بسم الله الرحمن الرحيم
في زيارة تاريخية مباركة، ربطت بين مدرستين عظيمتين من مدارس المسلمين كان لهما عظيم الأثر في خدمة العلم الشريف والدعوة الإسلامية، وصل إلى مدينة تريم عصر يوم السبت 12 محرم 1432هـ الموافق 18 ديسمبر 2010م فضيلة العلامة الشيخ الدكتور محمد سعيد رمضان البوطي رئيس قسم العقائد والأديان بجامعة دمشق، وقد استقبله في مطار سيئون عدد من العلماء والأعيان وفي مقدمتهم العلامة الحبيب أبوبكر بن علي المشهور والحبيب علي المشهور بن محمد والحبيب عمر بن محمد بن حفيظ. إضافة إلى الأخ عمير مبارك عمير وكيل محافظة حضرموت، وذلك للمشاركة في فعاليات المؤتمر الدولي بعنوان:
( الوسطية الشرعية والاعتدال الواعي.. مدرسة حضرموت أنموذجاً )
كما وصل معه فضيلة المفكر الإسلامي الدكتور عبد الحكيم مراد المدرس بجامعة كامبريدج في المملكة المتحدة، والدكتور فؤاد النهدي مستشار مجلس وزراء بريطانيا للشئون الإسلامية.
وفور وصول الوفد الكريم إلى مدينة تريم، قصد دار المصطفى حيث استقبلهم طلاب الدار بالأناشيد المعبرة عن ابتهاجهم بقدوم الضيف الكريم والعلَم والجليل من أعلام ديننا الحنيف في هذا العصر.
وألقى فضيلة العلامة المفتي الحبيب علي المشهور بن محمد بن حفيظ كلمةً رحب فيها بالشيخ البوطي ومن حضر معه، مذكِّرا بأهمية التواصل بين أهل العلم وما ينتج عن تزاورهم من نتائج طيبة، يظهر أثرها في توحيد الجهود في خدمة العلم الشريف ودعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم، متفائلا باجتماع بركة علماء الشام مع علماء اليمن راجيا المولى الكريم أن تثمر ثمارا طيبة.
وقبل صلاة العشاء تفقَّد الشيخ البوطي حفظه الله حلقات التعليم بالدار، رافقه فيها الحبيب عمر بن حفيظ عميد الدار، والحبيب علي زين العابدين الجفري مؤسس مؤسسة طابة والمحاضر بدار المصطفى، وأبدى الشيخ الجليل إعجابه برؤية الحلقات وطلبة العلم وهم ينهلون من مشائخهم بأسانيد متصلة إلى النبي محمد صلى الله عليه وسلم. ثم زار مكتبة الدار التي تضم العديد من الكتب والمراجع العلمية. وقام بجولة في عدد من الأقسام وتعرف على مجمل نشاط دار المصطفى وخدماته للعلم الشريف ودعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم.
وبعد صلاة العشاء اجتمع المدرسون والطلاب ليستفيدوا من علوم وتربية الشيخ الفاضل، وألقى العلامة الحبيب عمر بن حفيظ كلمة رحب في مستهلها بفضيلة العالم الكبير، وشكر له زيارته لليمن، مبيِّنا أن الاجتماع على همِّ الأمة من مصدر الإيمان واليقين والإرث الذي تسلسل على مدى العصور.
وقال: نحن في إحدى مدارس هذه البلدة التي مدرستها في فهم الوحي قامت أسسُه من القرن الأول ثم ثبتَت وبُني عليها من عهد مجيء المهاجر إلى الله أحمد بن عيسى، وانتشرت معالمُها في كثير من أقطار الأرض، واختصت البلدة بكثير من العلماء والصلحاء قرن بعد قرن، وكانت العلائق بين أهل تلك المسالك العلوية وهم في مختلق الأقطار قائمةٌ على معنًى شريف عزيز رفيع، وكانوا يتواصلون فيما بينهم بواسطة الرحلات والمراسلات والاستجازات على مدى القرون، وكان مما برز في ذلك روابط بين أئمة وعلماء من اليمن والشام، سواء بلقاءاتهم، برحلة من رحل منهم، أو في موسم الحج أو بالمراسلات.
