12-2005
13

كلمة شهر ذي القعدة لعام 1426هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، هدى الذين آمنوا لما اختُلفَ فيه من الحقِّ بإذنه، والله يهدي من يشاء إلى صراطٍ مستقيم. والصلاة والسلام على سيدِ مَن أحبَّ لله وأبغضَ لله وأعطى لله ومنعَ لله، الهادي إلى سواء السبيل، المرشدِ الدليل، سيدِنا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحبه، وعلى جميع أنبياء الله ورسلِه، ومَن تبعهم بإحسانٍ إلى يوم الدين.
 أما بعد: ففي كلمتِنا في شهر ذي القعدة الحرام من عام ستة وعشرين وأربعمائة وألف من الهجرة النبوية نخاطب إخوانَنا وأحبَّتنا في الله من أهل الإسلام والإيمان والعقلاءَ من المكلَّفين على ظهرِ الأرض عن واجبِ التفكيرِ في حقيقةِ بناءِ وصفٍ متعلِّقٍ باستقرارِ الناس في عيشِهم، وبخيرِهم وسعادتهم في حياتهم الأخرى، وذلك أمرُ الاستغناء عن الشيء الذي لا منفعةَ فيه ولا حاجةَ ولا ضرورةَ إليه، ببناءِ وصفِ القناعة، فبذلك يحصل التحرُّر من قيودٍ كثيرةٍ تأخذ الناس إلى أنواعٍ من الذلة ومِن نفوذ أغراضِ مَن يوصل الشرَّ إليهم أو يوقع الفسادَ بينهم عند فقدِ القناعة ومدِّ البساط للنفسِ لتكون شديدةَ الرغبةِ في الجمع والمنع على غير بصيرةٍ وعلى غير أساسٍ قويمٍ مِن المنطقِ السليم ومِن حُسنِ النظر، فإن ذلك يؤدي إلى فتحِ ثغرات، وإلى تزعزُع لَبِناتٍ في استقرارِ الناس وفي عيشتهم العيشةَ الحميدة. وهو يهيِّج كثيراً من السخط في الباطنِ الذي يملأ صدرَ الإنسان بكثيرٍ من الهمِّ والغم من غير جدوى في حقيقةِ مصلحةٍ في السرِّ أو النجوى. فيجب أن نجعل من ثقافتِنا ومن فَهمِنا بناءَ وصفِ القناعة، وذلك باستعدادِ النفوس أن تستكفيَ بحاجاتها وضرورياتها، وأن تأخذ مِن الكماليات ما يتيسر لها من وجهِه غير سامحةٍ له أن يأخذ مكان الضرورات من الشعور ومن الحسِّ والوجدان، حتى يكون التصرفُ في الدخل المحدود الذي يدخل على الإنسان تصرُّفاً صحيحاً ينفق مالَه في أهمِّ الأشياء وأنفعِها وأولاها بالتقديم في طمأنينةٍ قلبيةٍ ورضاً باطني بما قدَّر الله تبارك وتعالى ويسَّر له. إن في ذلك كفايةً لكثيرٍ من البلايا والآفات، فإن استمرارَ البشرية في انفتاحِ أبوابِ التعلُّقات بالكماليات بلا حدود، والرغبة في كثرةِ وسائلِ الراحة على غير بصيرةٍ مع محدودية الدخل لأكثرِ الناس زجٌّ بالناس إلى تعبٍ لا آخرَ له، وإلى أن يستغلَّهم أهلُ الأموال وأهل الإمكانيات والقدرات استغلالاً سيئاً في كثيرٍ من نواحي شئونهم وحياتهم، وإلى أن يستغرقوا أوقاتَهم وأفكارَهم في كيفيةِ كسبِ ما يسدِّدون به ديونَ رغباتِهم ومُشتَهياتِهم واتساعهم الباطر في الكماليات وغيرِ الضروريات وغير ما تُتَحقَّق فيه المنفعة لهم عاجلاً أو آجلا، فيكونون في لهثٍ وراء سدادِ هذه الصرفيات والنفقات، وحينئذٍ تُحكم السيطرة على أعمارِهم وعلى أفكارهم، فلا يُنتجون لأنفسهم ولا لمن حواليهم ما له جدوى من منافع، ولا يقومون بدورٍ يمكن أن يقومَ به كثيرٌ منهم في شئونٍ تعود عليهم في خاصتهم وعلى البشرية عامة بخيراتٍ كثيرات وعطايا وفيرات.
