بسم الله الرحمن الرحيم
مـيـزان التــأثر عنــد المـــؤمــن
الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده المصطفى الأمين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وعلى جميع الأنبياء والمرسلين وآل كلِّ منهم وأصحابهم وتابعيهم بإحسان إلى يوم الدين.
أما بعد فإلى إخواننا وأحبَّتنا من أهل لا إله إلا الله محمد رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم نبعث التهنئةَ بقدوم العام الهجري الجديد، عام ثمانية وعشرين وأربعمائة وألف من هجرة المصطفى صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم، بارك الله لنا وللأمة فيه، وكتب لنا فيه الفرج ودفع الآفات وجمع الشمل.
ونوجه إليهم الكلمة وهي عن حال المؤمن الذي يجب أن يكون عليه في شأن مقابلة المؤثرات عليه، وكيف ينبغي أن يتأثر.. فنقول: يجب على كل مؤمن أن يفقه كيفية التأثر بالأشياء ليكون على أسسٍ صحيحةٍ في مقابلةِ العوامل المؤثرة فيفسح المجالَ لعلويِّها ونورانيِّها بحسنِ إقباله واستقباله حتى تؤثر فيه التأثيرات الحسنة المثمرة للخير والحسن والجمال والسعادة في الدارين، ويكون حذِراً من المؤثرات الظلمانية والسفلية حتى لا يصيبه أثرٌ من شيء منها فيثمر فيه فساداً أو خطأً في فكرٍ أو عملٍ أو معاملة. وفي الإشارة إلى ضبط المؤمن تأثره بموازين ومقاييس قويمة قوية علوية كريمة جاءت الآيات مثل قوله تبارك وتعالى ] وَلَئِنْ أَذَقْنَا الإِنْسَانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْنَاهَا مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُوسٌ كَفُورٌ * وَلَئِنْ أَذَقْنَاهُ نَعْمَاء بَعْدَ ضَرَّاء مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئَاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ * إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُواْ وَعَمِلُواْ الصَّالِحَاتِ أُوْلَـئِكَ لَهُم مَّغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [ [هود: 9-11]. فلا يحدث منهم هذا التأثر عند مقابلة هذه الأحوال بهذا الشكل لما أثمر لهم الصبر والعمل الصالح من إقامة موازين صحيحة في مقابلة الأحوال.
ومثل قوله تعالى في الآية الأخرى ] إِنَّ الْإِنسَانَ خُلِقَ هَلُوعاً * إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ * الَّذِينَ هُمْ عَلَى صَلَاتِهِمْ دَائِمُونَ * وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ * لِّلسَّائِلِ وَالْمَحْرُومِ [ [المعارج: 19-25] إلى آخر الآيات.. فذكر الأوصاف التي بها خرجوا عن مجرد الطبيعة في التأثر وحصول الهلع والجزع ] إِذَا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً * وَإِذَا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً * إِلَّا الْمُصَلِّينَ [ وكل ذلك يبين قواماً في ضبطِ التأثر.
ولا شك أن المؤثرات العلوية هي آيات الله تعالى وبلاغ رسول صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم وسيَرُ الأنبياء والمرسلين وصالح عباد الله تبارك وتعالى من الصديقين أرباب الإخلاص واليقين والزهد والتقوى.. فهذه عوامل تأثير نورانية علوية ينبغي أن يعدَّ المؤمنُ نفسَه للتأثر بها، فيحسنُ تدبُّرَها وتكرارَها، ويقيم ذلك الميزان الذي تثمره شريعة الله في العامل بها والآخذ بها بقوة وحزم وصدق ويقين، وحينئذٍ يكون على وعيٍ في اتخاذ القرار عند سماع الأخبار ونقل الحوادث، وفي ضمن هذا جاءت الآية الكريمة ] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن جَاءكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَن تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهَالَةٍ.. [ [الحجرات: 6] فلا تنساقوا مع تأثير النبأ حينما يصدر عن فاسقٍ يقتضي هذا النبأ انزعاجاً لكم أو اتخاذ قرار في مقابلة غيركم وكيفية معاملته.
وإذا تأملنا وجدنا أن كثيراً من النصوص تحوم حول هذا الأمر المهم وهو حماية المؤمن من الانسياق مع المؤثرات والتفاعل معها بغير بيِّنة ولا بصيرة وتقيم له ميزاناً في كيفية التعامل مع الحوادث وما يطرأ، وهو فقهٌ عظيمٌ دلَّت عليه نصوص الآيات والأحاديث الكريمات، يحتاج أن تنتبه له الأمة وأن نبني عليه شئونَ تعاملاتنا وانطلاقاتنا في رؤيتنا ونظرنا إلى الأشياء ومقابلتنا لمختلف الأنباء والأخبار والطوائف والجهات، وبهذا يضعف تأثير جند إبليس في الاستفزاز، وفي إثارة البغضاء والشحناء، وفي إيصال الناس إلى إهدار الطاقات والإمكانيات في أذى بعضهم البعض والكيد لبعضهم البعض والنيل من بعضهم البعض حتى أبناء الملة الواحدة، وأحياناً حتى بين أبناء المذهب الواحد والطائفة الواحدة بشتى من الدوافع تكون تأثيراتها عند غياب الوعي وغياب الميزان الذي يكون به الإنسان على تنبُّه فيما يفتح له مجالَ التأثير عليه، وفيما يحذر منه وينتبه في شأنه.