وتحدث حفظه الله عن مسلك أهل السنة وآثاره فقال: ولم يزل المشرب الصافي في فهم الكتاب والسنة الذي هو مسلك السواد الأعظم من الأمة يجمع القلوبَ على الله، وينقِّي النفوس عن شوائبها وأدرانها، لتحمل حق الأمانة في جمع كلمة الأمة، وجمع قلوبها على ما يرضي الله سبحانه وتعالى، والخروج من بلايا وشرور خدمةِ النفوس بما يُخالف شريعة الحق، وبما يكون سببا للنَّيل من حقائق الإسلام أو تمكين الأعداء منها.
ومن فضلِ الله أن قامت هذه المدارس من ذلك المشارب الصافي الجامع لأهل السنة والمشارق، وأكرم الله بوفادة هذا الوفد المبارك الذي يتكون من الشيخ محمد سعيد رمضان البوطي، وكذلك الدكتور عبد الحكيم مراد وفؤاد النهدي وهما من أهل العلم والمحبة والاهتمام بالدعوة إلى الله. كما رحب حفظه الله بممثل مفتي مصر الشيخ علي جمعة لحضور المؤتمر.
ثم خاطب المدرسين والطلاب الذي يحملون هذه الأمانة العظيمة ليستثمروا مجيء هؤلاء العلماء النافعين الذين أقبلوا بكليَّاتهم على معاني الإرث النبوي وأداء الأمانة في تبليغ الرسالة ونشر العلم الشريف، وأكد بأن الجميع في حاجة لنسمع من التوجيه والإرشاد ما يكون زاداً نقيم به بين مواطن العلم المقاصد والأسس العظيمة الموروثة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
(( استمع إلى الكلمة كاملة ))
ثم ألقى الشيخ محمد سعيد البوطي حفظه الله كلمة جامعة، غذَّى فيها الأرواح، وشحذ الهمم، وقوَّى العزائم لدى طلاب العلم للتحصيل والاستفادة، ووضع منهجية يقرُب لهم بها الفتح من الله بإذن الله تعالى.
وقد أبدى إعجابه بما رأى من منهج مُتكامِلٍ ظلَّ ينشُده في المجتمعات المسلمة قال: فوجدته الليلةَ متكاملا في هذا البناء المادي الذي يعبر عن حضارة إنسانية إسلامية متكاملة. وهذا البناء الذي يحتضن بناءً معنويًّا هو أيضا متكاملٌ فيما يتعلق بالمنهج والغاية والإدارة. وهنأ القائمين على هذه المؤسسة التعليمية، وبارك فيما يراه من نتائج طيبة سيقطف ثمارُها العالم كله.
ثم تحدث عن أهمية طلب العلم فقال: إذا بحثنا عن معاني الجهاد لا أجد فيما أحسب جهاداً أبرَّ عند الله من جهاد العلم، جهاد تمزيق غبَش الجهالة والشبهات المختلفة التي تحُول بين الإنسان ومعرفة ربه، بل تحول بين الإنسان ومعرفة ذاته.
وإن أردنا أن نكافح الإلحاد في مظانِّه ومصادره التي تأتي فسبيلُ ذلك إنما هو العلم، وإن أردنا أن نكافح مظاهر التفرُّق لاسيما التي تتنامى باسم الإسلام ونحيل آمال المسلمين وآلامَهم إلى وحدة متظافرة فسبيل ذلك العلم. وإذا أردنا أن نحيي بين جوانحنا معاني العبودية لله فغذاءُ ذلك هو العلم. وهذا ما تنهلونه هنا.