 فيجب أن نعتني ببناءِ وصفِ القناعة ووصفِ ترشيدِ البذل والصرف للمال، وذلك مما له تعلُّقٌ بالموسم الذي هو موسم الحج، ونحن في شهرٍ حرام من أشهر الحج نستقبل بعده وقوعَ الموسم وقيامَه في ذلكم المظهر العظيم الذي هو أثرُ صدقِ المصطفى محمدٍ  الصابر المجاهد الذي كثُر ما عصبَ الحجرَ على بطنه من الجوع، والذي أحسنَ صرفَ الأموالِ الكثيرات التي وردَت عليه، وأحسنَ وضعَها في مواطنها وأماكنها ومواضعها، واكتفى في حقِّ نفسه وأسرته وأهلِ بيته باليسير وبالكفاف، وكان جوعُه وجوعُ أهل بيتِه اختيارا صلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحبه.
     فوجب أن لا نفقدَ اغتنامَ المودوعِ في الإنسانِ من طاقةٍ يمكن بها حسنُ التعامل من بابِ القناعة في كثيرٍ من شئون الحياة، ليهدأ بالُه ويهنأ عيشُه وليُحسنَ التصرفَ في القليل واليسير الذي يملكه، وليُحرَّر ويُعتَق في نفسه مِن أن يؤسَر لشأنِ الولوعِ بما لا يحقِّق له المنافع ولا يرفع له الرتبة.
 فنرجوا أن نستفيدَ من دروسِ حُسنِ التأمل في ما نستخدم به مخزونَ طاقةِ هذا الإنسان في إقامةِ الأوصاف الحِسان، وأن ننشر ذلك ليكون درءً لمفسدةِ انتشار وجهٍ من الطغيان في العالم، تُغرق به كثيرٌ من الأفراد والجماعات في الشحِّ والهلع وزيادة الطمع والإغراء بكثيرٍ من الزائدات عن قدرِ حاجةِ الإنسان ليتطاحن الناس بذلك وليهووا في أنواعٍ من المهالك تلبيةً للرغبة الجامحة فيهم التي لم تجد مَن يهذِّبها ويؤدبها، وإن الاقتصادَ نصفُ المعيشة، وإن الحق ليذكر التوسطَ في ذلك البذل والاعتدال ويقول ( وَالَّذِينَ إِذَا أَنفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَاماً ) [الفرقان: 67] ( وَلاَ تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلاَ تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَّحْسُوراً ) [الإسراء: 29].
فينبغي أن نأخذ الفائدةَ من التوجيه الإلهي والهدي النبوي ونرتقي بسلَّمِ هذه الاستقامة والاعتدال إلى رفيع درجات ( ... يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِّمَّا أُوتُوا وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ وَمَن يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ) [الحشر: 9].
ثبَّتنا الله ووفقنا، ورزقنا حسنَ النظر فيما يرضيه عنا. ونختم بقول نبيِّنا ( مَن أحبَّ لله، وأبغضَ لله، وأعطى لله، ومنعَ لله، فقد استكملَ الإيمان ) رواه أبو داود. اللهم حقِّقنا بحقائق الإيمان، واجعلنا من أهل الإحسان، وزِدنا مِن فضلك يا رحمن.
وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.. والحمد لله رب العالمين.

( استمع إلى الكلمة )