12-2006
04

كلمة شهر ذي القعدة لعام 1427هـ

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى المجتبى المبعوث رحمةً للعالمين، وعلى آله وصحبه ومن سار في دربه، وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وتابعيهم بإحسانٍ إلى يوم الدين، وعلى كل عبدٍ مصطفى، من أهل الصدق والوفاء.. وعلينا معهم وفيهم.

     أما بعد: فإلى إخواننا من أهل دين الحق والهدى في مشارق الأرض ومغاربها، ممن يتصفح هذا الموقع ويقرأ كلمة الشهر، نرفع إليهم في شهر ذي القعدة الحرام، وأمة الإسلام في توجُّهِهِم للاجتماع بعرفة، وأداء الشعائر المعظمة المشرفة، والنزول بساحات حرمِ الله وحرمِ رسوله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، والقيام بتكاليفَ لها اتصال بذكريات الأنبياء صلوات الله وسلامه عليهم، والماضين من أرباب الصدق المقربين..

     نحب أن تلتفت الأنظارُ والمشاعر عند المسلمين إلى مسألةٍ متعلِّقةٍ بهذا الحج أو مستنتَجةٍ من أعماله وفريضته والحِكم التي تكمُن في تلك المناسك، وهي تأكيدُ إقامة مرجعيةٍ عند المؤمن يطمئنُّ القلب للأخذ بإشارتها ورأيها، وينشرح الصدر للاستنارة بفقهِها وحكمتِها، ويوقن بمصداقيَّتها وعظيمِ أثرِ الارتباط بها حسًّا ومعنى، دنيا وآخرة؛ فإننا نجد في شريعة الله تبارك وتعالى ربطَ المؤمنين ببعضهم البعض على سبيل العموم ] وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ [. وهذا هو الرابط الأول في سلَّمٍ تكون فيه الروابط أقوى في درجة بعد درجة حتى تنتهي إلى المرجعية الكبرى وهو رسول الله صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم.

     فنجد تصريحات الحق تبارك وتعالى بتثبيت هذه الحقيقة ] فَلاَ وَرَبِّكَ لاَ يُؤْمِنُونَ حَتَّىَ يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لاَ يَجِدُواْ فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجاً مِّمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُواْ تَسْلِيماً [  ]مَّنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللّهَ وَمَن تَوَلَّى فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً[ـ  ] لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً [ـ  ]قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ [.

     ويقول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم (لا يؤمن أحدكم حتى يكون هواه تبعًا لما جئت به)[صححه النووي في الأربعين] وفي ما بين رابطة الولاء الإيماني ]إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ * وَمَن يَتَوَلَّ اللّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُواْ فَإِنَّ حِزْبَ اللّهِ هُمُ الْغَالِبُونَ [ على العموم، ورابطة تلك المرجعيةِ لرسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم القمةُ في عالم الأسوة والعالم الخلق لكل مؤمنٍ بالله يحب اللهَ ويحرص على رضاه تبارك وتعالى في علاه، فيما بين هذا وهذا جاءت الإشارات القرآنية والنبوية لتلك المعاني المباركة الجليلة في الارتباط بأهل الصلاح وأهل العلم من أهل النزاهة والصدق والإخلاص، قال تبارك وتعالى ]يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اتَّقُواْ اللّهَ وَكُونُواْ مَعَ الصَّادِقِينَ [ وحيث تلوح مخائلُ الصدق وتبرق ضياءاته على أسارير وجوه الصادقين وتُلمَح في أفعالهم وأحوالهم، يجب طلب المعيةِ بهذا الأمر الإلهي لهم، وأنى تكون إلا باعتبار محبتهم ومودتهم، وأن نظراتهم ومفاهيمهم في الأمور أزكى وأنقى وأشرف من كلِّ ما سواها بمختلف طوائف الناس بعد ذلك.

     وقال تعالى ]وَاتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنَابَ إِلَيَّ[ وقال تعالى حكايةً عمن أثنى عليهم من المؤمنين ]وَمَا لَنَا لاَ نُؤْمِنُ بِاللّهِ وَمَا جَاءنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَن يُدْخِلَنَا رَبَّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ [ ولم يزل في كل مكانٍ وفي كل زمانٍ تسود فيه نورانيةُ الدين الحق وحسنُ الصلة بالإله الخالق لا يزال ظهورُ مرجيعاتِ المجتمع في ذلك المكان وذلك الزمان إلى صلحائهم وأتقيائهم وعلمائهم، ممن بدت عليهم ملامحُ الصدق مع الخلاق والتحقق بالاستقامة على منهاجه. وبهذا كان المسار للمجتمع على أسسٍ وقواعدَ صحيحة، وكان أسلمَ من الزيغ والانحراف والتأثر بالتأثيرات الخارجية التي تأتي لمُغرضين ولحاملي كثيرٍ من السوء للمجتمع الإنساني، ومن قِبل أرباب أغراضٍ تحملُهم على أن يضروا ولا يبالوا، وأن يورطوا ولا يبالوا، وأن يهووا بالإنسان من مستوى رفيع إلى حضيضٍ وضيعٍ ولا يبالوا، وفي مظهرٍ من مظاهرهم قال الرحمن في كتابه ] وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيماً [.

