بِسمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحِيم
الحمدُ للهِ وليِّ التوفيق، الآخِذِ بِيَدِ المُقبِلِ عليهِ لأقوم طريقٍ إليه، وصَلَّى الله وسلَّم على عبدِه المصطفى سيدِنا محمدٍ وآلِه أهلِ الصدقِ والوفاء، ومَن تبعَهم واقتفى، وعلى آبائه وإخوانِه منَ الأنبياءِ والمرسلين أشرفِ الشرفاء، وآلهِم وصحبِهم وتابعيهِم، والملائكةِ المقرَّبين وعبادِ اللهِ الصالحين..
أما بعد.. فإلى أحبابنا وإخواننا في الله: ها هو الشهرُ الثاني من أشهُرِ العامِ الثاني والأربعين بعدَ الأربع مائةِ والألف مِن هجرةِ المصطفى محمدٍ صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.
وفي مثلِ شهرِ صفرِ كان زواجُ المصطفى محمدٍ صلى الله عليهِ وسلَّمَ بأمِّ المؤمنين خديجةَ بنت خويلد، كما كان فيه زواجُ سيدِنا عليِّ بن أبي طالب بالسيِّدةِ فاطمة الزهراء، ونحن والأمةُ محتاجونَ إلى عِمارةِ الأذهانِ والمشاعرِ بالذُّكريَاتِ الحَميدةِ المرتَبطةِ بنُصرَةِ الحقِّ ورسولِه، وبسُرورِ قلبِ صاحبِ الرسالةِ صلَّى اللهُ عليه وآلِه وصحبِه وسلَّم، الذي كان هديُه أنَّه "يحبُّ الفألَ الحسَن ويكرهُ التشاؤم"، والذي أرشدَنا اللهُ على لسانِه إلى إحياءِ الأذهانِ والمشاعرِ بأخبارِ النَّبيِّين والصالحين، وقال: ( لَقَدْ كَانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لأُولِي الأَلْبَابِ ).
فلنُخَفِّفِ الأعباءَ والعَنَاءَ والظُّلُمَاتِ والحُجُبَ الواردةَ إلى الأذهانِ بسماعِ ما يَكثُر انتشارُه مِن كلامِ أهلِ الغفلةِ وكلامِ المُنقطِعينَ المحجُوبِين عن الحقِّ جَلَّ جلاله وتعالى في علاه، حتى صارَ يَشغَلُ أكثرَ حَيِّزٍ مِن بالِ وذهنِ المسلم.! وكان حقُّ المسلمِ أن يعلَمَ حُرمَةَ وعظَمَةَ وشَرَفَ ذهنِه وبالِه وقلبِه الذي هو محَلُّ نَظرِ ربِّه، فلا يَسمَحُ أن يدورَ فيه ولا أن يَستَقِرَّ فيه ولا أن يَجولَ فيه، ولا أن يرسخَ فيه إلا ما كانَ مِن أنباءِ الحقِّ ورسولِه، وما كان مُنَوِّراً، ومُزَكِّياً، ومُطَهِّرَاً، ومُرَقِّقَاً للقلبِ ومقرِّباً إلى الحقِّ جلَّ جلاله. وأن لا يسمحَ لهذهِ الأقوالِ والأفكارِ والأُطروحاتِ المُتزاحِمةِ على ذهنِه وقلبِه أن لا يسمحَ لها بالوُلوجِ إليه، وأن لا يضيِّعَ عمرَه في مُتابعةِ الكثيرِ منها، ولِيَعمُرْ ضميرَه وعقلَه وفكرَه وذهنَه وبَالَه بإرشاداتِ الحقِّ ورسولِه صلَّى الله عليه وسلم وذُكرياتِ أهلِ الصلاحِ والفلاح.
ويُتذكَّرُ مِن السيدة -التي يُذكَرُ أيضا أنَّ وفاتَها كانت في شهرِ صفر- أول ناصرةٍ للإسلامِ بعد بِعثَةِ المصطفى محمدٍ عليه الصلاة والسلام، مُسارِعة ببذلِ المالِ والروحِ والنَّفسِ، تفدي بذلك رسولَ الله صلَّى الله عليه وسلم وما جاء به عنِ الله جَلَّ جلاله وتعالى في علاه، وتبذلُ في ذلك جاهَها ومالَها وقُدراتِها وقُوَاهَا أجمع عليها رضوانُ ربِّنا جلَّ جلاله.