واستطرد حفظه الله بذكر كلمةً قالها له والده وعمرُه لم يتجاوز ست عشرة سنة، حفرت أخدوداً في نفسه ولا يزال يتذكرها، فقال: أخذ والدي بيدي إلى معهد بدائي الانطلاق لدراسة العلم الشرعي، وقال لي: لو عرفتُ أن الطريق إلى الله يَكمنُ في كسحِ القمامة لجعلتُ منك زبَّالًا، ولكني نظرت فعلمتُ أن الطريق إلى الله إنما يكمنُ في العلم، في تعلُّم دينه سبحانه وتعالى.
وقال: هذه الكلمات أثَّرت في نفسي تأثيرًا كبيرًا، وعرفت منذ ذلك اليوم أن كلَّ الطرق إلى الله مغلقة إلا طريق العلم بدين الله، والعقائد الإيمانية، طريق العلم بسيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم ودلائل نبوته، طريق العلم بأحكام الشريعة.
ثم تساءل حفظه الله مبينا معنى التصوف فقال: لعلنا نتساءل عن التصوف ومكانته في الشريعة؟
الجواب: إذا قلنا عن ضرورة السير إلى الله على طريق العلم فالجواب عن هذا السؤال مطوي في هذا الكلام. فنحن لا ندرس الفقه لنماري به المتسابقين والمتنافسين والسفهاء، وإذا درسنا العقيدة لا نبتغي من ذلك أن نخاصم الجُهال وأصحاب الأفكار الشاردة عن نهج الإسلام.
وإذا أردنا أن ندرس التفسير لا نبتغي من ذلك أن نغذي ألسنتَنا بمزيد من الأدلة إذا خطبنا، وإنما نبتغي بذلك أن نحقق عبوديتنا لله. وهذا هو التصوف.
ليس التصوف علماً مستقلا يناكبُ العلوم الأخرى كالفقه والتفسير والحديث، إنما هو سلوك وحال تهيمن على كيان الإنسان، فيجعله دائما مراقبًا لله، ذاكرا لله، مسيطرًا على نفسه بدلا من أن تكون نفسه مسيطرةً عليه. ثم قال سمِّه بما شئت.
ورحم الله من قال: كان التصوف في صدر الإسلام مسمًّى لا اسم له. وأما اليوم فقد أصبح اسماً لا مُسمًى له. ونحن مهمتُنا هي أن نعيد التصوف كما كان عليه في صدر الإسلام.
ووجَّه الطلاب بقوله: فأنتم لا تعكفون على دراسة الإسلام من أجل غايةٍ دنيويةٍ، من أجل مناصب أو أهداف مالية، من أجل أن تماروا السفهاء.. وإنما تعكفُون على دراسة ذلك من أجل أن تتحققوا بمعاني عبوديتكم لله، فتجعلوا من هذا العلم غذاءً لعبوديتكم لله.
في هذه الحالة يجمع الإنسان بين أمرين اثنين:
أولا: التزكية القلبية وهذه الحال التي توقظ مشاعر العبودية لله بين الجوانح.
الثاني: محاربة البدع، وتكون بالالتزام بالسنة بما كان عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم.
هناك من يتصور أن مقاومة البدعة هو الشرود من منهج التصوف.
وأجابهم بقوله: عندما أعود إلى كتاب الرسالة القشيرية وهي من خيرُ ما يعبِّر عن حقيقة التزكية والحال التي نسميها التصوف، خير ما يبين لنا ارتباط هذا النهج بكتاب الله وسنة رسوله، ما رأيته إلا ويحذر من البدع في كل فصل من الكتاب، في كل مناسبة يتحدث فيها عن رجال هذا النهج، عن هؤلاء الأقوام الذين هم في الواقع نسيج الحياة الإسلامية الحقيقة، يذكر حالهم ومظاهر قربِهم وابتعادهم عن الدنيا، بقدر ما يذكر محاربتهم للبدع، وابتعادهم عنها.
