11-2014
10

كلمة شهر محرم 1436هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله ربِّ العالمين، القويِّ القادرِ المتين، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، بيدِه الأمرُ كلُّه وإليه يرجع الأمرُ كلُّه؛ وأشهد أن سيدَنا ونبيَّنا وقرةَ أعيننا ونورَ قلوبنا محمداً عبدُه ورسوله، صاحبُ الهجرة والإسراء والمعراج والسيرة العظمى، والمسلَك الأوسعِ الأجلِّ الأرفع، اللهم صلِّ وسلِّم وبارك وكرِّم على حبيبك المشفَّع داعينا إليك، ودالِّنا عليك، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومَن سار في دربِه برحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعدُ..

فإلى إخواننا وأحبابنا من أهل المودة والمحبة في الله، أهل الإسلام والإيمان بالله ورسوله وما جاء به عن الله، نرفعُ كلمةَ هذا الشهر، شهر الله المحرم أول شهور العام السادس والثلاثين بعد الأربعمائة والألف من هجرة النبي المصطفى محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم..

السلام عليكم إخواننا وأحبابنا ورحمة الله تعالى وبركاته

وفي هذه الكلمة ونحن نستهِلُّ عاماً هجريّاً جديداً نتذكرُ شأن شرفَ النصرةِ للحق ورسوله، والتي تتمثَّلُ في هجرة ما لا يرضاه الله، والحرص على ما يحبُّهُ ويرضاه الله تعالى في علاه، القائم ذلك على أساسٍ من المحبة لهذا الإله تعظيماً، والمحبة من أجله التي لا تكون أجلى ولا أقوى في محبةِ شيءٍ من الكائنات كهي في محبةِ سيدِ الكائنات عبده محمد صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم..

وما كان من سيدنا علي بن أبي طالب في نومتِه على فراش رسول الله، وما كان مِن تهيئةِ الصِّدِّيق لأسباب الرحلة والهجرة، وما كان من سبقهِ للغار وتقطيعِه رداءه، وإلقام عقِب رجلِه في أحدِ تلك الثقوب في الغار، وما كان مِن أسماء ذات النطاقين، وما كان مِن عبدِ الله بن أبي بكر، وما كان مِن ترقُّب المهاجرين الذين قد هاجروا قبلَه،  وترقُّب الأنصار الأكرمين في المدينة المنورة متشوِّفين إلى وصوله، كلُّ ذلك كان مظهرَ نصرةٍ للحق ولرسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، تعلِّمنا أن المؤمنَ بهذا النبي يكون في الحال الذي هو فيه والظرف الذي هو فيه مؤدِّياً حق ذلك الظرف والحال بما استطاع وبما قدر عليه في شؤون نصرةِ الحق ورسوله، فيكون بذلك الأداءِ مشاركاً في حقيقة النصرة، متبوِّءاً مرتبة قربٍ من الحق جل جلاله وتعالي في علاه

وهذه في الحقيقة هي أعلى مكاسب الحياة، وأعلى غنائم العمر الذي يتعمَّرُهُ الإنسان في هذه الدنيا، ويمر به في مدة التكليف، وزمن التشريف بالمنهاج للقيام بامتثال الأوامر واجتناب النواهي.

فوجب علينا أن نتعلَّم هذا المعنى، وأن ينظر كلٌّ منا إلى حاله ووضعِه، فيؤدِّي فيه بما تُهدى إليه بصيرتُه حقَّ وواجبَ نصرةٍ لهذا المصطفى صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، والمسارعة إلى الذبِّ عنه وعن شريعته وعن دينه، وركيزةُ ذلكم تعظيمُ الحق جل جلاله، التعظيم الصِّدقي البالغ مبلغَه مِن القلب والفؤاد، والذي ينبني عليه أن لا يعظَّمَ إلا مَن عظَّمَ الله وما عظَّمَ الله.

وحينئذٍ يكون أولُ مجلى في التعظيم مِن أجل الله تعظيم أعظمِ الخلق لديه، وهو عبدُه المصطفى محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم، ومن أظهر معاني ذلك التعظيم تحقيقُ الثقةِ القويةِ بما قال، وبما جاء به عن الله جل جلاله، ليكون لنا في الحقيقة المرجع الذي إليه نرجع، والمتبوع الذي له نتَّبع، والقدوة الذي به نقتدي، ونغرس هذا المعنى في أنفسنا وأهلينا وأسرنا وأبنائنا، وبذلك نحصَّنُ مِن هذه الإستتباعات بزُخرفِ القول، وبأنواع ما يُعرَضُ مما يُراد به استجلابُ القلوب لأن تقنعَ بالتبعيَّة للأدنى وللأسفل وللأرذل وللأقل.

فيا أيها الأحباب: إقامةُ ركيزةٍ للتعظيم لله تبارك وتعالى التي تُثمِرُ التعظيم لما عظَّمَ ومَن عظَّمَ، وتُثمر تقوى القلوب التي يقول عنها الحق ( وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ الله فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ ) هي من ميادينُ نصرتِنا لله ورسوله وجهادِنا في سبيل الله جل جلاله. مما يجب أن يأخذ مساحةً مِن فكرنا ومِن أوقاتنا ومِن جُهدنا خلال هذا العام الذي بلَّغنا اللهُ إياه، بينما لم يبلغه من المؤمنين والمسلمين أعدادٌ كبيرة، وفيهم مَن هو أصدقُ منا محبةً وأسرع مبادرةً إلى تعظيم الحق ورسوله ونُصرته.