وما الحيِّزُ الذي يَشغَلُ بالَ رجالِنا ونسائنا بالفكرِ في مثلِ هذه القدوةِ والأسوةِ الحسنة، وما نحملُه مِن مودَّةٍ ومحبَّةٍ لها تُرضِي الحقَّ ورسولَه في امرأةٍ من خِيَارِ نساءِ الأمة، بل صحَّ في الحديث أنه صلى الله عليه وسلم قال: (خيرُ نسائها -مشيراً إلى السماء- مريمُ بنت عمران، وخيرُ نسائها -مشيراً إلى الأرض- خديجةُ بنتُ خويلد) متفق عليه، عليها رضوانُ اللهِ تباركَ وتعالى.
ثم صحَّ لنا- كما رواه الإمامُ مسلم في صحيحه وغيره- أنَّ ربَّ العالمين ربَّ العرشِ أرسلَ إليها السلام على يدِ الأمينِ جبريلَ ومنه على يدِ نبيِّنا محمدٍ صلى الله عليه وسلم أنَّ ربَّ العالمين يُقرِئُها السلامَ، وسارعَ جبريلُ ليُلقِي السلامَ عليها كما سلَّمَ عليها ربُّها وقال: أقرِئ خديجةَ السلامَ مِنَ اللهِ ومنِّي، وبشَّرها ببَيتٍ في الجنة.
ما مقدارُ ما شُغِلَ من حَيِّزٍ في أذهانِنا وأفكارِنا وبالِنا مِن ذكرِ هذه السيدةِ وتَعظيمِها؟ ومعاني نُصرَتِها المتميِّزةِ الممتدَّةِ المتنوَّعةِ لرسولِ الله صلى الله عليه وسلم وما جاءَ به عنِ الله وخدمتِها لهذه الشريعةِ الغرَّاء؟ وأنه الذي يجبُ أن نكسبَه في حياتِنا وأن نتحَصَّلَ عليه في خلالِ أعمارِنا القصيرة..
فَيَا أيُّها الأحباب: لابدَّ مِن شُغلِ الفكرِ والوقتِ والعُمرِ والوُجهَةِ بقَصَصِ هؤلاء وأخبارِهم؛ مُعَظِّمينَ مُوالِين في اللهِ تبارك وتعالى لهم، متأمِّلين متدبِّرين ما أبرزَته نيَّاتُهم الصادقةُ وطواياهم الطاهرةُ في واقعِ الحياةِ مِن بذلٍ وتضيحة، وتَحَمُّلٍ ومُجاهدةٍ وعَطاءٍ ومُصابَرةٍ، ونجعل لنا نصيباً مِن التَّشبُّهِ بهم في كُلِّ ذلك مِن خلالِ ما يدورُ بيننا ونُواجِهُه في حياتِنا وعَصرِنا.
شرحَ اللهُ الصدورَ، وربطَنا ببَدرِ البدور، وأمهاتِ المؤمنين والرعيلِ الأولِ الذين هم محلُّ القدوةِ والأسوةِ لأجيالِ الأمة جيلاً بعد جيلٍ إلى أن تقومَ الساعة ( وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ۚ ذَٰلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ ).
اجعلنَا اللهمَّ مِن أهلِ الفوزِ العظيم، وأعِنَّا وأحبابَنا على عِمارةِ المَشاعرِ والأحاسيسِ والوِجدانِ والذَّوقِ والفكرِ والذهنِ والبالِ بأخبارِ أحبابِك وأهلِ حَضرةِ اقتِرابِك، ومَن رضيتَ عنهم وجعلتَهم أبواباً لرِضوانِك، وأعِذنا مِن كُلِّ سوءٍ أحاطَ به عِلمُك، والحمدُ للهِ ربِّ العالمين.
وعلى أحبابِنا أجمعين سلامُ الله ورحمتُه وبركاته.