فنحن مهمتنا أن نبين هذا التكامل بين التزكية وبين الابتعاد عن البدع والتحذير منها، وبذلك نُسكِت أفواه من يتهمونا بالولوغ في البدع، ولا نريد بذلك أن نماريهم، بل ندعو الله لهم بالاستقامة، والسير على الطريق المستقيم.
ثم قال حفظه الله متفائلا بما رأى: تنتابني حالة تشبه اليأس، لكنني أقاومُها بتصورات وآمال ودعاء، ولكن ما رأيته اليوم جعلني أمزِّق أخيلةَ اليأس، لا على أساس الأمل ولا أساس التصور بأن الله سيُكرم هذه الأمة بدعاء الصالحين فقط، بل بهذا الشيء الذي رأيت.. هذا العمل الجامع، هذا العمل المتكامل.. لا بد أن تكون له ثماره.
وأضاف: نحن نسعى ولا نملك أن نخلق نتائجَ أعمالنا، ونطرق الأبواب ولسنا نحن الذين نفتحها، وعملُنا وعملُكم إنما هو طرقٌ لأبواب الاستجابة من الله عز وجل أن يصلح الأحوال وأن يعيد الإسلام إلى شأوِه الباسق.
هذا العمل هو أفضل طريقةٍ لطرق أبواب الله سبحانه وتعالى، ولسوف يأتي الجواب، ولسوف تكون كلمة ( لبيك ) مترجمةً بفتح هذه الأبواب،، بالتوفيق، ولسوف بإذن الله تشرق ينابيع الإسلام في هذا المحيط الكبير من حولكم من هذا الينبوع، من هذا المنطلق. وأرجو أن تسري إشراقة هذا العمل إلى ربوع العالم الإسلامي قاطبة.
واختتم بتوجيه عظيم لطلاب العلم فقال: ينبغي لطالب العلم أن يستعين على التوفيق الذي هو بصددِه ليكسبَ الفتحَ الربانيَّ بكثيرٍ من الالتجاء إلى الله، بكثيرٍ من العبادة والقيام بالأسحار، طالب العلم ينبغي أن يتوِّج علمه بما ذكرت لكم. كثيرا ما يشعر بلذَّة وهو يسبرُ غورَ المسائل العلمية، فقد تحول بينه وبين تذكُّر عبوديَّته لله.
وضرب مثلا بوالده الذي كان يتنافس مع أقرانه في طلب العلم، فتأتي ليلة الجمعة فيرتاحون من الدراسة، أما والده فينتهز فرصة الليلة للإقبال على الله، ليكثر من ذكر الله وتلاوة كتاب الله عز وجل.
وحذر الطلاب قائلا: آفةُ طالب العلم أن تصرفه لذةُ العلم عن تغذيةِ عبوديته لله سبحانه وتعالى، فينبغي أن يكون له حظٌّ بتغذية عبوديتِه لله تعالى بالدعاء والتضرُّع والأوراد والأذكار. عندئذ يأتي الفتح والتوفيق.
ودعا الله أن يتوِّج هذه المؤسسة بمزيد من التوفيق وأن يكلأ من فيها بعين عنايته وأن يثيبهم جميعا على هذا الجهاد المبرور.
(( استمع إلى الكلمة كاملة ))
كما ضمَّه حفظه الله مجلسٌ مبارك مع عدد من أعضاء مجلس الإفتاء الشرعي بمدينة تريم، تداولوا خلاله العديد من المسائل الشائكة والمعاصرة ليتوصلوا إلى الرؤية الشرعية الصحيحة لها. كما تحدث في نفس المجلس إلى مدرسي دار المصطفى وأتحفهم بعدد من النصائح والتوجيهات، مُختِتما المجلس بالدعاء والتضرع والابتهال إلى الله تبارك وتعالى.