وإذ قد بلَّغنا اللهُ تعالى هذا العامَ السادس والثلاثين مِن بعد الأربعمائة والألف من هجرة النبي الأمين، فلنُقابِل هذا العامَ بحقائقِ هذه النصرة، ونبذل واسعاً مِن فكرنا ومِن مجهودنا وقدراتنا وطاقاتنا وأوقاتنا في تقويمِ هذا المعنى في أنفسِنا وأولادنا ومَن حوالينا، تعظيماً للحق ورسوله، وتحرُّراً مِن ذلك الخداع الذي يُخدعُ به أكثرُ الناس على ظهر هذه الأرض، مما يُعرضُ عليهم ليُستَتْبعوا في مخالفةٍ لمِنهاج هذا النبي صلوات ربي وسلامه عليه.

فوجب أن نأخذَ نصيبَنا مِن الهجرة بهجرةِ ما نهى الله عنه ورسوله عامة، خصوصاً فيما يتعلق بفِكرِنا وسُلوكِنا وسلوكِ أُسرنا وأهالينا، وأن نتحرَّر مِن أن تسترقَّنا الأهواءُ أو الشهواتُ أو هذه الدنايا لنحوزَ حقائقَ الحرية التي دعا إليها الحقُّ على لسان أنبيائه، وذلك التحرُّر الشريفُ النزيهُ الكريمُ مِن قيود الشهوات والأهواء، وأن نُستَتْبَعَ على غير بصيرة معبَّرٌ عنه بقول الله على لسان رسوله ( وَلا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضاً أَرْبَاباً مِنْ دُونِ الله  ) بل ( كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا الله وَلا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً ) 

فعلى أهل هذا المبدأ العظيم أن يدركوا منَّةَ الله عليهم في إيتاء هذا الفضل العظيم، وينظروا إلى مَن فقد هذه النعمة نظرَ الرثاء له، والرحمة والخشية عليه من خسران الدنيا والآخرة ( ذَٰلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ )

فيا أهل هذه النعمة: استقبلوا العامَ بوِجهةٍ صادقةٍ وهجرةٍ لما نهى اللهُ عنه ورسولُه، وخصوصاً فيما يتعلق بالأجهزة والمُستعمَل من الأدوات والمرئيات والمسموعات، ثم مِن ظنونٍ وأوهامٍ يجب أن تُهجَر، ومنها أن يُظنَّ القوة لغير الله والقدرة عند غير الله جل جلاله، وأن يُغفلَ عن أن ما ينتشرُ من سوءٍ وشرٍ وفتنةٍ وفساد داخلٍ تحت قهرِ قهّار، وحكمة مدبِّرٍ قويٍّ قادرٍ جل جلاله وتعالى في علاه، وأنه مع ذلك كله يبقى أن كلمتَه هي العليا ( وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا ) ويبقى أنّ العاقبةَ للمتقين، ويبقى أن دينَ الحق هو دينُ الفطرة، وهو الأقربُ لكل نفسٍ سلِمت مِن الخُنوع والخضوع لأهواءٍ وشهواتٍ، وخرجت عن الإنصاف.

 فليعلم أهل هذه الملة أنهم أربابُ القوة مِن حيث العطاء الإلهي أرفع وأعلى مِن غيرهم، مِن كل مَن أوتي قوة وقدرةً، وهو على انقطاع عن هذا الرب، وانفصال عن شريعته، فما أوتي المؤمنُ في الحقِّ الذي يحمله والإمكانيات وإن قلَّت وضعُفت عنده، هي في الميزان القرآني وفي ميزان الحقِّ أقوى مما أوتي الغيرُ مِن كثيرٍ من المظاهر، ومنها ما تكرَّرَ الأمرُ فيه بالقرآن (  فَلَا تُعْجِبْكَ أَمْوَالُهُمْ وَلَا أَوْلَادُهُمْ ).

فوجب علينا أن نستقبلَ هذا العامَ الهجري ببساطٍ جديدٍ بيننا وبين الرحمن الرحيم، في الثقة التامة الكاملة المطلقة  بمنهاجه وبشريعته، وبما جاء به رسولُه صلى الله عليه وسلم، وأن نعلم أن الأقربَ إلى القوي هو الأقوى دنيا وآخرة، وأن نطلبَ حقيقةَ الحرية بميزان الأنبياء والمرسلين، وأن ينكشف عنا القناعُ ونتمكّن مِن كشفِه في كذبِ وبهرجةِ الخديعة بادِّعاء الحرية في أن يُخضع للشهوات، ويُستهان بالأديان والقِيَم والمبادئ، فما تفسيرُ الحرية بهذا إلا خدائع كذبٍ وغرورٍ، يُزدادُ بها الإنسان خضوعاً وذُلّاً لمَن يحق أن لا يخضعَ ولا يذلَّ له من نفسٍ وهوى ويبعد بها عن إلهه الذي خلق ..

ولنتخذ هجرةً لأمثال ذلك، ولأمثال ظنون أن القوةَ مع غير الله فإن الغايةَ ( وَلَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذَابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِله جَمِيعًا)

فإن كانوا يرونَه بعد انكشافِ الغطاء يوم القيامة، فإنا نعتقده ونوقنُ به، ونراه واضحاً في لحظاتنا هذه، وفي جميع أعمارنا حتى نلقى اللهَ تبارك وتعالى مِن قبل انكشاف تلك الستارة عن جميع الخلق.

وبالله التوفيق والحمد لله رب العالمين.