وفي ذكر هذه الحقيقة يجيء قول الله تبارك وتعالى مُثنياً على ضابطِ تأثرهم من أولئك المؤمنين الصادقين الأوفياء من صحابة رسول الله صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم بقوله ]الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُواْ لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ.. [ [آل عمران: 173] فما كان تأثير ذلك انزعاجٌ ولا إثارةُ حمية أو عصبية ولا تغيير ترتيبٍ قائمٍ على مسلك قويم ونظرٍ فاحص صحيح، قال تعالى ]فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُواْ حَسْبُنَا اللّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ [ [آل عمران: 173] فكانت النتيجة بعد ذلك ]فَانقَلَبُواْ بِنِعْمَةٍ مِّنَ اللّهِ وَفَضْلٍ لَّمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّهِ وَاللّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ[ [آل عمران: 174] وقال تبارك وتعالى ]وَلَا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لَا يُوقِنُونَ[ [الروم: 60] وقال جل جلاله ] وَلاَ يَحْزُنكَ الَّذِينَ يُسَارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَن يَضُرُّواْ اللّهَ شَيْئاً [ [آل عمران: 176]وقال] فَلَا يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ مَا يُسِرُّونَ وَمَا يُعْلِنُونَ[[يس: 76].
ولكل ذلك تعليمُ إقامة الميزان الصحيح للتأثر وأن لا يكون الإنسان عرضةً لأن تجري به الريح حيث جرت، وتميل حيث مالت، بل ينبغي أن يكون على قدمٍ ثابتٍ وعلى فكرٍ عميقٍ وعلى قرارٍ يُتخذ من منطلق الوعي وحسن النظر وثوابت التشريع وفقهِ سنة الله في الحياة والكون.
ونحن إلى أخذِ هذا الفقه وتربية أنفسنا وأبنائنا وبناتنا وجيراننا وجماعاتنا عليه أحوجُ ما نكون، في وقت تهب فيه عواصف الإثارات والفتنة والضغائن والجدال العقيم والاستفزاز والإسراع إلى اتخاذ قرارات العنف وسوء المواجهة وشدة المقابلة واستهداف الأرواح والأنفس ونشر التنازع الموجب للفشل وذهاب النصر المنهي عنه بقول الله ]وَلاَ تَنَازَعُواْ فَتَفْشَلُواْ وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُواْ إِنَّ اللّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ[ [الأنفال: 46].
فيجب أن نعود إلى سيرة نبينا المصطفى وسير الصالحين من بعده لنكون على بصيرةٍ من أمرنا، ولقد قالوا مرددين ما جاء عن ذي القرنين أو سواه من الحكماء أن خصماً جاء إلى عنده حاملاً عينَه قد فُقئت، فما استفزَّه الموقف ولا أصدر الحكم، ولكن قال أين خصمُك نصبر حتى يأتي ونسمع منه فلعلَّك فقأت عينيه معاً، فكان الأمر كذلك.
كل ذلك من أخذِ الأمور بالتثبت وإقامة ميزان التأثر وعدم السماح للعوامل الهابطة والساقطة والظلمانية والسفلية بالتأثير، وعدم فسح المجال لها في البال والضمير ليكون المؤمن على بصيرة وحذر] يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ خُذُواْ حِذْرَكُمْ فَانفِرُواْ ثُبَاتٍ أَوِ انفِرُواْ جَمِيعاً[[النساء: 71].
وقد يكون مع المستعجل الزللُ
فالله يعيننا على إقامة هذه الضوابط وعلى فقه هذه الحقائق وعلى أخذ تلك الموازين، ويصلح شأننا وشؤون المسلمين، ويدفع عنا بلاء التأثُّر بمنشورات أعداء الله بمختلف الوسائل والأساليب والصور التي أخذت كثيراً من أوقات المسلمين ومن أفكارهم، بل ومن أموالهم ومن أعمارهم ومن طاقاتهم ومن جهودهم بل ومن ميزاتهم وخصوصياتهم في طاقاتِ وعيٍ أو ذكاءٍ أو قدرةٍ على اختراع إلى غير ذلك من القوى التي لو حوفظ عليها من ذلك التأثر بالسفليات لأنتجت وأثمرت وأبرزت في الأمة منافع ومصالح كبيرات عظيمات دينية ودنيوية.
وبالله التوفيق وعليه التكلان وبه الاستعانة ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم. وصلى الله على سيدنا محمد وآله وصحبه وسلم.
رابط الإستماع