     ولغياب قيام هذه المرجعية التي في نسبة البيت الحرام وما اتصل به من المشاعر إلى إبراهيم وتذكُّر زوجتِه هاجر في مثل سعيِها في طلب سقايةِ ابنها إسماعيل بن إبراهيم في ما بين الصفا والمروة، والقيام برمي الجمار ونظائر ذلك وأكَّد ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه وهو المرجع الأعلى في العالم الخلقي في المسار على المنهج الذي ارتضاه الرحمن لخلقه، فيما صح عنه وهو خارج في حجة الوداع ( أما موسى كأني أنظر إليه إذا انحدر إلى الوادي يلبي )[رواه البخاري ومسلم] ( لقد مر بهذا الوادي هود وصالح على بكرات حمر خطمها الليف أزرهم العباء وأرديتهم النمار يلبون يحجون البيت العتيق )[رواه أحمد] يذكرهم ويذكِّر بهم في مساره إلى الحج تعميقًا لأسرار تلك الموالاة والمرجعية، حتى لا تطغى دعوى معرفة مصلحة الإنسان صحيًّا أو اجتماعيًّا أو في غيرها من المجالات فيعارَض بعض ما يطرح بمناهج الأنبياء أو الصلحاء في بعض الأخلاق وبعض المسارِ في هذه الحياة، فيما يتعلق بنزوع الإنسان وميلِه إلى كلام معين أو خلق معين، ونقول: إن ضعف هذا الأساس في تلك المرجعية نقلَ الثقةَ من أهل القرب من الله تبارك وتعالى في نفوس كثير من أفراد المجتمع المسلم إلى الثقة بأقاويل أدعياء الإطلاع على المصالح الإنسانية من مختلف الهيئات والأفراد الذين في حياة الكثير منهم فشلٌ في نواحٍ كثير من شئون الحياة، وبعضها فيما يتعلق بما يدَّعونه ويدعون إليه، وعلى ضوء ذلك صار الانزلاق وراء الاشتغال بما نُشغل به كما كان الحديث عن ذلك في كلمة الشهر الماضي، ومن جراء ذلك أيضا كان تسيُّب الناس في انطلاقهم في ما يشاهدونه وما يسمعونه عبر الأجهزة وراء ما يُتيقَّن ويُتحقَّق منه الضرر في كثير من الشئون، وبذلك التسيُّب قام التسبُّب لإحداث الأضرار الكبيرة بالفكر وبالقيم والأخلاق، وتترابط الأمور في أداء بعضها إلى البعض الآخر حتى يتعمق الجرح بواسطة خللٍ أوَّليٍّ في المسار يصرُّ عليه صاحبُه فتتداعى الأمور كلٌّ إلى ما بعده، قال تعالى ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَتَّبِعُوا خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ وَمَن يَتَّبِعْ خُطُوَاتِ الشَّيْطَانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ [.

     أيها المؤمنون: نحتاج إلى حسن النظر والتأمل ومراجعة أنفسنا في تقويم هذا الميزان في الشعور القلبي بمعنى المرجعية، وإن النجاح ليقوم على إعادة اليقين فيما أوحى الله، والثقة بأهل طاعة الله والقرب من الله، ومعرفة قدرِ مَن أمرنا بالرجوع إليهم، قال تعالى ] وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُوْلِي الأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنبِطُونَهُ مِنْهُمْ[  وقال سبحانه وتعالى ] فَاسْأَلُواْ أَهْلَ الذِّكْرِ إِن كُنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ[  وقال صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ( ليس منا من لم يوقِّر كبيرَنا ويرحم صغيرَنا ويعرف لعالمنا حقه )[رواه الترمذي].

     ومن أثر ذلك الضعف الذي أشرنا إليه يحصل التخبُّط في كثير من القضايا المتعلقة بالدين، حتى في الحديث عنها أو كيفية التفكير فيها أو قيام البواعث فيها عندما يحصل مما صار كالمرجعية لنا وليس بمرجعية، وهو ما يريده أرباب اتجاهاتٍ معينةٍ على ظهر الأرض من الشئون المتعلقة بتنفيذ خططٍ لهم مردُّها إلى المس من قِيَم الناس أو إرادة زعزعة دينهم أو التمهيد لشئونٍ يريدون أن يقوموا بها في الأمة ويجهروا بها تؤدي إلى ما وراءها.

     وحسبنا هذه الإشارة في هذه القضية الخطيرة التي طالت كلمتي عنها، وذلك لمساسها بحقائق في السير إلى الرحمن جل جلاله، وفي علائقنا بالدين نفسِه.

     ألا إن الخيرية في الأمة برزت في أحسن صورها في كل زمانٍ ومكانٍ كانت الثقة فيه بصلحاء ذلك الزمان والمكان من الأتقياء الخُلَّص الذين لم يتخذوا العبادةَ ذريعةً لطلبِ غرضٍ في غير المعبود جل جلاله، ولم يتخذوا العلم ذريعةً للتكثُّر ولا للمباهات ولا للتوصُّل لغرض غيرَ مُنزِل الأحكام ومبيِّنها وهو الله سبحانه وتعالى، فانحصر مطمعُ علمائهم وعُبَّادهم في طلب رضوان الله، أولئك الذين بهم يُقتدى ويُهتدى، وأولئك الذين يجب أن نعيد حقيقةَ مرجعيَّتِنا ومرجعيةِ الأبناء والبنات والآباء والأمهات إلى الصلة بهم والأخذِ عنهم وبالله التوفيق.