كلمة شهر رجب 1439هـ
بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيمِ
الحمدُ للهِ وليِّ التوفيقِ، وصلى الله وسلَّمَ وبارَكَ وكرَّمَ على عبدِه المجتبى المصطفى الهادي إلى أقْوَمِ طريق، سيدِنا محمدٍ وعلى آله وصحبِه خيرِ فريق، وعلى مَن أحبَّهُم واتَّبعَهم على الصدقِ والتحقِيق، وعلى آبائه وإخوانِه مِن الأنبياءِ والمرسلين، وعلى آلهم وصحبِهم أجمعين، وعلى الملائكةِ المقرَّبين، وجميعِ عبادِ اللهِ الصالحين، وعلينا معهم وفيهم، إنه أكرمُ الأكرمين وأرحمُ الراحمين.
أما بعد: فإلى إخوانِنا وأحبابِنا في الله حيثُ ما كانوا..
السلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.
وبمناسبةِ قُدومِ شهرِ رجبِ الحرام، وكلماتِ الأشهر التي يتيسرُ لنا أن نبثَّها ونَرفعَها إليكم، نقول:
إنَّ كلمتَنا لهذا الشهرِ مِن هذا العام التاسعِ والثلاثين بعدَ الأربع مائة والألف مِن هجرةِ النبيِّ المصطفى محمدٍ صلى الله عليه وآلِه وسلَّم، عن وجوبِ إتقانِ وإحكامِ ميزانِ الإصغاءِ والإستماع، والإعراضِ والتَّصامُم، وهو مِن الموازينِ الشرعيةِ الكريمةِ القرآنيةِ النبويةِ؛ وذلك بإحكامِ وإتقانِ الاصغاءِ والاستماع ِإلى خطابِ الحقِّ ورسولِه صلى الله عليه وسلم، وكلام ِأربابِ القُربِ مِن اللهِ وأهلِ التقريبِ إليه، وإعطاءِ ذلك ما يستحقُّه مِن التعظيمِ، وقوةِ الإنصاتِ، وحُسنِ الإصغاءِ، وتمامِ الاستماعِ، وكمالِ التدبُّرِ والتأمُّلِ في ذلك.
ولقد قال الحق: {وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِن مُّدَّكِرٍ } القمر:17، وقد قال جل جلاله: {.. فَبَشِّرْ عِبَادِ * الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ }الزمر18.
ولقد توالَت عندَنا الآياتُ والأحاديثُ في فضلِ هذا الإصغاءِ والاستماعِ إلى ما ينفعُ، وإلى ما هو حقٌّ، وإلى ما هو هدىً خالصٌ، قال جل جلاله: {وَإِذَا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُواْ لَهُ وَأَنصِتُواْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ }الأعراف204، وأنكرَ على الذين يأخذونَ صورةَ الاستماعِ، ثم لا يصحُّ لهم حقيقتُه فقال: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفاً ..}محمد16، وقال جل جلاله في طائفةٍ مِن الذين أبعدَهم: {..وَنَطْبَعُ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَسْمَعُونَ }الأعراف100.
وهكذا فحُسنُ الإصغاءِ والاستماعِ بتعظيمٍ ومحبةٍ وشوقٍ وتدبُّرٍ وتأمُّلٍ إلى كلامِ اللهِ ورسولِه وكلامِ الصالحينَ مِن أهلِ زمانِنا خاصَّةً، وممَّن مضى في الأزمُنِ والأعْصُرِ إلى عصرِ النُّبُوَّةِ.. أساسٌ في صلاحِ باطنِنَا ونقائهِ عنِ الشوائبِ، وفي طهارةِ قُلوبِنا، وفي قوةِ إيمانِنا ويقينِنا، وفي عِمارةِ أعمارِنا واغتِنامِها، وفي الارتقاءِ في المراقِي العاليةِ الرفِيعَةِ، كما أنَّ ذلك يتمُّ ويكمُلُ بقُوةِ وحُسنِ الإعراضِ والتَّصامُمِ عن كلِّ ما لا يفيدُ، وكلِّ ما لا ينفعُ، وكلِّ ما لا يُقرِّبُ، وكلِّ ما لا يُهذِّبُ ويؤدِّب، وكلِّ ما لا يُنوِّر.
وذلك مُتحتِّمٌ، ولقد قال جل جلاله: {وَإِذَا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ ..}القصص55، وقال: {..وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَاماً }الفرقان72، وقال سبحانه وتعالى: {..فَلاَ تَقْعُدُواْ مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِّثْلُهُمْ .. }النساء140، وقال: {وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُواْ فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ ..}الأنعام68.
