ واسعةٌ إذا أردنا تفصيل مقتضياتِها ومجالاتها وأنحائها فنقتصر على ما ينازل العقولَ والقلوبَ من نظرٍ فيما يحصل في واقع الأمة من أحداثٍ عامة تبرز بواسطة الوسائل الإعلامية يترتب عليها الإجحافُ بحق الكثير والاعتداء على الكثير والظلم للكثير وما إلى ذلك، فالنظر إلى كونها سائرةً بتقديرٍ من العزيز العليم يجب أن يكون راسخاً مع رسوخ إدراكِ الحكمة من العزيز العليم في إبراز هذه الأقضية وربطهِ إياها بأسبابٍ تبرز وتأتي مِن جنسِ هؤلاء المكلفين أهل الأمانة في حملِ الرسالة الإلهية العظمى على ظهر الأرض ( وما أصابكم من مصيبةٍ فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير ) ( ولنذيقنَّهم من العذاب الأدنى دون العذاب الأكبر لعلهم يرجعون ) ومع ذلك كله فتكون الوظيفة أمام هذا عملُ الممكن في المساعدة والإنقاذ وتحسين الحسن وتقبيح القبيح مع عدم اشتغالٍ عن الأساسيات ومع عدم انسيابٍ وراء مجرد العواطف والاندفاعات إلى انتحال السِّباب وكثرة الشتائم بدلاً من حُسن الدعاء والدعوة وحسن التبصير وحسن البذل والعطاء بما يقدر عليه الإنسان في الظروف التي تحيط به.
ومن هنا نعرض لقضيةٍ كثيراً ما تراود النفوسَ والأفكار ويُثار عنها ما يُثار وهي قضية من اختار من العلماء وأرباب المعارف واليقين وأهل التمكُّن في علوم الشريعة والعمل بها من السالكين ممن يوصفون بالبعد عن السياسة واختاروا لأنفسهم أن يحققوا الزهد في كل ما سوى الله، فما كان شأن الجاه والسلطة والحكم إلا نزر حقير مما زهدوا فيه وأعرضوا عنه في طلب العلي الكبير، هذا الأمر الذي اختاروه لأنفسهم قائمٌ على أساسٍ صحيحٍ من العلم والإتباع في أداءٍ للمهمة والوظيفة بأكملها، بينما تتسرب إلى كثير من الأذهان إشكالاتٌ وتشكُّكاتٌ وحكمٌ على أنه أيصح هذا أم لا يصح؟ فالأمر الذي قام عليه شأن هؤلاء من المنتمين إلى حقائق العلم والعمل أمرٌ عميق في فقهِ التوجيه الإلهي وإنزاله في الواقع المعاش، ليس فيهم من يترك النصيحةَ لحاكمٍ ولا لمحكومٍ مع قدرته عليها، وليس فيهم من يناوئ بغير بصيرةٍ من الدين، وليس فيهم مَن يوالي بغير بصيرة من الدين بأن يقرَّ منكراً مجمعاً عليه أو أن يرتضي بمخالفةٍ للشرع المصون، فما معنى اعتزالهم للسياسة إلا اعتزالهم للرغبة في التولِّي على الناس فزُهدهم في الولايات وزهدُهم في نفوذ الكلمة وفي تولِّي الحكم هو المعبَّر عنه بابتعادِهم عن السياسة، ثم زهدُهم في شغلُ الفكر والوقت بما لا يعني وما لا يفيد وما لا يثمر.. هذا الحال الذي هم عليه ما منع أحداً منهم عن قولِ كلمةِ الحقِّ وعن نشرِ الخير وعن تحسينِ الحسن وتقبيحِ القبيح وعن تشجيع الخير وعن التحذير عن الشرور بأنواعها، فالمسلك مسلك وسط بين شئونٍ وأحوالٍ تَعرِض للناس في مثل هذه النظرة، فالذي نقول: إن الأمة لا تزال متعرضةً لتنوُّعاتٍ من الأحداث التي تحدث على ساحاتها في الجانب الذي أشرنا إليه، وفي جانب أفكارٍ متنوعةٍ فيجب أن يُتدرَّع لها بدرعِ الصدق مع الله والرغبة فيما عنده والاحتقار لما حقَّر الله والعمل بأحكام الشريعة وعدم الاهتزاز والتزعزع بما يُقال ولا بما يُنشر ولا بما يحدث، والجمع بين الرضاء بقضاء الله وأداء الوظيفة التي وظَّفنا اللهُ فيها من إنكار المنكر وتعريف المعروف، وتقرير الخير ونشره والتجافي والتباعد عن الشر والتحذير منه، وأن لا نهمل أسسَ التربية التي بها يخرج الجندُ المنسوب إلى الرحمن، تُزال على أيديهم أنواعُ الباطل والشرور..
أيدنا الله وثبَّتنا وأسعدنا وبارك لنا في حُسنِ نظرِنا إلى الأمور، ورزقنا حسنَ النظر فيما يرضيه عنا، وألهمَنا الرشد في الحركات والسكنات والكلمات والإرادات، ودفع عنا وعن الأمة الآفات والعاهات، وأقام بيننا حقيقةَ التواصي بالحق والصبر مع الإيمان وعملِ الصالحات وبالله التوفيق. ( استمع إلى الكلمة )