12-2007
03

كلمة شهر ذي القعدة الحرام

بسم الله الرحمن الرحيم

     الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على عبده وحبيبه المصطفى الأمين، وعلى آله وصحبه والتابعين لهم بإحسان إلى يوم الدين..

     أما بعد: فإلى إخواننا من أهل الملة الغراء في كل مكان عليكم سلام الله ورحمته وبركاته؛ وقد استقبلنا شهرَ ذي القعدة الحرام حيث توجُّهات هذه الأمة لإقامةِ شعائر ركنٍ من أركان الإسلام لفريضة الحج المعظمة، فلنأخذ ونحن في هذه الأحوال والظروف الواقعة في الأمة المحمدية من سرِّ هذا الاجتماع فريضةً كبرى فرضَها الله على الفرد والجماعة في الأمة، حصل من التقصير فيها والإغفال لها وعدم القيام بشأنها كثير وكثير وكثير من الأنكاد والبلايا والشدائد، ألا إنها فريضة الاجتماع والوحدة والتعاون والتكاتف والتخالُل والتكامل والتكافل، التي تترجمها فريضةُ الحج في اجتماعِ الناس في صعيدٍ واحد، على شعارٍ واحد، متوجهين إلى الربِّ الواحد، مستقبلين لبيتٍ واحد، مُقتدين بإمامٍ واحد هو أمجد الأماجد سيد كل راكعٍ وساجد  ؛ وفي هذا الأمر يجب التنبه إلى مهمات الفرد المسلم في شأن هذه الوحدة التي قال عنها الله في كتابه {وَإِنَّ هَذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً وَاحِدَةً وَأَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ }المؤمنون52. ولنعلم أنواع الخلل الذي حصل في القيام بواجب هذه الوحدة فرادى وجماعاتٍ في الأمة المحمدية، وقد بيَّنت الشريعة المطهرة خطرَ الإخلالِ بالقيام بواجب هذا الإتحاد على مستوى الأفراد والجماعات، حتى أخبر النبي  عن ردِّ أعمال الإنسان وأنواع عباداته إذا كان يحمل في قلبه الشحناءَ على فردٍ واحدٍ من المسلمين، فكيف إذا جاوز ذلك بإطلاق اللسان في القول في الحطِّ منه والنيل مِن كرامته وعِرضه، وفي هذا جاء ((سباب المسلم فسوق وقتاله كفر)) وكثُرت العوامل التي تؤدي إلى حُسنِ أداء هذا الدور وتقوِّي معنى الوحدة بين الأمة، ليكون للعقلاء وأولي الألباب اعتبارٌ بهذا التشريع الإلهي، فيُحسنون النظرَ فيما يصدر منهم من أقوال وأفعال، ولقد قال سبحانه وتعالى في كتابه {وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ...}الإسراء53. إشارةٌ إلى أثر القول في إثارة الفتنة والشرور والتنازع والتخاصم بين الناس، وقال تبارك وتعالى {وَقُولُواْ لِلنَّاسِ حُسْناً...}البقرة83. وقال سبحانه وتعالى {وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ * وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ}فصلت34، 35.

     جديرٌ بك أيها المؤمن أن تتأمل أن جميع ما ورد في ذم الكبر والعجب والغرور يتصل بما نحن بصدده من إقامة الوحدة في الأمة، ثم جميع ما جاء في النهي عن القول بغير علم وعن التسرُّع في إلقاء الكلام، والنهي عن الحكم على الشيء بغير علم، والنهي عن أن يحدث المرء بكل ما سمع كل ذلك يبني فينا هذا المعنى من الوحدة، ثم كل ما ورد في ذم الهجر من الكلام والفحش من القول، وكل ما ورد في ذم الغيبة والنميمة والكذب يمتُّ إلى ما نحن فيه بصلة، وكذلك كل ما جاء في فضل الإحسان والبرِّ والصلة والصدقة والزيارة والأخوة والمحبة يمتُّ إلى ما نحن فيه بصلة، فكلها عوامل تجتمع على تقوية معنى الوحدة في الأمة، وكل ما جاء من تحريم هجر المسلم ومقاطعته وقطيعة الرحم وعقوق الوالدين يتصل بما نتحدث عنه، وكل ما جاء في فضل الصدقة والزكاة والعطية والهدية والإيثار يتصل بما نحن بصدده، وأبوابٌ أخر في هذه الشريعة الغراء كلها تتصل بما نحن فيه كمثل فضل المصافحة، وكمثل فريضة الحج التي تهدف إلى ما نتحدث عنه وكمثل فضيلة الجماعة في الصلوات المفروضات والتي تشرع فيها الجماعة، إلى غير ذلك.. كلها أبواب تجتمع على تقوية معنى هذه الأخوة، ومن هنا نعلم التساهل الذي يقع فيه الناس وما تغلب به العصبية والهوى على النفوس والقلوب فيُستهان بشأن الحط من قدر الآخر والتقوُّل عليه ومحاولة صرفِ الناس عن ذا وذاك لغرض نفسيٍّ أو حزبيٍّ أو سياسيٍّ أو مصلحيٍّ دنيوي وذلك لانتشاره بين الأفراد والجماعات عظمت مصائبه وآفاته وخطر نتائجه في واقع الأمة. فيا ما أحسن أن نأخذ درساً حسناً من تأملنا ونحن نستقبل هذه الأشهر الحرم لنتساعد على لمِّ الشعث وأن يلتئِم هذا الجرح الذي ينزف بالدم في جسد هذه الأمة، ونشاهد من آثاره ما هو واقعٌ في الساحة اليوم من تناول أجسادهم الحسية بعد جرح ذلك الجسد في المعنى..

     اللهم فرِّج كروبنا والمسلمين، وأيقظنا وأهل هذه الملة لنتعاون على ما تَبرأ به هذه الكلوم والجراحات وما يلتمُّ به الشمل ويجتمع به بعد الفرقة والشتات حتى نحوز ما امتننتَ به علينا من نعمةِ {وَاذْكُرُواْ نِعْمَتَ اللّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَاناً...}آل عمران103. اللهم وحرِّك الضمائر والعزائم ليحاسب الفرد منا والأسرة والمجتمع والفئات والهيئات والأحزاب والدول أنفسهم عما يصدر من أقوالهم وأفعالهم مما يترتب على كل فرد من ذلك لمٌّ وخيرٌ وجمعٌ للشمل أو عكس ذلك حتى يحذروا ما يقعون فيه في ورطات الإفساد في ذات البين وإثارة البغضاء والشحناء التي عَظُم شأن خطرها في النصوص الواردة عنك وعن رسولك.. اللهم تداركنا والأمة وأغثنا بغياثٍ عاجل برحمتك والحمد لله رب العالمين.