وهكذا لا يزالُ التساهلُ بِفَتحِ بابِ الاستماعِ إلى كلامِ الضلالِ والسوءِ والشرِ والظُّلمة بابٌ كبيرٌ مِن أبوابِ الإضلالِ والتَّكدِيرِ والإظلامِ، فوجبَ أن نُحْكِمَ إقامةَ هذا الميزانِ في شهرِ رجب، ليكونَ عُدَّةً لنا لشعبانَ واستقبالِ رمضان، وتطهيراً للبواطنِ عنِ الأدرانِ، بأن نُعرِضَ تماماً ونتَصامَمَ نهائياً عن كلِّ ما لا يُوافقُ خطابَ الحقِّ ورسولِه، وعن كلِّ ما لا يُنَوِّرُ قلوبَنا، ويُثبِّتُ على الحقِّ أقدامَنا، مِن كلِّ ما يُعرَض بمختلفِ الوسائل؛ وسائل التواصل، وما يُعرَضُ مباشرةً، أو يَعْرِضُ بنا في طريقٍ أو في مجمعٍ حضرناه.. إلى غير ذلك.
فلنُحسِنْ أن نكون كِراماً عند المرورِ باللَّغوِ، ولنُحسِنِ التَّصامُمَ التامَّ عما يقولُ المجرمون والظالمون، وعما يقولُ المفسدُون والمضِلُّون، وعما يقولُ المستهزِئونَ بآياتِ اللهِ وكتابِه، ويتَّسعُ ذلك في كلِّ ما يَعْرِضُ لنا في الحياةِ، ويدورُ بينَنا مِن حديثٍ، ويصِلُ إلى أسماعِنا مِن أيِّ كلامٍ، فلا نسمحُ لآذانِنا وقُلوبِنا أن تنفتحَ بالسماعِ على ما لا يُطمَأنُّ إلى أنه مِن خالصِ النورِ والهدى.
حتى إذا تمَّتِ الطهارةُ في القلوبِ كان الاستماعُ موجباً لوَفرةِ الانتفاعِ وشريفِ الارتفاع، قال جل جلاله: {وَإِذَا سَمِعُواْ مَا أُنزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُواْ مِنَ الْحَقِّ .. }المائدة83، وقال تعالى: {وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ }الأنفال21.
فيكونُ التحقُّقُ برُتَبِ السماعِ والارتقاءِ في مراتِبها لمَن طَهُرَ باطِنُه، ويكونُ له الاعتلاءُ في مَراقيِها شيئاً فشيئاً، حتى تعودَ عليه عوائدُ سَماعِ الحقِّ مِن مَصدَرِه وأصلِه ومحلِّه، مِن زينِ الوجودِ، المبلِّغِ عن الملكِ المعبودِ جل جلاله، وهو الذي زُكِّيَ في مَنطقِه الكريمِ القويمِ بقولِ اللهِ العليِّ العظيم: {وَمَا يَنطِقُ عَنِ الْهَوَى * إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحَى } النجم 3، 4،.
فلنُهيِّئ لإقامةِ هذا الميزانِ أهلينا وأبناءَنا وبناتِنا، ليَحلُوَ ويطيبَ لهم كثرةُ الاستماع بشوقٍ ومحبةٍ وتعظيمٍ وإنصاتٍ إلى كلامِ اللهِ ورسولِه، وأقوالِ أهلِ حضرةِ الله، والصالحين مِن عبادِ الله، ولنَزهَدْ ولنُعرِضْ في وعَن كلِّ ما لا ينفعُنا، وكلِّ ما يخرجُ عن دربِ الاقتداءِ والاهتداءِ.
ولنُكثرِ الاستغفارَ في الشهرِ الكريم، والتوبةَ إلى الكريمِ الغفَّارِ، ولا ننسى الإلحاحَ على اللهِ بقول: { ربَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإِسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ }.
والله يقبلُنا وإياكم أجمَعين، ويثبِّتنا، ويرزقنا إتقانَ القيامِ بهذا الميزانِ في واجبِ الاستماعِ والإنصاتِ لكل ما ينفعُ ويرفعُ ويقرِّبُ، وواجبِ التَّصامُمِ والإعراضِ عن كلِّ ما يُبعِدُ ويُظلِمُ ويُضِلُّ، اللهم ثبِّتنا على ما تحبُّ، واجعَلنا في مَن تحبُّ في عافيةٍ، برحمتِك يا أرحمَ الراحمين، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.